مفكر وكاتب عراقي
وزارة الخارجية من الوزارات السيادية التي ينصب إهتمامها على علاقات الدولة الخارجية سواء الثنائية، أي مع دولة معينة أو متعددة الأطراف، اي مع منظمات وإتحادات ونقابات أقليمية أو دولية كالأمم المتحدة والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي والإتحاد الأوربي، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية كمنظمة العفو الدولية ومراقب حقوق الإنسان وغيرها. وإن كانت وزارة الدفاع مسؤولة عن حماية الأمن الخارجي، ووزارة الداخلية مسؤولة عن الأمن الداخلي حسب نصوص الدستور، فأن وزارة الخارجية من حيث المسؤولية تغطي مساحة أكبر منهما، لأنها المعنىية بحماية سيادة الدولة والحصن الحصين لإستقلالها السياسي والإقتصادي الذي يمنع الدول الأخرى من التدخل في الشؤون الداخلية للدولة، وهي صمام علاقات حسن الجوار.
كما تحافظ وزارة الخارجية على كرامة الدولة وهيبتها في المحافل الإقليمية والدولية، ليس من منطلق القوة كما تفعل الدول الكبرى فحسب، بل من مبدأ المقابلة بالمثل. وهذا المبدأ كفلته الشرعية الدولية، وإتفاقية جنيف للعلاقات الدبلوماسية. مثلا، عندما إعتدى البوليس الأمريكي على دبلوماسية هندية، أقامت الهند الدنيا عى رؤوس الأمريكان، وأتخذت الحكومة الهندية عدة أجراءات مشددة منها المعاملة بالمثل مع دبلوماسي امريكي، وتحديد حركة المسؤولين الأمريكان ورفع الإمتيازات عنهم. بل رفعت الحواجز الخراسانية المحيطة بالسفارة الأمريكية في نيودلهي، وصرح رئيس الوزراء حينها بأن على الولايات المتحدة أن تعرف مع من تتعامل وكيف تتعامل؟ إنها الهند! وفعلا كان درسا بليغا لحكومة أوباما إتعض منه.
من المؤسف أن وزارة الخارجية العراقية التي أذهلت العالم بنشاطها وتحركاتها الفاعلة خلال الحرب العراقية الإيرانية والحربين مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها العرب والأجانب، قد خفٌ بريقها وهو آيل حتما الى الغروب، بسبب الولاءات المتعددة للحكومة من جهة، ولوزراء الخارجية من جهة أخرى، وهي ولاءات غير وطنية. وقد إنعكس نظام المحاصصة الطائفية على عمل وزارة الخارجية فصارت كالأطرش في الزفة، حيث لا يوجد معيار واحد في التعامل على مستوى العلاقات الثنائية. فهي تتبع الدبلوماسية الخشنة مع الدول العربية، وفي نفس الوقت تتبع الدبلوماسية الناعمة مع الولايات المتحدة وولاية الفقيه. ولو ألقينا نظرة إلى الخلف لوجدنا تصريحات نارية من زارة الخارجية العراقية ضد السعودية والإمارات وتركيا، وردود فعل مسعورة لا تتناسب مطلقا مع التصريحات والمواقف التي أتخذتها هذه الدول، على الرغم من أن هذه المواقف لا قيمة لها مقابل المواقف والتصريحات الإيرانية التي تمس سيادة الدولة وكرامة الشعب العراقي وهويته الوطنية. فالوزارة أسد هصور مع العرب وجرذ مرتعب مع نظام الملالي الحاكم في إيران.
علاوة على ذلك، الوزارة بحد ذاتها لا قيمة ولا إعتبار لها عند الحكومة والبرلمان، فقد دأب الكثير من الوزراء والبرلمانيين بالإدلاء بتصريحات عكرت صفو العلاقات مع الدول العربية دون الرجوع الى وزارة الخارجية حسب الإختصاص، أو التنسيق معها قبل الإدلاء بالتصريح، هذه الفوضى واللغو الرسمي جرد وزارة الخارجية من ورقة التوت الأخيرة، وجعلها إضحوكة أمام العالم، سيما أن التصريحات نفسها تتكاثف أو تتلاشى وفقا للأجواء السياسية والمصالح الذاتية لأصحاب التصاريح. إن عملية إصدار التصريحات من جهة ونفيها بعد حين من جهة أخرى، أو تأويلها وتعديلها تعكس حالة الفوضى التي يمر بها العراق على كافة الأصعدة وليس السياسة الخارجية فحسب.
لم يكن للوزارة دور في الكثير من المواقف التي مر بها العراق خلال الإحتلالين الأمريكي والإيراني كأنها في وادي ومصلحة العراق في وادي آخر، إتهامات للولايات المتحدة حول التعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية، تدخلات إيرانية في كل مفاصل الحكومة، تهريج حكومي وبرلماني في المحافل العربية والدولية. غموض في الكثير من المواقف الحكومية، حالى الركود في العلاقات مع الدول العربية، طلاسم وحزورات يتمنطق بها الوزير الحالي تعبر عن فراغ عقلي مريب. عدم متابعة الكثير من الملفات، كملف المياه، والحدود، الفصل السابع، حقوق الإنسان، المشاركة في الوفود التي تقوم بها بقية الوزارات وغيرها.
يمكن تقييم موقف وزارة الخارجية من خلال الموقف تجاه التصريح العدواني الإيراني الأخير، وليس الأخير أيضا، الذي يشكل إنتهاكا صارخا لسيادة العراق، وتدخلا سافرا في شؤونه الخارجية، وإعتداءا بليغا على إستقلاله السياسي، وتلويث لعلاقات حسن الجوار، بل إهانة للحكومة والشعب العراقي على حد سواء. فقد صرح علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني ( حسن روحاني) في كلمة له خلال مؤتمر عقده بطهران ونقلته (وكالة أنباء الطلبة الإيرانية إيسنا) بأن” ايران كانت منذ ولادتها إمبراطورية، وأن بغداد اصبحت جزءا من الامبراطورية الايرانية، فالعراق ليس جزء من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا، وهو عاصمتنا اليوم. وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء”. مضيفا كذلك من إسهال فموي حاد “يجب أن نستعيد مكانتنا ووعينا التاريخي، أي أن نفكر عالميا، وأن نعمل إيرانيا وقوميا”.
الحقيقة إن هذا الموقف ليس جديدا على مستشار الخامنئي، فقد وقف نفسه بقوة ضد الرئيس السابق خاتمي الذي كان يعارض سياسة توسيع النفوذ الإيراني في المنطقة. وتصريحه الأخير لم يكن إعتباطيا فهو رجل ذو خلفية مخابراتية سابقا، وإستشارية لاحقا، أي يعي ما يقول جدا ولا يُعد كلامه زلة لسان ومن قيطان الكلام. التصريح واضع وهو يعكس العنجهية الملازمة لولاية الفقية والنظرة الدونية للعراقيين سنة وشيعة على حد سواء. ربما يحاول البعض أن يبرر التصريح بأن يونسي نفسه وضح رؤيته لاحقا بأنه لا يقصد العراق الحالي وإنما العراق في العهد الساساني! لكن التوضيح لا يخدم التصريح! لأنه ذكر بصريح العبارة” العراق هو عاصمتنا اليوم”، فهو يتحدث عن العراق الحاضر وليس عراق العهود الغابرة! وجاء في تصريحه “العراق ليس جزء من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا”. لاحظ! لقد ترك التأريخ سائبا بدون سقف زمني! كما إنه لم يشر في تصريحه الأولي الى كلمة (ساساني) مطلقا!
لم يكن للبرلمان أي موقف تجاه هذا التصريح العدواني! وهذا عهدنا به! ولكن لو جاء هذا التصريح من قبل مسؤول تركي أو سعودي لأقام البرلمان القيامة. ولم يكن لحيدر العبادي أي موقف فالرجل بيدق على رقعة شطرنج الولي الفقيه، ولو تجرأ لكان مصيره (كش ملك). أما موقف وزارة الخارجية، فقد جاء من خلال تصريح وحوار مع وزير الخارجية إبراهيم الجعفري أجرته صحيفة الشرق الأوسط في 11/3/2015 ” العراق يتمتع بسيادة كاملة، ولم ولن يسمح لأحد بأن يتدخل في سيادته وشؤونه الداخلية. منذ زمن بعيد حدث خلل في العلاقات عندما كانت المعارضة من أبناء القوميات والمذاهب تذهب إلى إيران، وانتقلت هذه الرعاية حتى إلى مرحلة ما بعد السقوط (سقوط نظام صدام حسين). وفي مرحلة أخرى وقفت إيران إلى جانبنا واعترفت بالحكومة العراقية، وقدمت المساندة والدعم، وحتى موقفها الأخير من الغزو الإرهابي كان مشرفا للغاية. وعندما يثبت لدينا ما يمس بسيادتنا فإننا لن نتسامح أبدا مع أي دولة سواء كانت إيران أو غيرها”.
لاحظ التصريح إتسم بالدبلوماسية الناعمة والعمومية ” عدم التسامح مع أي دولة سواء كانت إيران أو غيرها”. كما إن التصريح تضمن إشارات إيجابية لإيران أكثر من السلبية! ولم يشر الجعفري إلى إسم المستشار (علي يونسي) ولا إلى تصريحه! كما ورد نوع من التشكيك في التصريح الإيراني بقول الجعفري” عندما يثبت لدينا ما يمس بسيادتنا”. فهل التصريح لم يثبت بعد؟ أم إنه هين يمكن تمريره بسهولة من تحت أقدام العراقيين؟ ثم ما المقصود بعبارة “لن نتسامح”؟ وإي إجراءات يتضمن عدم التسامح؟ وهل يجرأ حيدر العبادي أوجحش أهل السنة قتيبة الجبوري أو مفجر الحرب الأهلية إبراهيم الجعفري بإتخاذ أي إجراء ضد نظام الملالي؟
جاء في تصريح وزارة الخارجية وصف ترهات يونسي بأنها ” تصريحات لا مسؤولة “! عجبا! كيف غير مسوؤلة ومصدر التصريح مستشار الخامنئي ورئيس جهاز المخابرات السابق؟ أما قول الوزارة بإنها أبدت” استغرابها للتصريحات المنسوبة إلى الشيخ علي يونسي المستشار للسيد الرئيس الايراني بخصوص العراق”. فالغرابة هي في تصريح وزارة الخارجية العراقية، وليس في تصريح يونسي. يبدو أن الوزارة كانت نائمة ولا تعرف التصريحات المسيئة الأخرى التي سبقت هذا التصريح! ويمكن للوزارة أن ترجع إليها لكي تمسح صفة الإستغراب المذل عن نفسها.
إن أول وأهم أجراء تتخذه أي وزارة خارجية محترمة في العالم ـ وفق الدبلوماسية الناعمة على أقل تقدير ـ هو إستدعاء السفير الإيراني للوزارة وتقديم مذكرة إحتجاج شديدة اللهجة عن التصريحات الإستفزازية! لكن هل يجرأ الجعفري على القيام بهذا الإجراء الدبلوماسي السليم؟ الجواب كلا! لأن السفير الإيراني في العراق فوق الحكومة العراقية وبرلمانها ووزير خارجيتها.
الحقيقة إننا لم نستغرب موقف المسؤولين الحكوميين والنواب الشيعة من هذه التصريحات المسيئة للشعب العراقي بأجمعه، لأنهم ينطلقون في مواقفهم من شعار” هيهات منا الذلة “! ولكن الغرابة في موقف النواب والمسؤلين من جحوش أهل السنة! فعلا إذا ذهب الحياء حلٌ محله البلاء. تصوروا مرجعية النجف أستنكرت التصريح وان كان الإستنكار شفاف وعلى حياء، ولكن الجحوش لم تستنكر!
في الأخير نود أن نلفت إنتباه الجميع بأن هذه التصريحات تخدم تنظيم الدولة الإسلامية لإستقطاب المزيد من أهل السنة إلى جانبها، فقد علق المتحدث بإسمهم أبو محمد العدناني على تصريح يونسي قائلا” فها هم اليوم كشروا عن أنيابهم وقد اعلنوا عن امبراطوريتهم بكل صراحة وعاصمتها بغداد.”
علي الكاش