ليس هناك، اليوم، أي شيء عادي لدى السوريين، نظامهم متوحشٌ إلى حد يجعله يقاس بمعايير، لا علاقة لها بالنوع الإنساني وقيّمه. ومعارضتهم منقسمة، متناقضة ومتصارعة، وعاجزة إلى درجةٍ تخرجها من عالم السياسة، وتحتم إدراج ممارساتها في عوالم الفوضى المنظمة، أو العشوائية التي تجعل انقساماتها هدفاً قائماً بذاته، ومن الحرص على خلافاتها شكل التوافق الوحيد الموجه لعملها العام. أما جيشهم الرسمي، فقد أثبت أنه أشد فتكاً وبطشاً من أي جيش احتلال مر على أي بلد: منذ أيام الفرس والرومان، مروراً بأيام التتار والغزاة الأوروبيين، وصولا إلى يومنا، في حين يغرق جيشهم الحر في حالٍ يبدو معها وكأنه يتفرج على الأحداث، فهو لا يقوم بأيّ أفعال تستبق ما لا يناسبه منها، كأنما قرر العزوف عن بذل أي جهد منظم ومدروس، لإحباط خطط النظام وتحضيراته الحربية، بما فيها التي يعلن عنها بصراحة ووضوح. ومع أن بعض وحدات هذا الجيش تستفيق من سباتها بين حين وآخر، لا تلبث استفاقتها أن تتراجع بعد فترة، لتكون وقتية من الصعب اعتبارها تدابير تمليها ضرورات الصراع مع نظامٍ همجي ومتوحش.
لا عجب أن يشعر مقاتلو هذا الجيش بغضب دائم، ويتهموا قياداته بتجاهل الحقائق الميدانية، والاكتفاء بأحاديث جوفاء عن القرار الوطني المستقل، بينما يقبلون توزيع ما يردهم من أسلحة وذخائر حسب “توصيات” يتلقونها من الخارج، ويسكتون عن تجاوزاتٍ خطيرةٍ ومتزايدةٍ يمارسها أشخاصٌ، يفترض أن لديهم حداً أدنى من الشعور بالمسؤولية، لكنهم قبلوا أن يتحولوا إلى أمناء مستودعات، يمنعهم سلوكهم من أن يصيروا قادة جيش وطني ثوري ومقاتل، ينافسون في الخفة والاستهتار بمصالح الثورة والشعب المعارضة السياسية داخل “الائتلاف” وخارجه، والتي تحولت إلى عبء على الثورة والسياسة، ومنعت مؤسسة تمثيلية من بلورة استراتيجيات وخطط عمل وطني، ولعب دور قيادي في أحداث تتخذ ميلاً انحدارياً بسبب ممارساتها التي لعبت أخطر الأدوار في تدهور أحوالها وتراجع أوضاعها.
بدوره، يحار شعب سورية في فهم ما يجعل ثورةً أطلقها من أجل حريته ووحدة مجتمعه ودولته تنقلب إلى فوضى خلاقة، وسعار طائفي مجنون، ومذهبية تأكل الأخضر واليابس، يدفع المواطن ثمنها من دمائه ودموعه. ويزيد من حيرة الشعب كيف تقاطع عنف النظام مع سياسات وممارسات أطراف معارضةٍ، طالما ادعت الثورية، لكنها باغتت الأسد بأعمال لاقته في منتصف الطريق، وساعدته من دون قصد على حرف الثورة عن أهدافها، وأخذها إلى حيث أراد.
يمثل التناقض بين وحشية النظام، في تعامله مع الثورة، وخفة المعارضة، في تعاطيها مع هذه الوحشية، هوة كانت ستبتلع البلاد والعباد، لولا تضحيات شعب تجل عن أي وصف. هل الثورة هي التي فتحت أعيننا على هذا التناقض الذي كان جلياً قبلها، وخشي السوريون ان يعرضهم في حال ثاروا على النظام، لهمجية قمع سلطوي على قدر مرعب من الاستفحال والشطط؟ مهما كان الجواب، فإن للتناقض بين وحشية النظام وخفة المعارضة نتائج وخيمة، تتجسد، اليوم، في حقائق واضحة كتلك الإعلانات المتكررة التي عبر المعارضون، فيها، عن نيتهم التخلص من عشوائية سياساتهم، من دون أن يبادروا إلى اتخاذ خطوات عملية، تخرجهم منها، مع أنه لا يوجد بين أحزابهم وقادتهم وتجمعاتهم حزب أو قائد أو تجمع، لا يدّعي امتلاك حلول جاهزة لكل ما يواجه الثورة والشعب من مشكلات ومصاعب؟
يبدو أننا سنتأرجح فترة غير قصيرة على حبال التناقض بين وحشية النظام، في تصديه للثورة وخفة المعارضة في تصديها له ولمشكلاتها. هذا التناقض ليس اليوم، ولم يكن بالأمس، أمراً عارضاً أو قليل الأهمية، بل هو نتاج نظام كتم أنفاس الشعب طوال خمسين عاماً، وسحق أي حراك يقوم به من أجل حقوقه، ومعارضة هشة قوض القمع المستمر عافيتها وقدراتها، الجسمية والعقلية، وأفقدها الرغبة في المبادرة وحسن التدبير والتفكير، تقف، اليوم، في مواجهة عجزها عن فعل ما يمكن أن يخرجها من أزمتها، ويجعلها قادرة على الإفادة من تضحيات شعبها، وتجنب ما زرعه النظام في طريقها من أفخاخ، ورسم سياسات تقلص، ثم تحذف، هوامش المناورة التي تتيحها له، وتعينه على البقاء، تعزز، أخيراً، تفوق حرية الإنسان والمواطن على ذل وقمع نظام همجي، لم يعرف العرب له مثيلاً اليوم وبالأمس، وفي أي تاريخ .
هل هناك ما هو أخطر على الثورة من تناقض يقر الجميع بوجوده، ويعاني الجميع منه، ويظهرون الخوف من نتائجه، لكنهم لا يبادرون إلى ردم ما يتركه في واقعهم السياسي والعسكري من فوارق عملية بين نظام مجرم، لكنه يخطط ويشتغل بمنهجية، ومعارضة على حق فيما تنشده، لكن خفتها تسوقها إلى التمسك بعجزها، وما يترتب عليه من إخفاق وفشل قاتلين؟