هل نصدق سيد مكاوي؟

فضيلة الجفال: الشرق الاوسط

كان أغلب كبار السن من أقاربي الذين رحلوا – ممن عاصروا بدايات النفط في السعودية – وللمفارقة – يكتبون اللغة الإنجليزية من دون العربية. وهذا أمر متعارف عليه حين نستذكر ماضي المنطقة، وكيف أثر وجود فريق الشركات الأميركية، الذين جاءوا للتنقيب عن النفط، على النواحي الثقافية الحياتية على سكان المنطقة الشرقية. كان هذا قبل ظهور التعليم والمدارس، سوى الكتاتيب، بالنسبة للأجداد الذين عاصروا كشبان عقود العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم، فتعلموا كتابة الإنجليزية لاحقا حتى قبل العربية. وقد سيطرت فيما بعد اللغة الإنجليزية كلغة أعمال

Business،

 وكان والدي – رحمه الله – وهو موظف نفطي سابق – يتحدث بلغة مدمجة في يومياتنا: عربية مطعمة بإنجليزية.

الكتابة عن اللغة العربية موضوع مليء بالأسئلة الصعبة عن واقعها الحالي والمستقبلي. أقول ذلك وأنا الذي يجد في اللغة الإنجليزية لغة الحياة، ولغة حية بالعلم والتقنية والاقتصاد وبوابتنا إلى التواصل العالمي والأفق الكبير. يتزامن ذلك مع فقر مدقع في المحتوى العربي المعرفي، إضافة لبعض العجز أمام لغة التقنية والعلم الديناميكية الشرسة. سألني البعض في نقاش: هل نصدق سيد مكاوي حين غنى بعاطفية: «الأرض بتتكلم عربي»، أم نصدق عميد الأدب العربي طه حسين حين قال «لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم، لما كانت بلجيكا ولا سويسرا ولا أميركا ولا البرازيل ولا البرتغال»؟

أكتب ذلك وأنا أراقب من بعد المبادرات التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد للحفاظ على اللغة العربية وتعزيز مكانتها في المجتمع. وقد أظهرت الإمارات من خلال هذه المبادرات أفعالا على أرض الواقع، فتجد جهودا مكثفة ومتحيزة للغة، منها – مثلا – من قبل جمال بن حويرب – العضو المنتدب لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الذي ناقش إمكانية تداخلات فرض التعليم بغير العربية مع الدستور الإماراتي. وأنى اتجهت تجد نتاج مشروع «كلمة» للترجمة – برئاسة علي بن تميم – كتبا مرصوفة على أرفف المكتبات، مترجمة عن اللغات العالمية، والذي ترجم إلى العربية حتى الآن أكثر من 780 كتابا. وهو رقم كبير قياسا بالمدة الزمنية، وغيرها من الجهود والطموحات. وهذا بحد ذاته مؤشر عظيم من منظور الأمن اللغوي الذي يقتضي أن نحمي اللغة من الاحتضار بالاستعمال والتطوير.

الإحصاءات تشير إلى أن المواد المعرفية المنشورة بالإنجليزية على الإنترنت نحو 83 في المائة، هي اللغة الأولى بلا منافس. هل مارست الإنجليزية نوعا من الإمبريالية اللغوية؟ لا، فذلك تم بالحتمية والضرورة التي فرضتها طبيعة ما تقوم به الدول العظمى، كقوى اقتصادية علمية معرفية تقنية عسكرية. و«لا» أيضا لأنه من المهم النظر إليها من باب المواءمة، أي ضمن احتياجات محلية للبلدان لتواكب العالم. ومن أبرز أمثلة ذلك التجربة اليابانية التي تستحق التأمل، حيث أدخلت المعارف والعلوم العالمية من دون التنازل عن خصوصيتها الشرقية، وهي التي يتحدث بها عدد يقارب عدد المتحدثين بالإنجليزية.

قد يشبه الأمر بالنسبة للغة العربية الآن ما عاشته اللغة الإنجليزية في مواجهة الفرنسية والألمانية في العصور الوسطى، فقد كانت ضحية للإمبريالية الثقافية حين كانت الفرنسية لغة الإدارة، وعليه اعتبرت لغة الطبقة العليا في إنجلترا، بينما بقيت اللاتينية لغة الكنيسة والتعليم. أما الآن، فحتى الفرانكفونية نفسها بدأت تضعف أمام هذه الهيمنة، وتذوب كآيس كريم أمام هذه الشمس التي لا مفر منها. وفرنسا ودول أخرى فرانكفونية (ومنها مغاربية أيضا) خير مثال، بعد مقاومة طويلة شرسة للغة الإنجليزية. وبما أن العربية هي قاعدة الفكر الإسلامي، فإن بناء علاقة تصالحية بين تعليم الإنجليزية والهوية الثقافية الأصلية مطلب قد يؤخذ بعين الاعتبار، إذا كان الأمر يتعلق ببدهية قدرة اللغة على تشكيل العقلية.

حين تقرأ كتابا لروائي من المغرب العربي، مثلا، ترى استخدامات اللغة مميزة، كذلك في لوحات المحلات وإشارات الشوارع هناك، وكأن اللغة العربية ترتدي «قفطانا» مغاربيا، وهي كلمات عربية عتيقة غير التي نستخدمها نحن أهل الخليج أو حتى المشرق العربي. ربما من الجيد أن تتضافر الجهود لتكثيف الترجمة إلى العربية – من لغات وثقافات عدة – بين دول الخليج والمشرق والمغرب العربي. وهذه المبادرات تستحق نقاشات إقليمية، وربما عالمية، بالصيغة التي بادرت بها «اليونيسكو» نهاية العام المنصرم، فجعلت من 18 ديسمبر (كانون الأول) يوما للغة العربية، أو حتى ما قامت به «غوغل» لدعم المحتوى العربي أخيرا.

على أي حال، تنمية الشعور بلغتنا كهوية أمر نبيل وجهد يستحق الانحناء، على أن يتناسب في الوقت ذاته مع أهمية وقيمة الدخول إلى العالم وأسواقه وتعلم لغاته، وأن يؤخذ في الاعتبار أن تكون اللغة الإنجليزية لغة ثانية للبلدان العربية والخليجية خصوصا. أما أهم التحديات، التي أثق أننا جميعا نستشعرها، فهي أن اللغة العربية لا تشارك في بناء مجتمع المعرفة العالمي، فكيف لها أن تنافس حضورا وقيمة؟! لكن الشيخ محمد بن راشد يستبق أي قلق بقوله: «التحديات التي تواجه اللغة العربية كبيرة، ونحن مدركون لحجم هذا التحدي».

About محمد البدري

مهندس وباحث انثربولوجي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.