وفاء سلطان
كان رجل حكيم يتمشى يوما على أحد الشواطئ، فرأى شابا يافعا يقوم بالتقاط الأسماك الصغيرة التي تجرفها الأمواج فوق الرمال، ويعيدها بسرعة البرق إلى الماء كي لا تجف تحت أشعة الشمس الحارقة وتموت. اقترب الحكيم من الشاب وربت على كتفه، ثم قال: يا بني، لماذا تضيّع وقتك الثمين في هذه المهمة المستحيلة، فهناك ملايين الأسماك التي تموت كل يوم، ولن تستطيع أن تنقذها كلها؟! لم يأبه الشاب لنصيحة الحكيم، فالتقط سمكة صغيرة أخرى ثم رماها في الماء، وهو يقول: على الأقل سأنقذ حياة تلك السمكة! ……………………….. كتبت في حلقة سابقة من هذه السلسلة: “جئت إلى هذا العالم لأغيره نحو الأفضل”، فجاءت بعض الردود لتستهتر بقدرتي واتهمتني بالغرور. آلمني الأمر…! تألمت، لا لأنهم يشكون بقدرتي على أن أفعل ذلك، بل لأنهم لا يؤمنون بقدراتهم. لا أحتاج إلى صك اعتراف من أحد، بل يحتاج كل منا إلى أن يمنح نفسه صك اعتراف بقدراته، ولم أبخل يوما على نفسي! من يؤمن بأنه يستطيع هو يستطيع، ومن يؤمن بأنه لا يستطيع هو ـ باختصار ـ لا يستطيع! الحدث ـ أي حدث ـ يقع مرتين، المرّة الأولى في مخيلتك والمرّة الثانية على أرض الواقع. ومادمت لا ترى نفسك مؤهلا لأن تغير العالم نحو الأفضل لن تستطيع، أما أنا فاؤمن، ولذلك استطعت ومازلت أستطيع! لقد رأيت نفسي على منبر الجزيرة قبل أن يحدث ذلك بعشرات السنين، ولقد قلت ما قلته بيني وبين نفسي قبل ذلك بكثير. كتبت لي معلمة اللغة العربية السيدة عبلة النوري، وكنت يومها في الأول إعدادي: “يعجبني فيك حضور البديهة وحسن العمل، لديك موهبة فنميها بالقراءة حتى تثمر. إن الدرب طويلة ولكن ثمرة الصبّار بحلاوتها تظهر من بين الأشواك” ظل قولها هذا محفورا في ثنايا دماغي، وظلت حكمتها ترافقني في مسيرتي الحياتية. لقد اكتشفت بأن الطريق أقصر مما ظنت معلمتي، فالحياة برمتها أقصر مما نتصور، واكتشفت أيضا بأن الطريق لم يكن موجودا وكان عليّ أن أصنعه. في قصة “أليس في بلاد العجائب” تسأل أليس القطة: دليني على الطريق؟ فترد القطة: إلى أين أنت ذاهبة؟ تقول أليس: لا أعرف! فتردّ القطة: إذن لا يهم، بإمكانك أن تسلكي أي طريق! نعم الجهة التي تقصدها هي التي تحدد الطريق، وعدد الجهات هو بعدد الناس. مادمت لا تملك مؤشرا في ذهنك يدلك على الجهة التي تريد أن تقصدها لن تستطيع أن تصنع طريقا خاصا بك. لقد صنعت ذلك الطريق لأنني عرفت منذ البداية أية جهة أردت أن أقصد. ………………….. يسألني صديقي “عائد” من الجزائر: “هل تستطيعين يا وفاء أن تشرحي لي كيف يعيش شخص وأخوه في بيت واحد، ثم يكبرا ليقود كل منهما حياة مغايرة تماما لحياة الآخر؟” وجوابي: نعم، أحدهما التقى بمعلم همس في اذنه عبارة ما، فحفرت تلك العبارة في ثنايا دماغه، كما حفرت عبارة معلمتي السيدة نوري في دماغي، وساعدته تلك العبارة لاحقا ليكون من كان، بينما أخوه لم يسمع تلك العبارة، أو ربما سمع عبارة مغايرة في مفهومها تماما للعبارة التي سمعها أخوه، فالتصقت هي الأخرى في ثنايا دماغه وألزمته أن يأخذ منحا مغايرا تماما للمنحى الذي اتخذه الأول. نعم، كل حرف وكل حدث نسمعه في حياتنا يترك بصماته، ولكن لسبب أو لآخر بعض العبارات أو بعض الأحداث تكون في تأثيرها حدّية كالطلقة. قرأت مرّة مذكرات لاعبة بينغ بونغ صينية جاءت إلى أمريكا لتشارك في إحدى المسابقات العالمية لتلك الرياضة، تقول فيها: “ترعرت في بيت لا يعرف التشجيع، وإنما يفرض علينا الأمور بطريقة عسكريّة فظة، وهذا جزء من الثقافة الصينية. لا أستطيع أن أتذكر نفسي إلا لاعبة، بل أشعر وكأن أمي ولدتني على طاولة بينغ بونغ. وصلت إلى أمريكا بعد أن زوّدني والديّ بخيار واحد وهو أن أفوز، وكاد الخوف من عدم الفوز يدّمرني. قبل اللحظة الحاسمة لدخولي المباراة شعرت بقرب أجلي وخارت قواي، وإذ برجل أمريكي يخرج عليّ من حيث لا أدري فيقترب مني ويربت على كتفي، ثمّ يهمس بلطف في اذني:
You can do it
، بامكانك أن تفوزي! تتابع اللاعبة: شيء غريب حدث في تلك اللحظة، شعرت للمرّة الأولى بأن قوة إيجابية تسري في جسدي كالتيار الكهربائي، وشعرت معها برغبة جامحة للمنافسة! دخلت المباراة وفزت بالمنصب الأول! لم يكن فوزي الأول، لكنني شعرت بحلاوة الفوز أكثر من أية مرّة مضت!” …………. السيدة عبلة النوري والرجل الأمريكي لا يتذكرا ماذا فعلا وماذا قالا، ولا يعرفان عمق الأثر الذي تركته عباراتهما، ولكن هذا هو الواقع: كلمة تدمّر وأخرى تصنع المعجزات! لكي أكون منصفة، ليست عبارة السيدة نوري هي الوحيدة التي تركت أثرها في حياتي، لكنها كانت الأعمق وظل جذرها يمتص ماء التربة التي عشت فيها ويرويني به. من خلال عبارة السيدة نوري تولدت لديّ قناعة بأن القراءة تنمي الموهبة، وبأن الثمرة ستنضج لاحقا، صارت تلك القناعة تستقطب كل ما يكرّسها وتلفظ ما يخالفها! تعالوا نقرأ ما قاله يوما الرسام الشهير بيكاسو:
When I was a child, my mother said to me, “If you become a soldier, you ll be a general. If you become a monk you ll end up as the pope.” Instead I became a painter and wound up as Picasso.
“عندما كنت طفلا قالت لي أمي: إذا أصبحت جنديا سترتقي مع الأيام لتصبح جنرالا، وإذا أصبحت رجل دين سترتقي مع الأيام لتصبح البابا، ولكنني أصبحت رساما وارتقيت مع الأيام فأصبحت بيكاسو” لقد أعطته أمه الحرية في أن يكون من يريد أن يكون، لكنها زرعت لديه قناعة بضرورة أن يكون أفضل من يريد أن يكون. نعم، فالكلمة تصنع من الرجال عظاما وتصنع منهم الفاشلين أيضا. …………… في أغلب الأحيان، يرفض الإنسان أن يعترف بقدرات غيره على إنجاز مالا يستطيع هو أن ينجزه، لأن الأمر يؤلمه ويكرس له عجزه! لا تستطيع أن ترى فشلك بوضوح إلا من خلال نجاح الآخرين، ولذلك ترفض ـ بلا جدوى ـ أن تعترف بذلك النجاح كي لا تشعر بفشلك! تلك حقائق تنطبق على كل شعب وموجودة في كل ثقافة. ولكن في ثقافة تقتل الذات وتكرس الإحباط، كالثقافة الإسلامية، تندر حالات الإبداع ولا يتمّ الإعتراف بها من قبل الجموع إلا عندما تفرض نفسها بالقوة مع الزمن! في تلك الثقافة، لا تعترف الجموع بأية حالة إبداعية إلا بعد مرور أجيال، لماذا؟! لأن الجموع المحبطة ترفض أن تهلل لتلك الحالة كي لا تعترف بفشلها أمام نجاح المبدع. وجود حالة إبداعية يذكر الفاشل بفشله، ولذلك يحاول بكل قواه أن يحاربها، وفي أفضل الأحوال يكتفي بأن يتجاهلها. عندما يندثر الجيل يموت المحبطون ويظل المبدع حيا، يظل حيا في إبداعه. الأجيال الجديدة ترى الإبداع، ورغم إحباطها تعترف به، لأن المبدع ليس موجودا كي يروا في نجاحه مرآة تعكس فشلهم وفي وجوده خطرا يهدد وجودهم. أضرب مثلا لتلك الحالة الشاعر المبدع نزار قباني: مازلت أذكر تماما الحرب التي شنها الفاشلون من الشعراء على نزار. أما اليوم، وبعد موته، فقلة قليلة تلك التي لا تعترف بابداعه! أذكر يوما راح مدرس اللغة العربية يصب جام غضبه على نزار، ومن جملة ما قاله لنا نحن الطلاب: نزار لوطي، ولوطيته تفقده مصداقيته! بصقنا يومها على نزار، ولكن هل يوجد اليوم طالب في العالم العربي لا يغني بنشوة عارمة: قولي…..انفعلي…..انفجري لا تقفي مثل المسمار….! إنّي لا اؤمن في حب لا يحمل نزق الثور؟؟؟؟؟ …………….. الجيل الحالي ـ كجيل مبرمج ومقولب ـ لا يستطيع أن يقرأ من خلال إحباطه كلماتي ولا يستطيع أن يرى من خلال فشله نجاحي. أما الجيل القادم فسيؤمن ـ ليس فقط ـ بأنني قدرت على أن أفعل ذلك، بل سيكون هو نفسه البرهان على ما فعلت، إذ لا ينتابني أدنى شك بأنني أساهم اليوم في خلق جيل عربي أفضل.
تقول المذيعة الأمريكية المعروفة عالميا أوبرا وينفري:
I was once afraid of people saying, who does she think she is? Now I have the courage to stand and say, this is who I am.
“كنت سابقا أخاف من الناس الذين يقولون: من تعتقد هذه المرأة بأنها هي؟ أما اليوم، فأمتلك الشجاعة الكافية لأن أقف في وجوههم وأقول: هذه المرأة هي أنا” لقد خافت السيدة وينفري يوما من أن تعترف بانجازاتها، لكنني لم أشعر بهذا الخوف ولن أشعر يوما، فأنا منذ البداية ـ ولم أزل ـ أعترف بانجازاتي وأعتز بها. ………………….. منذ طفولتي أيقنت بأنني شخص مميز عن الآخرين، وميزاتي لا تجعلني بالضرورة أفضل منهم، لكنها تبرر الغاية من وجدي، فلولا ذلك الوجود لأختلف الكون. في الوقت نفسه أيقنت بأن كل من الآخرين مميز عني، وميزاته أيضا تبرر الغاية من وجوده، فلولا وجود كل منهم لأختلف الكون. لذلك لم أقلد يوما أحدا، ولا أعتقد بأن أحدا يستطيع أن يقلدني! إيماني بفرديتي لم يدفعني لأنكر على الآخرين فرديتهم، ولذلك لا يستطيع أحد أن يسمي تمسكي بتلك الفردية غرورا، بل على العكس تماما ساعدني على أن أعترف وأحترم فردية الآخرين. الفردية لا تعني بالضرورة التفوق، لكنك لا تستطيع أن تتفوق مالم تكن فريدا. Andre Gide، فيلسوف فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر وحائز على جائزة نوبل، دارت معظم كتاباته حول حق الإنسان في أن يكون ذاته وفي أن يعتز بفرديته، قال مرة: أن يكرهك الناس عندما تكون ذاتك خير لك من أن يحبوك عندما تلعب دورا ليس دورك. تعالوا نقرأ معا هذا المقطع من كتاباته أيضا:
What another would have done as well as you, do not do it. What another would have said as well as you, do not say it; what another would have written as well, do not write it. Be faithful to that which exists nowhere but in yourself–and thus make yourself indispensable.
كل شيء قد يفعله الآخرون كما تفعله لاتفعله… كل شيء قد يقوله الآخرون كما تقوله لا تقله… كل شيء قد يكتبه الآخرون كما تكتبه لا تكتبه… كن مخلصا لذاتك التي لا توجد إلا في أعماقك، وبذلك تجعل من نفسك كائنا مهما وفريدا من نوعه…
…………. يكتب إليّ الكثيرون من المسلمين: ألم تقرأي شهادة المستشرق فلان وفلان وفلان بأن محمدا كان قائدا فذا؟!! وأجيب: لست بحاجة أن أقرأ أقوالهم لكي أعترف بان محمدا كان قائدا فذا، فالبرهان فيكم! باستطاعة القائد أن يصعد بك إلى المريخ وباستطاعته أن يقودك إلى حتفك! ولذلك، يولد الإنسان المسلم ميتا ويقضي حياته داخل حدود قبره! كما قادتني عبارة السيدة نوري إلى ما أنا عليه اليوم، قادت سيرة محمد ـ بما فيها غزواته وزيجاته ـ ملايين المسلمين إلى ما هم عليه اليوم. ولذلك، هم لا يؤمنون بقدراتي وأنا لا أكترث بعدم إيمانهم! ليست العظمة في أن تكون قائدا، بل العظمة تكمن في طبيعة المكان الذي تصل بأتباعك إليه! محمد كان قائدا، والمسلمون اليوم يقفون تماما حيث قادهم! فشل محمد، كاسوأة لأتباعه، في خلق إنسان متوازن روحانيا وماديا. ……. الإنسان كيان مستقل يتجسد في “الأنا” عنده، وهو في الوقت نفسه روح تتجسد في العلاقة التي تربط “أناه” بالكون المحيط به. قتل الإسلام الأنا ولم يرتق بالروح، فخرج المسلم إلى الحياة مخلوقا هشّا محبطا غير قادر على أن يفرض وجوده، وغير قادر على أن يكون جزءا من الوجود. يتهمونني بالغرور عندما أتحدث عن قدرتي على تغيير الكون نحو الأفضل، وموقفهم من قراري يعكس عدم إيمانهم بقدرتهم على فعل ذلك. عندما قلت “سأغير هذا العالم إلى الأفضل” لم أخترع شيئا جديدا، فكل منا ـ في الحقيقة ـ يأتي إلى هذا الكون ليغيّره نحو الأفضل. تلك المهمة ـ باختصار ـ هي الغاية من الحياة!
وكما اؤمن بقدرتي على فعل ذلك اؤمن بقدرات الغير، لكن الظروف التربوية والثقافية تجرد بعض الناس من تلك القدرات، وهذا هو حال المسلمين! كل الإنجازات التي يحققها الإنسان في حياته هي نتيجة حتمية لإشباع الأنا والروح عنده معا. يستمد قدرته من إشباع كل جانب ومن التوازن بين الجانبين! ………………… هناك فرق بين الغرور وبين أن يحدد الإنسان مهمة نبيلة ويستخدم قدراته لإنجازها. هو يستمد قدرته على تحديد المهمة وإنجازها من “أناه” المشبعة ومن “روحه” المشبعة ومن التوازن بين الأنا والروح لديه! على العكس تماما، يغترّ الإنسان عندما يملك إحساسا دفينا بأنه ناقص، ناقص في إشباعه لأناه وناقص في إشباعه لروحه، فيتبجح بقدرات لا يملكها وينفش ريشه أمام نجاح وهمي لم يحققه. هو يغتر ليغطي إحساسه بالفشل، وليس عندما يتباهي بنجاح حقيقي! إشباع الأنا ليس أنانية، ولكنك تصبح أنانيا عندما تفشل في ذلك الإشباع أو أن تبالغ فيه على حساب الروح! الشبع حالة طبيعية نصل إليها عندما نأكل، ولكن الجوع كالإفراط في الطعام كلهما يؤذيان! لا يستطيع إنسان على سطح الأرض أن يحب غيره مالم يحب نفسه أولا. حب النفس هو الخطوة الأولى الـتي تؤهلك لأن تكون قادرا على حب الآخرين. كيف تكره نفسك وتستطيع أن تبرر حبك لغيرك؟!! والعكس هو صحيح، كيف تكون في حالة وئام وسلام مع نفسك وتكون قادرا على أن تكره غيرك؟!! قبل أن تقلع الطائرة تزودك المضيفة بالتعليمات التي يجب إتباعها في حالات الخطر، وتشرح لك كيف تستخدم قناع الأوكسجين وكيف تساعد أطفالك على استخدامه. في كل مرة تؤكد لك على ضرورة أن تلبس القناع قبل أن تلبسه لطفلك، لأنك لا تستطيع أن تنقذ غيرك مالم تنقذ نفسك أولا! كانت جدتي تقص علينا حكايات من نسج خيالها وخيال غيرها عن طوفان نوح، وأذكر تماما ما كانت تقوله عن الأمهات وكيف تعاملن مع أطفالهن أثناء الطوفان. على حد خيال جدتي، كانت الأم ترفع طفلها فوق مستوى الماء، ولكن عندما يصل الماء إلى انفها وتعرف بأنها غارقة لا محالة كانت تلقي طفلها تحت قدميها وترتفع فوق جثته في محاولة يائسة لإنقاذ نفسها. لا يهمني من القصة مصداقيتها التاريخية، بل يهمني عمق مغزاها! نعم، إنها الطبيعة البشرية: لا تستطيع أن تنقذ أحدا مالم تنقذ نفسك أولا! الإنسان الوحيد الذي تقضي معه كل ثانية من حياتك هو أنت، ولا تستطيع أن تنجز عملا نبيلا مالم يؤمن هذا الـ “أنت” بقدراتك! ………………… من أنت؟ أنت كائن فريد، فريد من نوعك، فمهما تشابهت مع غيرك هناك ما يميزك عن ذلك الغير. في “الأنا” تكمن فرديتك! يقول فرويد:
Where id was, there ego shall be
، أين توجد الذات لا بد وأن توجد الأنا. ولتحقيق الذات يجب أن تشبع الأنا، أن تشبعها بطريقة معتدلة لا تزيد ولا تنقص عن حاجتها! الأنا هي التي تفصلك عن الكون، هي التي تحدد كينونتك وتؤكد استقلاليتك؟ أما الروح ـ وبمعزل عن مفهومها الديني لأنني لا أعترف به إطلاقا ـ فهي الرباط الذي يشدك إلى الكون فتنصهر فيه وتفقد تلك الإستقلالية. أنت كيان مستقل وفريد من نوعه، ولكنك في الوقت نفسه ـ شئت أم أبيت ـ جزء من الكون ومنصهر فيه! لا تستطيع أن تحقق مهمتك النبيلة، ألا وهي تغيير العالم نحو الأفضل، إلا عندما تشعر بفرديتك وتقبل في الوقت نفسه أن تنسجم مع الكون المحيط بك والذي أنت جزء منه. هذا التوازن بين الفردية والذوبان في الكون، بين أن تكون “الأنا” وبين أن تكون “الروح” هو سر النجاح. والنجاح هنا لا يعني أي نجاح! النجاح هو أن تنجح على الصعدين، على الصعيد الفردي فتشبع “أناك”، وعلى الصعيد الكوني فتشبع روحك! عندها ـ وعندها فقط ـ تصبح قادرا على أن تحب نفسك وتحب في الوقت نفسه غيرك! عندها ـ وعندها فقط ـ تشعر بتوازن بين عالمك الداخلي والعالم الخارجي الذي تنتمي إليه، وتعيش حالة من الإنسجام بين العالمين. هذه الحالة اسميها السعادة، وهكذا أعرّف السعادة. السعادة هي حالة تعيشها وليس مجرد إحساس ينتابك، هي حالة من الإنسجام والتوازن بين قوة تشدك لأن تكون ذاتك وقوة أخرى تشدك لأن تكون جزءا من كونك، تماما كتلك التي تصل إليها كفتا الميزان عندما تحمل كل منهما نفس الثقل! قد تكون حزينا لكنك في الوقت نفسه تعيش تلك الحالة، فالحزن ـ ليس بالضرورة ـ عكس السعادة! الحزن هو إحساس مجرد إحساس عابر، والسعادة هي وضع تستطيع أن تعيشه في كل ثانية من حياتك بغض النظر عن منغصات تلك الثانية. قد يموت عزيز لك فتحزن بعمق، لكنك تظل سعيدا مادمت محتفظا بالتوازن بين “الأنا” عندك وبين روحك. قد تربح اليانصيب فتشعر بفرح غامر، لكنه فرح مؤقت قد يزول مع غياب الشمس مادمت لا تشعر بذلك التوازن!
الشقاء ـ وليس الحزن ـ هو الحالة المغايرة للسعادة، وهي حالة دائمة من الحزن والإحساس بالإحباط تهيمن عليك حتى في ذروة فرحك.
تلك الحالة مردها إلى فقدان التوازن بين الـ “أنا” وبين الروح عندك!
Clare Booth Luce
، من أشهر نساء أمريكا في القرن العشرين.
تعرفت على زوجها وهي في ذروة نجاحها ككاتبة سيناريو مسرحي، فمارس عليها هيمنته وأقنعها بضرورة الإنخراط في العمل السياسي. لقد طبقت شهرتها الآفاق كسياسية، فاُنتخبت مرتين كعضوة في الكونغرس الأمريكي واشتغلت حقبة من حياتها كسفيرة أمريكا في ايطاليا.
في مقابلة لها، قالت: لو قدر لي أن أكتب مذكراتي لنشرتها تحت عنوان “مذكرات فاشلة”. وتابعت تقول: لقد ولدت لأكون كاتبة مسرح، لكنني وبسهولة تخليت عن ذاتي، ولا أعرف إن كنت قادرة على أن أسترجع تلك الذات. لقد صفق العالم لي، لكنني لا أستطيع أن أصفق لنفسي، فأيَ نجاح هذا؟!!” …………… إنني أعيش تلك الحالة من التوازن، ولذلك اؤمن بقدراتي على تغيير العالم نحو الأفضل! لقد أشبعت “الأنا” عندي وانتهى ذلك الإشباع عند حدود الروح، وكذلك اشبعت الروح وانتهى إشباعي لها عند حدود “الأنا”! لم أسمح لواحدة أن تتخطى حدود الأخرى، وظل التوازن بين الكفتين قائما. أنا وفاء سلطان، أنا لست أمل ولا سهى ولا فاطمة، ووفاء سلطان هي الـ “أنا” عندي، هي فرديتي التي أعتز بها. لكنني في الوقت نفسه أنا أم وزوجة وصديقة وطبيبة وكاتبة، وكل دور من هذه الأدوار يصهرني في الكون الذي أعيش فيه فيسمو بروحي. أنا الأم التي يربطها بالكون أولادها، وأنا الزوجة التي يربطها بالكون زوجها، وأنا الصديقة التي يربطها بالكون أصدقاؤها، وأنا الطبيبة التي يربطها بالكون مرضاها، وأنا الكاتبة التي يربطها بالكون قراؤها. لم أسمح يوما لوفاء سلطان أن تطغى على الأم أو الزوجة أو الصديقة أو الطبيبة أو الكاتبة فيني، ولكنني في الوقت نفسه لم أسمح لأي من تلك الأدوار أن يلغي وفاء سلطان، أي “الأنا” عندي! قد يلعب غيري تلك الأدوار وينجح، لكنه يفشل في أن يكون “الأنا” عنده فلا يحقق حالة التوازن الذي وصلتها. وقد يفرط أحد في إشباع “أناه” فيفشل في أن يلعب أي من تلك الأدوار، ولا يحقق بالتالي حالة التوازن تلك. التربية الإسلامية تحطم “الأنا” عند المرأة حتى تخمد، وتنفخ “الأنا” عند الرجل حتى ينفجر، وفي الوقت نفسه لا تسمو بالروح لدى أي من الطرفين! لا تسمو بالروح لأنها تتبنى ثقافة “إبادة الآخر”، والروح لا تحلق إلا على جناح ذلك الآخر! في معظم الأحيان، وفي ظل تلك الثقافة، تلعب الأم دور المازوشية فتحرق نفسها في سبيل أطفالها، ويلعب الأب دور السادي الذي يحاول أن يشبع “أناه” المضخمة أصلا وتشريعا على حساب أولاده. يكبر الأولاد ويتزوجون، فتذهب سكرة الوالدين وتأتيهما الفكرة، ويشعر كل منهما بضرورة إشباع الجانب الذي أهمله. في تلك المرحلة تنقلب الأم إلى كائن ساديّ، فتبدأ باستخدام مازوشيتها كمبرر لتمارس طغيانها، وينزوي الأب متخليا عن أنانيته في محاولة يائسة لإستعادة ثقة أولاده به على أمل أن ينعش روحه.
هذا السيناريو يتكرر دائما وأبدا في مجتمعاتنا الإسلامية، فينعكس على حياة الأبناء ويساهم في تحطيم علاقات زوجية وتدمير بيوت بكاملها. ولما كان المجتمع ـ أي مجتمع ـ هو مجموع عائلاته، ترى المجتمع الإسلامي برمته ليس أفضل حالا من أسوأ عائلة فيه. ……………………………. الأديان عموما ـ وخصوصا تلك التي تسمى سماوية ـ تسلخ الإنسان عن كونه اللامتناهي، وتزج به في علاقة جدا محدودة وحديّة تربطه بشيء وتفصله عن أشياء. ولذلك ـ عكس ما ترمي إليه ـ تفرغ في معظم الأحيان الإنسان روحانيا! يبدو الكون وكأنه حلبة رقص، كل نغم فيه ينسجم مع إيقاع الآخر، أما ذلك المخلوق المقولب عقائديا فيرقص على نغم يُعزف داخل رأسه، ويسمعه هو دون غيره، لذلك تأتي إيقاعاته نشاذا تسيء إلى فنية اللوحة وجمال العرض! راودتني تلك الفكرة أثناء فترة الإستراحة، بعد حضوري للجزء الأول من باليه سيفونية “بحيرة البجع” لتشيكوفسكي، وهي تعرض من قبل فرقة روسية على أحد مسارح هوليوود، وتعتبر واحدة من أعظم الباليه الكلاسيكية في تاريخ البشرية. أثناء العرض انسجمت مع الإيقاع حتى صرت أحس بأنني جزء منه، توحدت في كل حركة بطريقة انسيابية ساحرة.
تجمدت في مكاني خوفا من أن أحرك يدي بطريقة نشاذية تسيء إلى فنية اللوحة. لم أعد أشعر بالزمان والمكان فانفصلت عن “أناي” وصرت جزءا منصهرا مع الكل. تخيلت وأنا أشرب بعض المرطبات في انتظار الجزء الثاني لو أن راقصة شرقية قد اقتحمت العرض بدون سابق تخطيط، وراحت تهز بطنها ومؤخرتها على أنغام موسيقى “ركبنا عل الحصان” وهي تعزف داخل رأسها، تخيلت كم ستكون نشاذا، وكم ستسيء إلى إنسجامية العرض! هكذا تماما أشعر عندما أصغي إلى رجل دين مسلم في إحدى الفضائيات الإسلامية وهو ينفث سمومه، ويعلم أطفالا صغارا كيف يجب أن نتعامل مع غير المسلمين من اليهود والنصارى! Joseph Campbell، عالم ميثولوجيا أمريكي، كاتب ومحاضر، قال:
The goal of life is to make your heartbeat match the beat of the universe, to match your nature with nature. .
“الغاية من الحياة أن تجعل ضربات قلبك منسجمة مع إيقاعات الكون، أي أن توافق بين طبيعتك وبين الطبيعة” عندما ينكر الدين حق الآخر في الوجود يفقد روحانيته ويتحول إلى دوغما إرهابية، لأن الروح هي العلاقة التي تربط الإنسان بكونه، وما هذا الآخر إلا جزء من ذلك الكون. إما أن يقبل الإنسان الكون برمته، بما فيه من يختلف معه في أهوائه وعقيدته، وإلاّ سيبقى كائنا وهميا يتمحور حول نفسه كالشرنقة التي تموت قبل أن تتحول إلى فراشة. لا أتصور، من خلال تجاربي وعلومي، بأن انسانا يقرأ الآية (واقتلوهم حيث وجدتموهم) ويؤمن بألوهيتها ـ بغض النظر عن الظروف التاريخية التي كتبت فيها ـ ويظل قادرا على أن يتوحد في كونه ويسمو بروحه.
لا تستطيع أن تقتل وتظل جزءا متوحدا في كونك، فعندما تقتل شخصا إنما تقتل جزءا من هذا الكون الذي يفترض أن تتوحد فيه كليا. لم يقض الإسلام على العلاقة الروحية التي تربط المسلم بغيره وحسب، بل صار هو الـ “الأنا” عنده. صار محمد هو “الأنا” عند كل مسلم. خسر المسلم عندها “أناه” الحقيقة واحتفظ بـ “أناه” المزيفة، ولذلك ظل هشا وظل محبطا، وفقد إيمانه بقدراته على تحسين عالمه نحو الأفضل. عندما ترى سنيّا يقطع رأس رهينته وهو يصيح: بأبي وأمي أفديك يا رسول الله، وعندما ترى شيعيا يضرب نفسه بالسكين حتى ينزف دما، وهو يصيح: بأبي وأمي أفديك ياحسين يا حفيد رسول الله، عندما ترى ذلك السيناريو تتعرف على مخلوق تهشمت روحه وتحطمت “أناه”! عندما سئل رجل دين سني في كاليفورنيا عن رأيه بمقابلتي بالجزيرة، ردّ: وفاء سلطان علوية، والعلويون مارقون على الدين! هذا الرجل ليس سوى مخلوق فقد روحانيته وانفصل عن كونه، هو يعيش كالحلزون الميت داخل قوقعته. هذا الرجل فقد قدرته على أن يرى في الكون جماله، ناهيك عن أن يكون نفسه جزءا من ذلك الجمال. هو لا يقبلني ـ بغض النظر عن آرائي ـ لمجرد كوني علوية، وهو أمر يدرك حق الإدراك بأنه لم يكن خياري! طالما لا يقبلني لأنني علوية، لا يستطيع أن يقبل غيري، حتى ولو كان ذلك الغير جاره السني! لن يقبله لمجرد أن يختلف معه حول لون قميصه، وطالما يرفضني ويرفضه لن يستطيع يوما أن يقبل نفسه. عندما تكون قادرا على أن تنبذ إنسانا آخرا لأمر لم يقترفه، لا يمكن أن ترى الجمال في نفسك. كيف يستطيع ذلك الرجل أن ينظر في عيني طفل، متجاوزا إنتمائه الطائفي، ويرى عظمة الخالق فيه؟!! كيف يستطيع أن يسمع زقزقة عصفور، وينصت إلى صوت الإله فيه؟!! كيف يستطيع أن يراقب فراشة ترفّ حوله ويشعر بدينامكية الكون في رفتها؟!! لقد سربله الحقد حتى أفقده روحانيته وأفقده معها كينوتنه! لو سئل هذا الرجل: من هو الله، كيف يستطيع أن يتصوره؟!!! كونفوشيوس قال يوما: كل شيء وله جماله، ولكن لا يستطيع كل إنسان أن يرى الجمال؟ فهل يستطيع ذلك الرجل أن يرى الجمال في أي من مواطنه؟!!
Henry David Thoreau
، أحد فلاسفة أمريكا في القرن الثامن عشر يقول:
You cannot perceive beauty but with a serene mind.
“لا تستطيع أن ترى الجمال مالم تملك عقلا صافيا ونقيا” أين الصفاء في ذهن رجل لا يستطيع أن يرى غيره إلا بمنظاره الطائفي، ومن خلال عدسته الضبابية؟
ليس في عقل ذلك الرجل إلا برميل قمامة لم يتم تفريغه منذ أربعة عشر قرنا من الزمن، فهل يستطيع أن يقرأ كلماتي يوما متجاوزا أوساخ ذلك البرميل؟!
لو قال “أنا ضد وفاء سلطان لأنها قالت كذا وكذا” لأختلف الأمر، ولكن أن يعتبرني مارقة لمجرد أنني لم أولد سنيّة، فإنه الحقد الذي يسلخ الإنسان عن كونه، ويجرد “الأنا” من روحها! يؤسفني أن يولد ذلك الشيخ ويعيش دهرا ثم يموت قبل أن يحيا!! يؤسفني أن يموت قبل أن يحقق الغاية من حياته، وهي تحسين عالمنا نحو الأفضل! يؤسفني أن يموت ولا يترك وراءه أثرا طيبا يخلّد ذكراه! يؤسفني أن يموت قبل أن يسمو بروحانيته، وقبل أن يساهم ولو في إنقاذ حياة سمكة واحدة! الرجل الذي يقزم عظمة هذا الكون ليجعل منه “سنيّا” صرفا، هو ـ باختصار ـ رجل لم يحس يوما بجمال ذلك الكون، ولذلك يؤلمني أن يولد ويموت قبل أن يستمتع بذلك الجمال. وفاء سلطان (مفكر حر)؟