أحمد عبد المعطي حجازي المصريون اليوم
ليس غريباً وليس جديداً أن يكون الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من السلفيين وغير السلفيين أعداء ألداء لمصر وحضارتها القديمة ونهضتها الحديثة، وأن يختزلوا الهوية المصرية فى الإسلام كما يفهمونه هم فيسيئون فهمه هو أيضاً ويسيئون إليه، لأنهم يعتقدون أنهم أحاطوا بكل شىء علماً، وأصبح من حقهم أن يفرضوا علمهم على كل ما يحيط بهم، وأن يتحدثوا وحدهم عن الإسلام باسم الإسلام، خاصة بعد أن سطوا على ثورة يناير وأمسكوا بمقاليد السلطة فى البلاد.
والإخوان والسلفيون- وهم فى الحقيقة فكر واحد، وإن كانوا فى السياسة حزبين مختلفين- هؤلاء وهؤلاء يسيئون فهم الإسلام لأنهم يخرجون النصوص والأحكام من سياقها، ويقرأونها بعيداً عن تاريخها، ويفصلونها عما كان قبلها وعما جاء بعدها، وينكرون علاقتها بالزمان والمكان، ويرفضون أى إضافة إليها وأى اجتهاد، ظانين أنهم ينزهون الوحى السماوى ويحصنونه ويحفظون له قداسته وطهارته حين ينفون علاقته الحية بالتاريخ وجدله المثمر مع الحياة البشرية. وهذا منطق فاسد. لأن الديانات السماوية رسالات للبشر تخاطب عقولهم، وتوقظ ضمائرهم، وتجيب عن أسئلتهم، وتعالج مشاكلهم، وتلمس مواطن القوة فيهم ومواطن الضعف، وتساعدهم على تصحيح الخطأ وتجنب العثرات.
وكون الرسالة سماوية لا ينفى أنها موجهة للبشر الذين بدأوا رحلتهم من السماء قبل أن يهبطوا إلى الأرض. وقد خلقهم الله جل وعلا، وصورهم فأحسن صورهم، وزودهم بالطاقات والقوى والمواهب والفضائل التى اهتدوا بها، وسموا الأشياء، وعرفوا الخير والشر، وميزوا بين الحق والباطل، وأقاموا الحضارات، وأبدعوا الثقافات.
وهل كان بوسع الرسالة المحمدية أن تصل لغايتها إلا بالمعجزة القرآنية التى هزت بروعتها وحكمتها قلوب العرب وعقولهم. وهم أمة كانت اللغة بالنسبة لها وطناً، وكان الشعر تاريخاً وتراثاً وحضارة؟ وهل يكون الكلام معجزاً إلا عند من يعرفون الإعجاز ويتذوقونه ويحاولون الوصول إليه، فإذا وجدوه اهتزوا له وانفعلوا به وآمنوا وصدقوا؟!
الإسلام إذن ليس انفصالاً كاملاً عما سبقه، وإنما هو طور جديد فى حياة العرب وحياة البشر. زودهم بخبرات الماضى وفتح أمامهم أبواب المستقبل. وكما نجد فى الإسلام جوهر الديانات التى سبقته نجد فى الإسلام جوهر المبادئ والقيم التى اكتشفتها البشرية وآمنت بها فى العصور اللاحقة.
لكن الإخوان المسلمين والسلفيين ومن كان على شاكلتهم لا يعترفون للماضى بأى فضيلة، وإنما يرون كل ما فيه جهلاً وشراً وبعداً عن الحق والصواب، سواء فى ذلك ماضى العرب أو ماضى المصريين أو ماضى غيرهم من الأمم.
كل ما سبق الإسلام عند هؤلاء جاهلية. وكل ما ظهر بعده مما لم يعرفه المسلمون من قبل جاهلية أيضاً. لأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وربما قرأ بعضهم أو سمع قول الرسول الكريم «الإسلام يجبّ ما قبله» ففهم منه أن الإسلام يقطع ما بيننا وبين ماضينا ويفصلنا فصلاً تاماً عنه وعن كل ما كان فيه، لأن الحديث يقول إن الإسلام يجبّ، أى يقطع ويمحو.
غير أن هذا الفهم قاصر بعيد عن الصواب. لأن الإسلام، وإن كان قطيعة مع ما كان سائداً قبله فى جزيرة العرب من الظلم والعدوان وعبادة الأوثان فهو تطور واستمرار للديانات السماوية التى سبقته، فضلاً عن أنه تبشير وتمهيد لما حققه الإنسان فى العصور الحديثة مهتدياً بعقله وخبرته. وإذا كان الإخوان والسلفيون يسيئون فهم الإسلام على النحو الذى رأيناه فأولى بهم ثم أولى أن يسيئوا فهم الجاهلية.
الجاهلية لم تكن كلها جهالة، ولم تكن كلها وثنية. والعرب الجاهليون لم يكونوا كلهم أشراراً أو عباد أصنام. وإنما اتصل العرب قبل الإسلام بالأمم والحضارات المحيطة بهم. اتصلوا بالمصريين والبابليين والعبرانيين وبالفرس والأحباش والبيزنطيين. وعرفوا ديانات هؤلاء، عرفوا اليهودية والمسيحية والمجوسية، واعتنقها بعضهم، وعاشروا أهلها.
ومن المعروف أن القديس بولس الذى حمل المسيحية إلى آسيا الصغرى وأثينا رحل إلى جزيرة العرب، حيث اعتزل ثلاث سنوات متصلة قبل أن يبدأ رحلته التى انتهت باستشهاده فى روما.
وقد اعتنق الغساسنة المسيحية، واعتنقتها تغلب فى الحيرة فى جنوب العراق، وجماعات من بكر، وجماعات أخرى فى دومة الجندل، وفى نجران، وفى عدن.
ويبدو أن المسيحية تعربت فى بلاد العرب واختلطت بالعقائد العربية الموروثة، كما يبدو فى هذا البيت الذى يقول فيه عدى بن زيد العبادى:
سعى الأعداء لا يألون شرا
علىّ ورب مكة والصليب
ومعروف أيضاً أن اليهودية انتشرت فى اليمن، وأن اليهود هاجروا إلى يثرب وخيبر ووادى القرى. والكلام يطول عن هؤلاء وعن تأثرهم بثقافة العرب وتأثيرهم فيها.
وهناك إلى جانب المسيحية واليهودية تلك الديانة التوحيدية التى سميت الحنيفية ونسبت إلى إبراهيم عليه السلام. ومن الذين اعتنقوها قس بن ساعدة الإيادى الخطيب المشهور، والشاعر أمية بن أبى الصلت، والشاعر زهير بن أبى سلمى، وورقة بن نوفل قريب السيدة خديجة زوج الرسول عليه السلام.
الجاهلية إذن لم تكن كلها جهلاً، كما رأينا، ولم تكن كلها وثنية، وإنما كان فيها علم، وكان فيها شعر، وكان فيها توحيد. ولاشك فى أن اليهودية والمسيحية والحنيفية فتحت الطريق للإسلام، ومهدت له. بل نحن نرى أن الإسلام تبنى بعض الشعائر التى عرفها العرب قبله، ومنها تعظيم البيت الحرام، وتقديس شهر رمضان، والحج الذى حافظ الإسلام على معظم مناسكه الموروثة ومنها التلبية، وملابس الإحرام، والوقوف بعرفة، ورمى الجمرات، والطواف حول الكعبة سبعة أشواط، والسعى بين الصفا والمروة.
وكما تبنى الإسلام هذه الثقافة التى ورثها عن ماضيه اتسع صدره أيضاً لما عرفه المسلمون ووصلوا إليه فى العصور التالية. وإذا كان الإسلام قد قبل عقلانية المعتزلة، وشطحات المتصوفة، وأرسطية ابن رشد، كيف لا يقبل الدولة المدنية؟ وكيف لا يقبل الديمقراطية؟ وكيف يرفض فصل الدين عن السياسة؟ وكيف لا يدافع عن حقوق الإنسان؟!
غير أن الإخوان المسلمين والسلفيين يعادون هذا التراث ويقاطعون هذا التاريخ ويجهلونه ويفضلون أن يظلوا على جهلهم به. لأن الاقتراب منه والنظر فيه خطر يستشعرونه ويخشون تأثيره على ما نشأوا عليه من مسلمات لا يجرؤون على مراجعتها، لأن مراجعتهم لها تزلزل الأساس الذى أقاموا عليه مشروعهم الذى يتلخص فى إحياء دولة العصور الوسطى الدينية. وهو مشروع يشترط فيمن يعمل له أن ينكر التاريخ ويعزل الإسلام، ويضعه خارج الزمن، ويمنعه من الاستجابة للمسلمين وتزويدهم بالطاقة الروحية التى تساعدهم فى الخروج من تخلفهم والانخراط فى حياة العصور الحديثة والمشاركة فى بنائها.
مشروع الإخوان يتناقض مع مشروع المصريين. مشروع المصريين يتلخص فى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التى تضمن لهم أن يتحرروا من الطغيان وأن يتمتعوا بالمساواة والعدل والرخاء. ومشروع الإخوان يتلخص فى إحياء الخلافة والانفراد بالسلطة فيها، لأنهم مدعين أنهم وحدهم الذين يمثلون الإسلام فى هذا العصر الذى يعتبرونه امتداداً للجاهلية سواء صرحوا بهذا أو لم يصرحوا. فالإسلام عند هؤلاء ليس عقيدة قبل كل شىء، وليس قيما أخلاقية، وإنما هو حكومة كما يصرح بذلك سيد قطب.
فإذا لم يكن الإسلام حكومة فنحن نعيش فى جاهلية كاملة كما يرى سيد قطب، وفى نصف جاهلية كما يرى الشيخ القرضاوى. يقول سيد قطب: «إذا أريد للإسلام أن يعمل فلابد أن يحكم. فما جاء هذا الدين لينزوى فى الصوامع والمعابد، أو يستكن فى القلوب والضمائر». وقد حاول الشيخ القرضاوى أن يكون معتدلاً، فقال إن مجتمعنا يختلف عن مجتمع مكة قبل الإسلام. مجتمع مكة كان جاهلياً صرفاً، «أما مجتمعنا فهو خليط من الإسلام والجاهلية»!
فإذا قلت لهؤلاء إن ما كان يصح قبل ألف عام لا يصح الآن. وما كان يصلح لمجتمع بدوى لم يعرف الاستقرار، ولم يعرف الوطن، ولم يعرف الدولة، ولم يعرف النظام والقانون لا يصلح للمجتمعات الحديثة التى تقدمت وتطورت وأصبحت جماعات وطنية تؤلف بين أفرادها المصالح المشتركة بعد أن كانت مللا ونحلا لا تجمع بينها إلا العقائد الدينية- إذا قلت لهؤلاء هذا الذى قلته عن الوطن وعن الدولة الوطنية قالوا لك: طظ فى الوطن! وطظ فى الدولة الوطنية!
الإخوان المسلمون يختزلون الإسلام فى سلطة ينفردون بها. ولهذا يختزلون مصر فى هذا الإسلام الذى يحملهم إلى السلطة!