بوابة الشرق
تواجه دول الربيع العربي مشكلة عويصة للغاية تتمثل في تحديد الطريقة التي يجب التعامل بها مع بقايا وفلول الأنظمة الساقطة والمتساقطة في كل من ليبيا وتونس ومصر واليمن وسوريا. هل يتم استيعاب الأنظمة السابقة في الأنظمة الجديدة والاستفادة منها ودمجها حفاظاً على الاستقرار والوحدة الوطنية، أم يتم عزلها وإقصاؤها واجتثاثها كما فعل العراق من قبل وتخطط ليبيا لفعله الآن؟ لا شك أنها قضية شائكة للغاية نظراً لحدة الصراع الحاصل بين من يريد أن يجتث بقايا الأنظمة القديمة وتطهير البلاد من رجسها عقاباً لها على ما ألحقته بالبلاد من مصائب وخراب واضطهاد، وبين من يريد الاستفادة من خبراتها في تسيير العهود الجديدة وتجنيب الدول أحقاداً وصراعات جديدة.
الزعيم السوفيتي الشهير فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية على القياصرة عام 1917 له مقولة مأثورة حول طريقة التعامل مع بقايا العهد القديم، يقول لينين: “دعونا نبني النظام الجديد بحجارة النظام القديم”، على اعتبار أن القديم يمتلك خبرات تمكن الاستفادة منها وتوجيهها لصالح النظام الشيوعي، بدل عزلها وإقصائها وخسارة خبراتها، ناهيك عن أنها قد تشكل قنبلة موقوتة للمستقبل، إذ يمكن أن تضع العصي في عجلات النظام الجديد، لا بل يمكن أن تمهد لانقلابات فيما لو لم يتم استيعابها بطريقة مرضية.
لا أدري لماذا يريد البعض في دول الربيع العربي أن يكون أكثر ثورية من لينين. لا نقول هنا: عفا الله عما مضى، وليعد أنصار وأتباع الأنظمة القديمة إلى أعمالهم ومناصبهم، وكأن شيئاً لم يحدث. لا أبداً، فالثورة الفرنسية كانت تقيم المشانق والمحاكمات الميدانية لأتباع النظام الساقط، بحيث تتخلص من خصومها لحظة الانتصار عليهم، بدل سجنهم ومحاكمتهم لاحقاً. وقد حاول الليبيون السير على خطى الثوار الفرنسيين عندما أعدموا القذافي وبعضاً من رجالاته وأبنائه حال القبض عليهم. طبعاً لا أحد يمكن أن يلوم أي شعب ثائر يريد الاقتصاص من جلاديه وطغاته بأشد الوسائل. وهذا من حق الثوار، خاصة في عالم عربي تفنن فيه الطواغيت وأجهزة أمنهم وجيوشهم في اضطهاد الشعوب وسحقها وتعذيبها والدوس على كراماتها لعدة عقود بطريقة ستالينية حقيرة. لكن يجب التدقيق كثيراً في عملية المحاسبة كي لا تأخذ بجريرتها الألوف ممن كانوا محسوبين على الأنظمة السابقة قسراً، خاصة أن مئات الألوف من الناس كانوا ينضمون لهذا الحزب الحاكم أو ذاك، ليس محبة بالحزب وإيماناً بأهدافه، بل للحفاظ على رقابهم ولقمة عيشهم. إن عدد المؤمنين بهذا الحزب العربي أو ذاك قليل جداً. وغالباً ما يكون المؤمنون من عشيرة الأمين العام، أو نظراً لحصولهم على امتيازات يسيل لها لعاب أي شخص، فربطوا بين الحفاظ على امتيازاتهم وبقاء الحزب.
لقد جرب العراق وبناء على نصائح أمريكية بائسة اجتثاث حزب البعث، فكانت النتيجة وبالاً على البلاد، فبعد عشرة أعوام من التحرير المزعوم، ما زال العراق يعيش على صفيح ساخن بسبب الشرخ الحاصل، نظراً لعمليات التهميش والإقصاء الانتقامية التي اتبعها النظام الجديد بوسائل فاشية. فمثلاً اعتبر حكام العراق الجدد طائفة بأكملها وهي الطائفة السنية التي تشكل نصف سكان البلاد أو أكثر، اعتبروها محسوبة على نظام صدام حسين، وراحوا بالتالي يضيقون الخناق عليها في كل جوانب حياتها، ويحرمونها من أبسط حقوقها، بحجة اجتثاث البعث ومحاربة الإرهاب، فكانت النتيجة أن العراق مقبل الآن على ثورة عارمة تقودها تلك الطائفة وقسم كبير من الطائفة الشيعية بعد أن دخلت البلاد في غياهب أزمة لا يعرف أحد كيف ستنتهي.
لا شك أن النظام السابق كان يشمل شخصيات جديرة بأشد أنواع العقاب. وهذا حصل. لكن لا تمكن معاقبة طوائف وجماعات وقبائل وعشائر بأكملها بسبب تعاونها مع النظام السابق. فرغم سقوط الحزب الشيوعي في روسيا سقوطاً مريعاً مثلاً، إلا أن النظام الجديد لم يستأصله أو يشن ضده حملة على طريقة اصطياد الساحرات في مسرحية آرثر ميلر “البوتقة”، بل فتح له المجال لدخول العملية السياسية ليمتص خبراته وانفعالاته في إدارة العهد الجديد بدل معاداته ودفعه تحت الأرض للقيام بعمليات إرهابية وانتقامية خطيرة. وقد تبين لاحقاً أن الحزب الشيوعي الروسي لا يحظى بتأييد كبير في الشارع، لا بل أصبح أشبه بحزب الخضر في أمريكا، مجرد زينة ديمقراطية.
لا بد لدول الربيع العربي أن تدرس كل التجارب الأخرى لتحديد الطريقة التي يجب أن تتبعها في التعامل مع بقايا وفلول الأنظمة السابقة، مع العمل بصرامة على منع الأحزاب القديمة من الإضرار بالثورات وإنجازاتها. ولا ضير أن تضربها بيد من حديد فيما لو اشتمت رائحة ثورات مضادة، خاصة أن الفلول في بعض البلدان مازالوا يتغلغلون فيما يسمى بالدولة العميقة، ويسيّرون الكثير من المرافق الحيوية في الجيش والأمن. لا بأس في استيعاب هؤلاء ووضعهم تحت المراقبة الدائمة، وحتى إنزال أشد العقوبات بهم فيما لو حاولوا أن يلعبوا بذيولهم.
لا شك أن فلول النظامين الساقطين في تونس ومصر يحاولون الانقلاب على الثورة كما يبدو من خطابهم الإعلامي والسياسي المقيت. وهذا يتطلب من الأنظمة الجديدة أن تكون حازمة جداً معهم، وأن تعلم أن للديمقراطية أنياباً حادة عندما يتعلق الأمر باستقرار البلاد وأمنها الوطني والحيلولة دون الإساءة إلى إنجازات الثورات، أو عرقلة مسيرتها. لكن الأمر يجب ألا يصل إلى عزلهم سياسياً أو إقصائهم على الطريقة العراقية التي كانت وبالاً على البلاد.
ولا أدري لماذا لا تتعلم الحكومة الليبية من أخطاء نظيرتها العراقية في التعامل مع فلول النظام السابق، خاصة أن التجربة العراقية لم تجلب سوى الخراب والدمار والأحقاد، لا بل مهدت لثورة جديدة. إن الثورة التي تعمل بعقلية انقلابية ليست ثورة، بل انقلاب. لهذا على بلدان الربيع العربي أن تؤسس لعقلية ثورية تستوعب بدل أن تستأصل، ومن يعمل بطريقة انقلابية يجب ألا يتفاجأ يوماً بانقلاب مضاد. وسلامتكم!