من هو بابلو نيرودا ؟

paplo-niroda

د. ميسون البياتي

في نهاية الستينات من القرن الماضي سألوا الكاتب الأرجنتيني ( خورخي لويس بورخيس ) عن رأيه في بابلو نيرودا , رد بورخيس : أعتقد أنه شاعر ممتاز , ممتاز جداً , لكني لست معجباً به كرجل وأعتقد أنه رجل لئيم جداً فهو لم يتحدث عن حاكم الأرجنتين بيرون لأنه يخاف المخاطره بوضعه الشخصي , مع ملاحظة أني شاعر أرجنتيني ونيرودا شاعر من تشيللي , وهو الى جانب الشيوعيين وانا ضدهم , ولهذا أشعر أنه تصرف بحكمه حين قرر عدم المجيء اليوم متحاشياً لقاءاً كان سيكون ثقيلاً على كلينا

ولد الشاعر ( نفتالي ريكاردو رايس باسوالتو ) في عام 1904 وتوفي عام 1973 إسم شهرته ( بابلو نيرودا ) وقد إتخذ هذا الإسم فيما بعد إسماً رسمياً له , وهو دبلوماسي من تشيللي وسياسي , سمى نفسه بابلو نيرودا حين كان في 13 من العمر ليتهرب من منع والده له كتابة الشعر عام 1917 مقتبسا ً الإسم من إسم الشاعر التشيكي ( جان نيرودا ) بعد سنوات من بداية نفتالي كتابة الشعر ومعاناته متابعة والده له ومعاقبته على موضوعاته الشعريه

حصل بابلو نيرودا على لقب شاعر منذ كان في العاشرة من العمر وتوج إبداعه الشعري بالحصول على جائزة نوبل في الأدب عام 1971 وكان وقتها في 55 من العمر . كتب الشعر بأساليب مختلفه , الشعر السوريالي , شعر الملاحم والتاريخ , وضمّن الشعر حتى في بياناته االسياسيه , كما كتب النثر والمذكرات , قصائد العشق والغرام كما في مجموعته الشعريه المسماة ( 20 أغنيه وقصيده من اليأس ) التي نشرها عام 1924 وكان يفضل الكتابة مستعملاً الحبر الأخضر معتبراً ذلك رمزه الشخصي للرغبة والأمل

الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز قال مرة عن نيرودا إنه أعظم شاعر أنجبه القرن العشرين في جميع لغات العالم , أما الناقد هارولد بلوم فقد اعتبر بابلو نيرودا واحداً من أعظم 26 شاعر يشكلون حلقة المركز في الشعر الغربي ضمن كتابه : مؤلفون غربيون .

في 14 تموز عام 1945 ألقى بابلو نيرودا قصيدة على شرف القائد الثوري الشيوعي ( لويس كارلوس بريستيس ) في ملعب باكيمبو في سان باولو/ البرازيل الى جمهور يقدر عدده ب 100 ألف متفرج

تقلد بابلو نيرودا في حياته عدة مناصب دبلوماسيه بإعتباره نائباً في البرلمان عن الحزب الشيوعي في تشيللي , في بوينس آيرس , برشلونه ومدريد حيث أصبح في قلب المركز الأدبي العالمي يخالط شعراء من أمثال رافائيل ألبرتي وفردريكو غارسيا لوركا وسيزار فالليجو

على الصعيد العائلي رزق بابلو نيرودا ببنت ولدت في مدريد عام 1934 وكانت تعاني من مشاكل صحيه أنهت بها حياتها القصيره , في هذه الفتره أصبحت علاقة نيرودا بزوجته فاتره حيث إبتعد عنها وبدأ علاقه مع سيده أرجنتينيه في العشرين من العمر تدعى ( دليا ديل كاريل ) وأصبح مولعاً وهو في مدريد بمتابعة أخبار الحرب الأهلية الإسبانيه وحولته أخبار الحرب الى شيوعي عنيف لما تبقى من حياته وكانت فاجعة إعدام غارسيا لوركا على يد قوات خاضعه الى الجنرال فرانكو هي الحادثه المفصليه في حياة نيرودا حيث نشر بعدها مجموعته الشعريه ( إسبانيا في قلبي ) 1938 وساند الجمهوريين الإسبان ضد حكومة فرانكو

.
بعد طلاقه من زوجته الأولى سافرت الى مونت كارلو وبصحبتها إبنتهما الوحيده الباقيه ومن مونت كارلو الى هولندا حيث لم يشاهدهما بعد ذلك أبداً , أما هو فكان بصحبة صديقته الأرجنتينيه يعيش في فرنسا

بعد وصول الرئيس التشيللي ( بيدرو أغوري سيدرا ) الى الحكم عام 1938 تم تعيين بابلو نيرودا مبعوثاً من قبل الرئيس الى المهاجرين الإسبان في باريس بسبب الحرب الأهليه , تحدث نيرودا عن مهمته بالقول إنها أشرف مهمة يقوم بها في كل حياته نقل خلالها 2000 مهاجر إسباني الى فرنسا للإقامة في مخيمات خاصه ومنها تم نقلهم الى تشيللي في سفينة خاصه

الوظيفه الدبلوماسيه التي تعين فيها نيرودا بعد ذلك هي مبعوث تشيللي العام في العاصمه المكسيكيه مكسيكو ستي وبقي فيها خلال الأعوام من 1940 الى 1943 وخلال هذه الفتره تزوج صديقته الأرجنتينيه , ووصلته أخبار من طليقته بأن إبنتهما الوحيده ماتت وهي بعمر 8 سنوات خلال الإحتلال النازي لهولندا

في العام 1940 وبعد محاولة فاشله لإغتيال الزعيم الروسي المنشق ( ليون تروتسكي ) قام نيرودا بتحصيل فيزا الى الرسام المكسيكي ( ديفيد ألفارو سغويريس ) الذي إتهم بأن له يداَ في محاولة الإغتيال تلك وكان هذا بمثابة ( ترضيه ) الى الزعيم الروسي الحاكم في الإتحاد السوفييتي ( ستالين ) الذي تقع على عاتقه مهمة تنظيم محاولة قتل تروتسكي والدفع لتلك المحاوله لكن نيرودا يبرر ما قام به على أنه تلبيه لرغبة الرئيس المكسيكي ( مينويل أفيلا كاماتشو ) الذي أراد الإفراج عن الرسام لكي يذهب ويعيش في تشيللي بحريه خارج السجن , وكرد لهذا الجميل فإن الرسام أمضى عاماً من حياته بعد موت نيرودا يرسم صوره على جدران المدارس في كل تشيللي

عام 1953 منح ستالين ( جائزة ستالين للسلام ) الى بابلو نيرودا وهي بمثابة ( جائزة نوبل ) يمنحها الإتحاد السوفييتي عندها قويت نزعة نيرودا الستالينيه فكتب قصيدة ( نشيد الى باتستا ) ثم ( نشيد الى فيدل كاسترو ) عندها إنتقده صديق عمره الطويل ( أوكتافيو باز ) قائلاً بأن نيرودا يزداد ستالينيه يوماً بعد يوم بينما انا تتناقص ستالينيتي يوماً بعد يوم . وعند قيام ستالين بالتوقيع مع النازيه على معاهدة ( ربنتروب _ مولوتوف ) عام 1939 وصل الخلاف الى أشده بين نيرودا وصديقه باز الذي بقي يعتبر نيرودا ( أعظم شاعر في جيله ) مع هذا كتب أوكتافيو باز يقول إن نيرودا وبعض المشهورين الاخرين من الكتّاب الستالينيين يشعرونني بالقشعريره حين أقرأ كتاباتهم , فلا شك أنهم بدأوا بإيمان جيد ولكنهم يوماً بعد يوم أصبحوا غير واقعيين في تخبطهم بين فوضى من الأكاذيب والحماقات والخداع والحنث الى الحد الذي أفقدهم أرواحهم

بالوصول الى عهد نيكيتا خروشوف وإنتقاد خروشوف لشخصية ستالين وعهده الدموي الذي إرتكبت فيه جرائم راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر , عندها كتب نيرودا في مذكراته يقول : أنا ساهمت بنصيب في جعل ستالين بهذا الحجم , لأنه كان يبدو لي فاتحاً سحق جيش هتلر

في زيارة قام بها نيرودا الى الصين عام 1957 كتب عنها في مذكراته ( وهو مخطيء بالطبع لأنه لو قرأ تاريخ الصين على حقيقته لوجد ماوتسي تونغ أفظع من ستالين ) : ( ما أثار إستغرابي من إجراءات الثوري الصيني أن ماوتسي تونغ لم يفعل .. لكن الماويه هي التي فعلت ) وعلى الرغم من خيبة أمل نيرودا في ستالين لكنه لم يفقد إيمانه بالماركسيه وبقي مخلصاً للحزب ولم يقل في الحزب ما يستفيد منه أعداء الحزب العقائديون

عام 1948 أصبح عمل الحزب الشيوعي محظوراً في تشيللي وصدرت مذكرة توقيف بحق نيرودا الذي كان نائباً في البرلمان عن الحزب الشيوعي , عندها قام الشيوعيون بتهريبه من بيت الى بيت الى أن اوصلوه الى معبر جبلي عبر منه الى الأرجنتين على ظهر حصان

أمضى السنوات الثلاثه اللاحقه في بوينس آيرس مستغلاً علاقته بالملحق الثقافي في سفارة غواتيمالا الكاتب الحاصل على نوبل في الأدب ( ميغويل آنغيل أستورياس ) كان بابلو نيرودا يستعمل جواز سفر أستورياس للسفر الى حيث يريد , وبينما كانت حكومة تشيللي تنكر أن نيرودا غادر البلاد .. كان هو في باريس بواسطة جواز سفر صديقه أسترياس ومنها الى الهند والصين وسيريلانكا .. ثم الإتحاد السوفييتي

عام 1949 قام بزياره الى المكسيك بجواز سفر صديقه وهناك تعرف على مطربه من تشيللي تدعى ( ماتيلدا أوريوتي ) فتأسست بينهما علاقه على الفور وبعد 3 سنوات تحولت العلاقة الى زواج في العام 1952 وفي هذا العام كانت تشيللي تعاني الكثير من فساد الحكومه , ولهذا سمى الحزب الإشتراكي مرشحه الى الرئاسه ( سلفادور ألندي ) الذي طالب نيرودا بالقدوم الى تشيللي لمساعدته الوصول الى الحكم , عندها عاد نيرودا الى تشيلي وترك زوجته الثالثه في المكسيك وعاد الى زوجته الثانيه الأرجنتينيه التي علمت بخبر زواجه عليها فهددته بإعلام السلطات عن دخوله الى تشيلي بعد هذا الإختفاء الطويل خارج البلاد لتضغط عليه من أجل تطليق الثالثه ولم يحسم الأمر غير فوز سلفادور ألندي بالسلطه حيث قام بتعيين صديقه نيرودا وبصحبته زوجته الثالثه سفيراً في باريس منذ عام 1970 الى عام 1972

عام 1971 حصل بابلو نيرودا على جائزة نوبل في الأدب , قرار اللجنه التحكيميه لم يكن سهلاً لأنهم لم ينسوا له قصائده في مدح ستالين وجائزة نوبل جائزه سويديه مسيسه أمريكياً بإمتياز , لكن ستالين مضى والأوضاع تغيرت ووجود نيرودا في باريس كسفير أعاد الى تشيللي ديون بمليارات الدولارات دخلت الى البنوك الأمريكيه العامله في تشيللي

عام 1973 تمت الإطاحه بحكم سلفادور ألندي وتسلم بينوتشيه السلطه . بابلو نيرودا كان يعاني من سرطان البروستات فقرر زيارة الطبيب قبل الهرب فقام الطبيب بإعطائه جرعة سامه في المعده , حين عاد الى البيت جاءت الشرطه لتعتقله فصرخ فيهم : قفوا .. لن تجدوا في هذا المكان ما هو خطر عليكم غير الشعر . توفي بعد 12 يوم من التسمم والإعتقال ورفض الحاكم الجديد بينوتشيه إجراء تشييع عام له لكن الناس سدّت الشوارع ماشية خلف نعشه الى المقبره

عام 1990 تم فتح قبر بابلو نيردوا لفحص الجثه وفي العام 2013 صدر قرار المحكمه أنه مات مسموماً وأن قاتله يدعى ( ميشيل تاونلي ) الذي له سوابق في قتل أشخاص بنفس الطريقه , نتيجة المختبر الأخيره التي ظهرت في شهر مايس 2015 تقول بأن نيرودا لم يمت مقتولاً لكنه كان مصاباً في المعده بنوع من البكتريا التي تنتج سموم قاتله وهي التي قتلته

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.