William Wordsworth (1770-1850)
أحب السير وحيدا بين الجبال والبحيرات والبراري قرب بلدته الواقعة على بحيرة دستركت في إنكلترا.
أحيانا كان يشعر وكأن ليس هناك من أحد في هذا العالم .. فيبدأ التطلع الى الضوء ساقطا على الأشجار ونافذا من بين أغصانها , أو الريح قادمة من خلال العشب البري الطويل , وكأن الضوء او العاصفة لديهما سر ما قد قدما لإطلاعه عليه .
مرات كثيرة كان يكتب شعره خارج البيت في جولاته تلك , يكتبه بصوت عالي دون ورقة ولا قلم .
وتكتمل الطبيعة عنده حين يقتسمها مع أشخاص قليلين مميزين عنده .
أحيانا حين كان يكتب بعضا من أحسن قصائده , كان هو وأصدقاؤه يحفرون أسماءهم على صخرة كبيرة ( و. و ) أو ( م . ه) أو ( د. و ) أو (ج . و ) أو ( ت. ك ) أو ( س . ه )
كان إسمه هو الأول… وليم وردزورث
اما الثاني فقد كان فقد كان إسم زوجته… ماري هوتشنسون
تلاه إسم أخته الصغرى المحبوبة دوروثي
وإسم أخيه جون
ثم اسم صديقه الشاعر صموئيل تايلور كولريدج
وإسم أخت زوجته… سارة .
وليم , وكولريدج , ودوروثي , التي وصفت حياتهم في صحيفتها المشهورة , كانوا في قلب الحركة الشعرية الجديدة التي كانت تدعى الرومانتيكية , حركة شعرية تزخر بمشاعر قوية ومخيلة يتم شحذها بوساطة الطبيعة , وحياة عامة الناس , والحياة الخاصة للشعراء أنفسهم.
حتى جون شقيق وليم الذي كان قبطان سفينة في البحر… كان وليم يسميه الشاعر الصامت الذي يشاركهم هوايتهم للادب .
ولد وليم يوم 7 نيسان 1770 قرب بحيرة دستركت الى الشمال الغربي من إنكلترا المنطقة شهيرة بجمالها الخلاب , رغم كونها مدينة صغيرة فيها بعض من الناس يزرعون أو يرعون الغنم.
والد وليم كان محاميا وغالب وقته خارج البيت في متابعة قضايا ملاك الأراضي الكبار في المنطقة.
أما أمه فقد سمحت له ولإخوته _ واحد أكبر منه وإثنان أصغر وبنت واحدة باللعب فيما بينهم وللكثير من الوقت في الحقول وبين الجداول والتلال حيث كانوا سعداء جدا.
وليم وشقيقته دوروثي كانا يطاردان الفراشات لصيدها, ذات يوم نشرت دوروثي في جريدتها ( كتب وليم قصيدة لفراشة, لم يكن يأكل غير لقم ولا يلبس شيئا سوى قميص غير مزرر…وقد تذكرنا ذلك ونحن نتحدث عن سعادتنا التي شعرنا بها عندما كنا نشاهد فراشة ).
أحيانا كان وليم يخاطب دوروثي باسم إيملين :
إبقي بقربي ولا تطيري
دعيني أراك وقتا أطول قليلا
نحاور فيه مشاعرنا
مؤرخة طفولتي
رفرفي قربي ولاتفارقي
لتحيا بك كل أوقاتي التي ضاعت
إجلبي الإبداع والفن
والخيالات السارة الى قلبي
والى بيت أبي
سعيدة هي تلك الايام
التي أمضيناها في لعب الأطفال
حيث كنا أنا وأختي إيملين
نمسك الفراشات
كنت صيادا أتابع فريستي بالنط والقفزات
وأطاردها من مكان لمكان
لكن أختي , يحبها الله
تخاف من مسح الغبار العالق بجناح الفراشة .
مأساة وقعت داخل العائلة في تلك الأيام , عندما كان وليم في السابعة مرضت أمه فجأة بذات الرئة وماتت . عندما كانت تحتضر, سار بهدوء ودخل غرفة نومها فرآها متجمدة على كرسيها وكانت تلك آخر مرة يراها فيها .
فيما بعد كان أبوه حزينا بشدة ولا يدري كيف يعتني بخمسة أطفال بنفسه .
أرسلت دوروثي الى بعض الأقارب في مكان آخر من إنكلترا ومرت سنوات طويلة قبل أن يراها مرة ثانية , أما الأولاد فقد أرسلوا الى مدرسة داخلية في هاوكشيد , البلدة الصغيرة في وسط بحيرة دستركت , كانت هناك سيدة محسنة تدعى أنا تايسون منحتهم مكانا للإقامة وإعتنت بهم وكأنهم أولادها ولم يكونوا يذهبون لرؤية والدهم إلا مرتين في السنة أثناء الإجازات .
لكن الموت لم يفرغ من هذه العائلة , عندما كان عمر وليم ثلاثة عشر عاما , تاه والده عن الطريق في إحدى رحلات عمله , وإضطر للمبيت في العراء طول الليل وفي أيام الكريسماس المثلجة , فمرض مرضا شديدا ومات بسرعة هو ايضا .
بقي الأطفال وبشكل حقيقي وحدهم في هذا العالم . بعض أقاربهم في المنطقة إعتنوا بالأولاد لكن العم كيت الذي رعاهم كان متصلبا جدا ولم يفكر كثيرا في روح الطفولة الحرة التي تحب الإنطلاق والمرح….. خصوصا عند وليم الذي كتب أحد إخوته فيما بعد واصفا تلك الأيام ( مرات كثيرة كنا أنا ووليم وجون وكريستوفر نبكي سوية من مرارة الأسى ) أما دوروثي فقد كتبت لصديق ( كنا جميعنا نشعر بمزيد من التعاسة كل يوم لما يحل بنا بسبب فقد والدينا ) .
ومنذ ذلك الوقت بالطبع بدأ وليم يتعلم الوحدة بشكل حقيقي أو كما يسميها في قصائده: – العزلة وكيف يمكن للمرء أن يجعل منها شيئا جيدا .
عندما كان وحيدا كان حرا في تخيل الأشياء والتفكير بها بطريقة لم يفعلها غيره , كما تعلم أيضا أنه مطلقا لن يكون وحيدا عندما تحيط به الطبيعة من كل جانب , الجبال والبحيرات والغابات والريح التي كانت له مثل عائلة من الأشباح .
أحيانا كان يشعر أن هذه الموجودات تخفي أرواحها التي تعامله بها مثل أمه أو أبوه . في القصيدة التي كتبها فيما بعد وسماها (( الديباجة )) كان يتذكر سنوات الطفولة هذه بمزيج من المتعة والأسى جعلا منه شاعرا . ويتذكر كيف كان يركض مثل متوحش عاري تحت المطر الرعدي , وكيف كان يسبح في الجداول أو يتسلق الأغصان لسرقة بيض الطيور أو يتطلع الى النجوم عند المساء أو حتى .. كيف إستولى ذات مرة على قارب بمجذافين ليجتاز به البحيرة . مثلما تذكر كل الأوقات الحزينة والمخيفة في تلك السنوات , مثل يوم وفاة والده , أو اليوم الذي أعقب سرقة القارب حيث شعر أن عملاق الجبل قرر معاقبته وملاحقته .
كتب وليم قصائده الأولى عندما كان في المدرسة في هاوكشيد وقد كان موهوبا في ذلك , ولكن حين إلتحق بجامعة كمبريدج ظن عمه الوصي أن عليه أن يدرس بمثابرة لكي يجد عملا في الجامعة نفسها أو يصبح محاميا لكن وليم لم يفعل . عوضا عن ذلك كان يقرأ بحرية في موضوعات كثيرة , وأولع بالهندسة وواصل كتابة الشعر . وكان يعود الى البيت عند الصيف فقط . حيث يمشي وحيدا بين التلال إلا من كلب يرافقه, محاولا نظم الشعر بصوت مسموع , وحيث أن الكلب كان ينبح حين يشعر بإقتراب غرباء , فقد كان وليم يسكت حتى لا يبدو مجنونا .
في الصيف الذي سبق تخرجه ذهب الى أوربا مع صديق حيث رحلا عبر فرنسا وسويسرا وشمال إيطاليا ليس معهما غير الملابس التي عليهما وحقيبة صغيرة . كان وقتا حرجا حيث الثورة الفرنسية كانت مشتعلة منذ سنة في 1789.
العديد من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة الفرنسيين كانوا قد إتحدوا مع الكتاب والفلاسفة والمحامين والسياسيين للتمرد على حكم لويس السادس عشر , وكانوا يريدون بداية عهد جديد .
أثناء هذه السياحة أعجب وليم بجبال سويسرا , لكن مشاعره حيال الثورة الفرنسية سرعان ما صارت عميقة , وبعد تخرجه من الجامعة وبقائه حائرا لا يدري ما يصنع بحياته , عاد من تلقاء نفسه الى فرنسا .
عندها إلتقى بشاب مثقف بشكل جيد إسمه ميشيل باوبوي ساعده على فهم مبادئ الثورة وأهدافها حيث وجد نفسه يصطف بقوة الى جانب الثائرين وأصبح ينادي بقيم وطنية … إضافة الى أمر مهم آخر …. هو وقوعه في حب امرأة فرنسية إسمها أنيتا فالون … وسرعان ما رزقا بطفلة .
لكن الأمور سارت بإتجاه سيئ . الثورة الفرنسية تحولت الى كابوس يؤرق الكثيرين . العمل الإرهابي كان قد بدأ , في هذه الفترة كان الثوريون قد استعملوا شفرة الغلوتين لقطع رؤوس الكثير من الفرنسيين وصولا الى رأس الملك والملكة , آلاف من البشر فقدوا حياتهم تحت هذه المقصلة فيما مضت فرنسا الى حرب مع أوربا وبريطانيا .
كانت العلاقة مع أنيتا مشرفة على الانتهاء , رغبا الزواج بشدة لكنهما لم يستطعا ,, فبعد كل شيئ لم يكن وليم أكثر من شاب مفلس من بلد آخر .
وحين ولدت إبنتهما لم يكن موجودا… ومرت عشر سنوات قبل أن يشاهد هذه الإبنة لأول مرة .
حين عاد الى إنكلترا لم يكن سعيدا… بدا الأمر وكأنه نهاية العالم ,, وكل آماله بالثورة الفرنسية وصلت الى نهاية , أحيانا .. الكوابيس توقظه ليلا عما يمكن أن يكون واقعا في فرنسا .
ولم يكن بمقدوره كتابة أو تسلم رسالة , فالحرب بين إنكلترا وفرنسا قطعت البريد بين البلدين وهكذا عاش لا يدري ما يمكن أن يفعله بحياته .
خلال السنوات التالية حيث عاش هنا وهناك في لندن وأماكن أخرى من إنكلترا, كتب الشعر والمسرحية التراجيدية عن كل الأوجاع والمعاناة في العالم, لكن هذه الكتابات كانت تستعير نمطها من كتابات الغير… لم يكن بعد قد تلمس أسلوبه الخاص .
أخيرا بدأت الحياة تصبح أفضل , تقبل وليم فكرة أن الثورة الفرنسية لم تسلك الطريق الذي كان مؤملا, ويعتقد الكثيرون أنه لم يلتق أنيتا بعد ذلك إلا مرة أو مرتين .
حياته الشخصية صارت أسعد … شقيقته دوروثي التي كانت قد فصلت عنهم منذ وفاة والدتهم عادت لتعيش معهم من جديد , وعادوا للسير سوية والتشاور والقراءة وحتى كتابة الشعر سوية … وغالبا كانت هي التي تدون أشعاره .
عام 1799 إنتقلا الى بيت صغير في جراسمير وهي مدينة صغيرة في نفس المنطقة , البيت كان يدعى عش الحمامة ومازال قائما الى اليوم قريبا من متحف وردزورث.
فيما بعد تزوج وليم من ماري هوتشنسون – وهي صديقة يعرفها هو وأخته منذ وقت طويل عاشت معهما في عش الحمامة هذا .
أما لقاء كولريدج فقد كان شيئا مهما آخر في حياة وليم , فقد إكتشف الشاعران كم هما متقاربان في القناعات والمشاعر وصارا يعلمان بعضهما كتابة الشعر.
حدث أمر لم يكن في الحسبان في الحياة العملية لوليم… له صديق مؤمن به كشاعر, مات وترك في وصيته ثروة صغيرة من المال , كانت كافية لتحرر وليم من الحاجة وتفرغه للكتابة والابداع .
أصبح الحال الآن طيبا وبمساعدة كولريدج ودوروثي وجد وليم طريقه الإبداعي الخاص , كان شعره عن الناس العاديين الفلاحين والرعاة الذين عاش بينهم وكل البشر الحقيقيين .
كتب عن هؤلاء الناس , وعن الأحداث الكبيرة في حياتهم : طفولتهم , صداقاتهم , عملهم , وموتهم . ومثلهم كتب عن نفسه : أفكاره ومشاعره التي نمت معه ليكون شاعرا, وقبل كل شيئ كتب عن الطبيعة , الجبال والبحيرات والبراري , الطبيعة التي تستخرج أحسن ما في الناس .
عام 1798 وكان في الثامنة والعشرين نشر كتابه المشهور مقطوعات شعرية وهو كتاب يضم بعض القصائد لكولريدج أيضا… بعدها بعامين أعاد طبع الكتاب بقصائد مضافة جديدة وفي مقدمة الكتاب تحدث عن شعره وعن ما يريده له حيث يقول ” لإختيار مناسبة وموقف من الحياة العامة للناس , وتوصيفهما بطريقة تمنحهما بعدا حقيقيا من الخيال لأن الأمور الإعتيادية يجب أن تستحضر في الذهن بطريقة غير معتادة “.
واصل وليم كتابة ونشر الشعر, في البداية لم يفهم الناس عمله وعقيدته الشعرية ظانين أنهما عن أمور وأشياء في منتهى الإعتيادية, وحين مرت السنين صار شعره يقرأ من قبل أعداد متزايدة من الناس الذين بدأوا يشعرون ما يريد قوله فعلا.
عام 1815 إستطاع نشر أولى مجموعاته المختارة . لكن شيئا حزينا وقع له خلال هذه الفترة , شقيقه جون مات في البحر عندما غرقت سفينته بسبب عاصفة , وكان حزن وليم عميقا وحادا حيث قال ” حلقتنا الآن انكسرت ” وكان يعني حلقتهم من الإخوة والأخوات قد أصبحت الآن غير مكتملة , وفيما بعد إثنان من أطفاله الخمسة ماتا صغيرين جدا .
عندما مات وليم كان عمره ثمانين عاما , وكان قد أصبح واحدا من أهم شعراء عصره وكان قد سمي من قبل العائلة المالكة بإسم شاعر الإنكليز القومي , لكن الناس وحتى موته لم يعرفوا أنه إحتفظ بأعظم قصيدة له وهي (( الديباجة)) تحدث فيها عن طفولته والأسلوب الذي نشأ به ليكون شاعرا.
عند موته كان وليم مشهورا… لكنه لم يزل وحيدا.
هو وأصدقاؤه إعتادوا تسمية الموجودات في الطبيعة بأسماء ترتبط بهم شخصيا. جدول فلان , أو صخرة فلانة , أو بحيرة المحبة , أو شجرة الحزن… وهكذا حين مات وليم أرادت أخته دوروثي أن تسمي أحد جبال المنطقة بإسم (( جبل وليم )) …. لكنها سمته.. (( جبل عزلة القمة بين الغيوم )) … وقد كانت تلك الصفة المكونة من أربع كلمات توصيف لشخص وليم…ولم تكن توصيفاً للجبل. ميسون البياتي – مفكر حر؟