موسكو لا تعرف الدموع
موسكو مدينة هادئة لا تسمع فيها أصوات أبواق السيارات -مدينة بلا ضجيج، موسكو لا تؤمن بالدموع لأنها مدينة مشرقة دائما، بنظافتها، بناسها .. أبنيتها جميلة وتشير إلى فن معماري سلافي رائع. مطاعمها راقية ومتعددة الأشكال. المطعم البلغاري كان يشتهر بشواء الدجاج بطريقة خاصة، المطعم الصيني بمأكولاته المميزة التي عشقتها بينما زملاء لي لم يعجبهم مذاقها الذي يجمع بين المتناقضات، الكيوسكات التي تبيع “البليمينيي” مع اللبن الرائب (أكلة تشبه “الشوشبرك” المشهورة في فلسطين). وعربات محملة بصهاريج تبيع شراب “الكفاس” والكفاس هو مشروب روسي تقليدي ينتج من خبز الجاودار، مصنف على أنه مشروب غير كحولي، حيث أن نسبة الكحول فيه أقل من1.2 % يشبه شراب عرق السوس أو شراب الخروب في بلادنا.
موسكو مدينة الحدائق والمسارح بالهواء الطلق لتقديم برامج فنية مختلفة. حديقة غوركي من أجمل حدائق موسكو، تسمى “حديقة العشاق” لكثرة العشاق المتجولين في طبيعتها الساحرة، فيها عدة مسارح شعبية لتقديم برامج مختلفة، فيها نادي ليلي يلم شمل العشاق ليلا في باحة الرقص.
المترو في موسكو أعجوبة من أعاجيب الفن المعماري وحلول مشاكل المواصلات، صالاته الرحبة معارض للفن، محطة ماياكوفسكي الجميلة بمعارض الصور والفن المعماري تسمى “محطة العشاق” حيث هي الأفضل للتواعد بسبب مدخلها ومخرجها المتواجهان .. لا اعرف إنسانا طبيعيا وصل موسكو دون أن يغرق بعشق المدينة لياليها ونسائها وحدائقها ومتاحفها وساحتها الحمراء (في الأصل “الساحة الجميلة”، كلمتي جميلة وحمراء هما من نفس المصدر باللغة روسية).
مسارحها دائما مكتظة، شعب يقرأ ويشارك بالحياة الفنية والثقافية بشكل لا يمكن شرحه، من الصعب الحصول على تذكرة للبولشوي تياتر أو لأي مسرح آخر، البعض ينتظر أيام طويلة ليحصل على تذكرة، نحن طلاب المدرسة الحزبية كنا نحصل على تذاكر للمسارح المختلفة، مثل المسرح الغجري الرائع والبولشوي وقصر المؤتمرات خلال 24 ساعة، بفضل اعتبارنا ضيوفا مميزين… كيف لا وفي ظهرنا الحزب الشيوعي السوفييتي العظيم، حاكم أكبر إمبراطورية في العالم والمتحكم بأكبر حركة سياسية عالمية منتشرة في مختلف أنحاء العالم؟ فما المشكلة؟!
نصل إلى المطاعم .. نجدها دائما ممتلئة، تعلمنا جملة سحرية: “نحن وفد عربي شيوعي في زيارة للحزب الشيوعي السوفييتي” فورا تفتح لنا طاولة منعزلة داخل ستائر مخصصة لمثل حالاتنا.
اعترف اننا عشنا حياة مترفة جدا. المعاشات التي كنا نتلقاها 180 روبل للطالب في المدرسة الحزبية بأسعار 1968 -1970 وكان الدولار وقتها يساوي 93 كبيك، وهو معاش قريب لمعاش طبيب اختصاصي وربما أكثر، الروبل الواحد للمقارنة كان يكفينا لتناول ثلاثة وجبات جيدة في اليوم الواحد في المطاعم الشعبية المعروفة باسم “ستالوفيا”، طبعا المطاعم الراقية السعر مضاعف أو أكثر قليلا، لكن مع خدمة كاملة.
نشرت قصصي في أنباء موسكو بنسختها العربية التي كان يحررها الكاتب السوري سعيد حورانية وتلقيت أجرة مرتفعة جدا مقابل النص القصصي 700 روبل تقريبا .. تبين لي ان الأدباء السوفييت بألف خير .. يتلقى القاص ما يقارب ألف روبل على القصة، يتلقى الشاعر كما قيل لي ما يقارب 70 كابيك (الروبل 100 كابيك) مقابل كل سطر شعري حتى لو كان من كلمة واحدة وهذه الأجرة تلقاها محمود درويش مقابل نشر قصيدة في أنباء موسكو.
المواصلات لا تشكل مشكلة في موسكو .. عدا المترو، هناك الباصات، الباصات الكهربائية، خطوط القطار الخفيف وسيارات الأجرة والمترو التحت أرضي .. والأسعار بخسة جدا.
فنانات عاصرن الرفيق لينين في النوادي الليلية!!
من الطرائف التي كان يتبادلها الناس في موسكو، حكاية عدم نجاح النوادي الليلية السوفييتية، المواطنون السوفييت لا يحضرون للنوادي الليلية رغم قاعاتها الرحبة وطعامها الجيد. برامجها الفنية لا تشد المواطن. اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بحثت الموضوع، اتخذت قرارات هامة لتنشيط النوادي الليلية حتى لا يقول الغرب ان الاتحاد السوفييتي متخلف عن باريس وفينا ولندن وبرلين ونيويورك في النوادي الليلية.
رغم ان القرارات المتخذة نفذت إلا ان عدد المترددين على النوادي تراجع!!
عقد اجتماع طارئ جديد لقادة الدولة والحزب. قدم التقرير وزير الثقافة، قال ان الموضوع غير مفهوم، على عكس الغرب الذي يشغل صبايا صغيرات يظهرن مفاتنهن فقط فتمتلئ نواديه لمشاهدة الفن الساقط، عروض أقرب للجنس الاباحي، نحن أحضرنا للنوادي الليلية مغنيات وراقصات لهن تاريخ مجيد في الثورة الاشتراكية، بعضهن عاصرن الرفيق لينين، عينا لهن مساعدات ليساعدونهن في الوصول إلى النوادي بسبب جيلهن المتقدم، بل وزودناهن بكراسي متحركة وسيارات نقل خاصة ورغم ذلك الوضع ساء ولم يتحسن!!
للحيطان آذان ..!!
في حديث مع أستاذي للاقتصاد السياسي، الذي كنت أشعر انه يُعلم بشكل “هذا ما يقوله الكتاب” هل حقا يؤمن بما يعلمه لنا من نظريات لا تبدو لي متزنة؟ لا أرى انها تطبق في وطن الاشتراكية الأول؟ كنا نحتسي الفودكا ونأكل الكافيار وبعض النقانق الجيدة. أجاب “الآن انا أؤمن بهذا” وأشار إلى كأسه، “غدا سأعود أستاذا للاقتصاد”. صارحته باني شاهدت أوضاعا لم أتوقعها في الاتحاد السوفييتي. فقر حقيقي .. معاشات فقر لا تتجاوز 60 روبلا (الطالب من إسرائيل مثلا كان يتلقى 90 روبلا)، لم يجعلني أواصل، وضع يده على فمي وقال همسا “للحيطان آذان”.
بعد تلك السهرة صار معلما مختلفا، كان يقول لي ما هو المطلوب للامتحان، ما هو الضروري لي كي افهم المادة بشكل حر وأطور فكري وصار يوجهني في قراءاتي الفكرية، كانت كتابات المفكرون الماركسيون في الغرب على رأس المواضيع التي نصحني بقراءتها وأذكر منهم جيورجي لوكاتش، كارل كورش، انطونيو غرامشي، روجيه غارودي ( قبل ان يتأسلم في ليبيا مقابل مليون دولار ويصبح “الشيخ رجاء”) وارنست بلوخ وغيرهم من الأسماء التي جعلتني افهم الفلسفة بوصفها مادة للتفكير والإبداع والتجديد وليس للانغلاق السلفي… وحثني على قراءة الفلسفة الغربية بمختلف مدارسها لأن الفلسفة لم تنتهي بماركس…حدث التحول الكبير في مفاهيمي الفلسفية في أواسط سنوات التسعين من القرن الماضي، بعد قراءة كتاب الفيلسوف النمساوي كارل بوبر “المجتمع المفتوح وأعدائه” الذي يشمل النقد الأكثر دقة وحدة للقاعدة الفلسفية الماركسية.. وطبعا قراءات فلسفية متنوعة …
ثقوب في الثوب الماركسي
عشت فترة طويلة من الحوار الذاتي ومحاولة إغلاق الثقوب في قرص الجبنة السوفييتي .. رأيت ان الثقوب تزداد اتساعا. إيماني بجوهر الماركسية الإنساني لم يتزعزع، هل هو تأثير الانتماء لحركة شيوعية منذ بداية وعيي؟ نشأت على فكرة أني شيوعي دون ان أعي ماذا تعني الشيوعية، وأوقفت دراستي في هندسة الميكانيكيات لأدرس الفلسفة والاقتصاد الماركسيان. لم أكن أتخيل نفسي بدون معرفة ووعي نظري وفلسفي كامل. كان بيت والدي مقرا للنشاط السياسي والاجتماعات الشعبية في مواسم الانتخابات منذ أيام عصبة التحرر الوطني الفلسطيني (الحزب الشيوعي الفلسطيني العربي)، فكيف أستطع ان أفكر بوجود قصور في الفكر الذي سحرني قبل ان أدرسه؟ اعرف القيادات الطلائعية التي قدمت عمرها في خدمة شعبها، اختاروا حياة النضال الصعبة، ذاقوا طعم السجون والنفي والفقر؟ هل يمكن ان يكونوا على خطأ؟
مع تقدمي في الدراسة وخاصة في موضوع الفلسفة، بدأت اشبك الخيوط ..
رأيت في البداية ان الخطأ ليس في الفكر والتأسيس النظري بل في جهاز الدولة الذي لا شيء ماركسي فيه .. وفي الجمود العقائدي الذي يحصر نفسه بما كان صحيحا في زمن ماركس، دون فهم التحولات الجذرية في النظام الرأسمالي، في الاقتصاد، في المجتمع، في تطور النظام الديمقراطي، تطور حقوق الإنسان، تطور مستوى الحياة، عدم صحة نظرية لينين ان “الامبريالية اعلي مراحل الرأسمالية”، سقوط نظرية البروليتاريا التي كانت ظاهرة أوروبية لم تنتشر في أي مكان آخر خارج أوروبا.
معلم الاقتصاد قال لي ردا على استفساري عن ظاهرة البروليتاريا انه سعيد لأني أفكر بشكل حر. ولم يقل لي رأيه…!!
البروليتاري مديرا للبنك ..
بدأت اشك بكل مفهوم نظرية صراع الطبقات، كنت على قناعة من تحول النضال الطبقي من نضال تناحري إلى نضال حقوقي واجتماعي. أصلا لم تقم أي ثورة على قاعدة الصراع الطبقي. حول تفكك نظرية الحتمية التاريخية، استغرقني الأمر وقتا أطول لأخرج من مربعها. تبين ان الرأسمالية الجشعة تعرف كيف تطور دولها علميا، تكنولوجيا، إداريا وثقافيا وحقوقيا، وحققت ثروة هائلة اشترت فيها الطبقة العاملة إذا صح هذا التعبير. لم يعد العامل رجل المطرقة، لم يعد الفلاح رجل المنجل، أصبح العامل مدير بنك، مدير شركة، طبيب، مهندس، باحث علوم وتقنيات، مختصا بالهايتك، محاضرا جامعيا، هل تنطبق صفة “البروليتاري” عليه؟ هل هم مستعدون لصراع طبقي تناحري؟ بعض “البروليتاريين” يربحون أكثر من أصحاب بعض المصانع. الفلاح أصبح مجهزا تكنولوجيا بكل ما يحتاجه لتطوير زراعته وجني محصولاته، الزراعة أصبحت صناعة متطورة بينما الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية ما زالوا يخيطون بالمسلة العتيقة. ما شاهدته في الكولوخوزات والسوفوخوزات مذل ومثير للألم والقلق على مصير الاشتراكية. كوسيجين رئيس الحكومة في ذلك الوقت (1968) طرح إصلاحا ثوريا للزراعة على أساس توزيع الأرض على الفلاحين وليس الملكية الجماعية والعمل الجماعي. رفض مشروعه بحجة ان الغرب سيتهم الاتحاد السوفييتي بالعودة إلى الرأسمالية في الزراعة مما يعني فشل الاشتراكية. ثبتت صحة أفكار كوسيجين في تطبيقها في هنغاريا التي أحدثت قفزة زراعية هائلة ولم تطبق في الاتحاد السوفييتي لأنها تتناقض مع نصوص غبية ألصقت بالماركسية وبتفكير سلفي لم يستوعب ان الفلسفة، مهما كانت عبقرية، ليست مقولات دينية ثابتة. للأسف لم أستطع ترجمة مشاعري إلى مواقف ورؤية نظرية جديدة إلا بعد ان رأيت انهيار وتفكك حزبي الشيوعي في إسرائيل، القيادة الحزبية التي لم تعد تكليفا ومسؤولية، بل أصبحت مخترة ومكسبا شخصيا… وتحول التنظيم إلى تنظيم شخصاني!!
قدمت استقالتي عام 1993 متأخرا ونادما لأني لم انسحب قبل عقدين، الحزب بدأ يفقد تنظيمه وقدرته على تنفيذ قراراته، صرنا في حارة “كل مين ايده اله”!! !!
الدولة الرأسمالية لبناء النظام الاشتراكي
ماركس لم يطرح رؤية للدولة الاشتراكية بنظرة تتجاوز دولة الكومونة ( كومونة باريس)،حكومة عمالية ينتخب مندوبيها بالاقتراع العام ويمكن اسقاطهم بسحب الثقة منهم. أجورهم هي نفس أجور العمال وحسب ذاكرتي كان رأي ماركس حذف اصطلاح الدولة. الكومونة الباريسية كانت ظاهرة في مدينة واحدة وليس في كل فرنسا. هذا الشكل الجديد من الحكم كانت بيده السلطة التشريعية والتنفيذية، لم يحاول ماركس ان يكتشف أشكال جديدة لتنظيم ما يعرف ب “الدولة” في المستقبل.
إذن ماركس لم يقدم أي رؤية لمفهوم الدولة في النظام الاشتراكي من رؤيته ان الدولة في طريقها للاضمحلال بعد سقوط البرجوازية. الماركسية علمتنا ان الدولة هي جهاز للعنف الطبقي، بعد انتصار الطبقة العاملة وقمع أو تصفية الطبقات القديمة، تنتهي ضرورة العنف الطبقي، بالتالي تنتهي ضرورة الدولة. فيما بعد طور السوفييت (لينين) نظرية ان بقاء الدولة هي ضرورة لقمع البرجوازية العالمية. أي ظلت الدولة بدون تغيير بعد الثورة الاشتراكية، واقع الدولة الاشتراكية التي عرفناها كانت أسوأ من مثيلتها البرجوازية بغياب أي مفهوم ديمقراطي، قمع حرية الرأي وحق الاختلاف، الحزب هو المفكر والمقرر، لا قيمة للفرد (البرسيونال) القيمة للجماعة (شكليا فقط، عمليا لا قيمة إلا للقيادات العليا، شيء شبيه بالسلفية الدينية الشيوخ يفتون، وغرابة أفكارهم التي لا تليق حتى بالعصر الحجري هي الصراط المستقيم). للمواطن خيار “ديمقراطي” وحيد ان يصوت لنفس الحزب .. لنفس الشخصيات، لنفس النظام، لنفس الفساد ولنفس طبقة الحكم المتسلطة.
لينين رأى الأمر من زاوية مختلفة عن ماركس، مجالها ليس هنا الآن، إنما بودي التأكيد ان الماركسية افتقدت للمعرفة النظرية لمفهوم الدول الاشتراكية، وما طبق عمليا هو مفهوم الدولة السائد في العالم البرجوازي بإضافة شعارات وتبريرات فارغة من المضمون… الدولة الاشتراكية كانت أكثر قمعا ليس للبرجوازية العالمية، إنما لشعبها ولطبقتها العاملة!!
هذا الواقع انعكس بشكل سلبي ومؤلم في المجتمع الاشتراكي من تمييز وفجوات اجتماعية – اقتصادية بحيث تشكلت طبقة سائدة قمعية بمستوى لا يخجل إي نظام قمعي استبدادي فاسد!!
عندما صعد غورباتشوف توسمت خيرا، رأيت بغورباتشوف ما حاول ان يكشفه لي بصمت أستاذ الاقتصاد السياسي. لكن يبدو ان الثقوب أصبحت أكبر من كمية الجبنة.
رغم ذلك كان الحلم بمجتمع عادل ونظام مساواة إنساني، أكبر من الواقع المؤلم الذي شاهدناه وبررناه بشكل صبياني متعصب ومنغلق عن رؤية الحقائق. عندما انهار الاتحاد السوفييتي قال قائد حزبي مرموق في إسرائيل (السكرتير العام للحزب وقتها)، ان “السوفييت كانوا يكذبون علينا ونحن كنا نكذب عليكم، لأننا اعتقدنا ان هذا لمصلحة الجماهير!!”
أي ان اليسار الماركسي كان يمارس الكذب على جماهيره .. ويكذب على ماركس وهو في قبره؟!
آية الله الرفيق بريجينيف…
أخبار الصحافة السوفيتية دائما قديمة، نشر الأخبار يتأخر بسبب الرقابة القوية على الصحافة وضرورة تزييف الحقائق للشعب السوفييتي. عملية تضليل مبرمجة لا تفسير آخر لها. أصبح لدي شك كبير بكل المعطيات الرسمية التي تنشر. صحافة الاتحاد السوفييتي لها صوت واحد ولون واحد، مجندة تثير امتعاض القارئ السوفييتي وسخريته. هذا ساهم بخلق الطرائف التي تسخر من واقع الاعلام.. من أجمل تلك الطرف ان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قلق جدا لأن “البي بي سي” و”صوت أمريكا” والوكالات الأجنبية تنشر أحداث سوفيتية قبل ان يقر نشرها وصيغتها المكتب السياسي للحزب. الرفيق بريجينيف (كان الأمين العام للحزب الشيوعي، عمليا أعلى سلطة في الدولة، يمكن القول “آية الله الرفيق بريجينيف”) دعا إلى اجتماع أعلن فيه ان “أحد أعضاء المكتب السياسي يتجسس لحساب البي بي سي وينقل أخبارنا قبل ان تنشرها صحافتنا”.
من هو الجاسوس يا رفاق؟ كان الصمت شاملا. قال “لن نغادر الاجتماع قبل ان نكشف عن الجاسوس”. حاول البعض ان يقول ان الجاسوس ربما من هيئات حزبية أدنى؟ رفض بريجينيف الأمر. سوسولوف شعر بأن مثانته لم تعد تتحمل الضغط. طلب الإذن للخروج إلى الحمام. بالطبع هناك حدث جديد ستذهب يا سوسولوف لتبليغ الغرب والإذاعة البريطانية به. فتشوا الحمامات. لم يجدوا وسيلة اتصال بالامبريالية، عملها سوسولوف ببنطاله. عجوز آخر من قادة الحزب شعر أيضا ان الوضع بات حرجا، لم يجرؤ على طلب الإذن .. أفلتها في بنطاله بتأني، هكذا مضى الوقت والرفاق العواجيز أعضاء المكتب السياسي يرطبون بناطيلهم … خوفا من اتهامهم بالعلاقة مع الإعلام الامبريالي!!
بريجينيف شعر ان المسالة لدية أيضا أصبحت غير محمولة، قال لهم “يا رفاق يبدو ان الجاسوس ليس من المكتب السياسي الاجتماع انتهى”. رد سوسولوف بغضب “هل ستذهب لإبلاغ الغرب عن آخر أخبارنا؟” طبعا الأكثرية مع سوسولوف بسبب البنطلونات التي رطبتها مثانتهم. بريجينيف حاول ان يقنعهم ان الجاسوس قد يكون حقا من هيئة أدنى. “أبدا يجب ان ننتظر ..”!! أصروا. الضيق وصل أقصاه لدى الرفيق بريجينيف.. فجأة حضرت مساعدته الليلية تحمل له وعاء لتفريغ البول.
سألها باستغراب “كيف عرفت أني بحاجة للتبويل؟” ردت المساعدة “أيها الرفيق بريجينيف قبل قليل سمعت خبرا من البي بي سي يقول ان الرفيق بريجينيف في اجتماع مغلق وانه بحاجة ماسة ليبول!!”
النموذج الأذربيجاني للمجتمع الاشتراكي
زرنا اذربيجان للاطلاع على ما أنجزته الاشتراكية لشعوب الشرق. طبيعة ساحرة. أخذونا إلى كولوخوز نسيت اسمه، تفاجأت ان الشوارع الداخلية أزفت من الزفت .. شوارع ترابية تصبح وحولا في الشتاء. لديهم نادي لا بأس به .. عبارة عن قاعة مقامة من حيطان جاهزة، الأهم ان الفتيات اللواتي كن في استقبالنا يخطفن العقل، خاصة عقول ومشاعر شباب في العشرين كما كنا، طبعا رقصنا، تعانقنا وقبلنا .. تواعدنا لليوم التالي لنعمل معهن (طبعا مع آهل الكولوخوز) في سبت العمل الشيوعي التطوعي. كان يوم عمل في الحقل، تناولنا الطعام وعصرا كان لنا اجتماع سياسي في النادي. كلفت بالحديث باسم وفد رفاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي. كان معنا رفاق أتراك ورفاق من أمريكا اللاتينية. كلهم القوا خطابات تافهة وشعارات تافهة .. هاجموا الاستعمار “ونعلوا أبو أبوه”. مدحوا النظام الاشتراكي الذي أحدث نهضة عظيمة لأبناء الشرق، كان أمين عام الحزب في اذربيجان علييف (اعتقد انه صار زعيما لأذربيجان بعد تفكك الاتحاد السوفييتي) يجلس على المنصة، عندما يصفق تضج القاعة بالتصفيق. شعرت اني في سيرك، او مسرحية هزلية، الحضور لا يعرف عما يدور الحديث. لا يعرف ما هو الواقع التركي، لا يعرف ما هي الحال في أمريكا اللاتينية ولا يعرف معاناة الشعب الفلسطيني واحتلال فلسطين كلها وأراض عربية أخرى .. جاء دوري للحديث. قررت ان الغي خطابي الجاهز وأتحدث مباشرة عن انطباعاتي. تحدثت عن اذربيجان التي تنهض وتتطور وهذه حقيقة، عن زيارتنا للصخور السوداء – جزيرة صناعية لاستخراج النفط من بحر قزوين، والصخور السوداء مدينة عائمة لاستخراج النفط يسكنها 5 آلاف إنسان فيها مطاعم ومسارح وسينما. تحدثت عن طبيعة بلادهم الجميلة .. وتمنيت ان أزور كولوخوزهم مرة أخرى وان تكون قد شقت لديهم طرقا حديثة. شكرتهم على الضيافة، وعلى “اعتناء” صبايا الكولوخوز بنا وعن الأمسية الرائعة التي قضيناها في ضيافتهم .. وعن استعدادنا لتلبية دعوتهم لسبت عمل شيوعي جديد وتركت الامبريالية والصهيونية في حالهم وهتفت بحياة الاتحاد السوفييتي!!
لم اعرف ان كلمتي ستثير غضب إدارة المعهد .. وان تصرفي لا يخدم الأهداف الشيوعية!!
الله في اجتماع اللجنة المركزية
حدثني أستاذ الاقتصاد السياسي عندما لمس إصراري على فهم الحقائق وليس الدعاية، بقصة رمزية، لكنه رفض الحديث إلا عندما خرجنا لنتمشى في شارع جميل قرب سينما لينينغراد في موسكو. قال ان “لينين عندما توفي تقرر في يوم الحساب انه كافر وان مكانه الطبيعي في جهنم”. وصل جهنم، لكنه لم يجلس مكتوف اليدين بدا بتنظيم خلية حزبية ونقابة عمال، أعلنوا إضرابا وراء إضراب قدموا طلبات عديدة لعزرائيل وهبت المظاهرات واحتار عزرائيل في كيفية إعادة سيطرته، أخرج التنظيم الشيوعي خارج القانون، فانتقل الشيوعيين للعمل السري، توجه عزرائيل لمقابلة الله وطلب المعونة لإعادة السيطرة على جهنم، قالوا له في السماء احضر لينين ليقيم عندنا في الحجز لمدة شهر حتى تعيد ضبط السيطرة على جهنم. هكذا كان، نقل لينين مقيدا إلى السماء. بعد شهر ذهب لاستعادته، قالوا له “اتركه شهرا آخر، تخلص من التمرد في جهنم أولا”.. مضى شهر آخر توجه عزرائيل لاستعادة لينين. كان الحاجب على الباب، قال له “الله مشغول الآن”، أصر عزرائيل على مقابلة الله من اجل استعادة لينين لجهنم. دخل الحاجب ليسال الله “ما العمل؟ عزرائيل يريد استلام لينين” . قال له الله “قل لعزرائيل ان ينصرف لدي الآن اجتماع هام للجنة المركزية للحزب الشيوعي ونستمع لتقرير زعيم الحزب الرفيق لينين”!!
nabiloudeh@gmail.com