هل عرف العراقيون القدماء البغاء المقدس؟

محمد شعبان:  رصيف22 .

البابليون، كما يقول الباحث الجزائري بلخير بقة في دراسته “أثر ديانة وادي الرافدين على الحياة الفكرية… سومر وبابل 3200 – 539 ق.م”، هم في الأصل عناصر آرامية وصلت إلى المنطقة، واستقرت على طول نهر الفرات، ووصلت إلى الحكم في عدة مناطق بما فيها بابل، التي عرفوا باسمها. ولم تكن المدينة من المراكز السياسية أو الاقتصادية حتى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، حين جاء الأموريون الذين أحسنوا اختيار مواقع المدن، فكانت تتوسط بلاد الرافدين كما كانت قريبة من الفرات، ومن الناحية اليمنى من النهر. وهذا هو السبب الذي جعل مؤسسي السلالة البابلية الأولى، في حدود القرن التاسع عشر قبل الميلاد، يجعلونها عاصمة لهم.

مضاجعة الغرباء
قال إدوارد ويسترمارك في موسوعته “تاريخ الزواج- دراسة أنثروبولوجية”، التي ترجمها كل من الدكتور مصباح الصمد والدكتور صلاح صالح وهدى رطل، إن المؤرخ هيرودوتس ذكر أن كل امرأة في بابل كانت مجبرة على الجلوس مرة في عمرها في فناء معبد ميليتا أي عشتار أو عشتروت، وتسليم نفسها إلى غريب هناك. ولا يجوز للمرأة الجالسة في الساحة، العودة إلى منزلها قبل أن يرمي غريب في حضنها قطعة فضية من أي فئة كانت، ثم يصحبها إلى خارج الفناء المقدس. ولا يمكنها أيضاً رفض القطعة الفضية أبداً لأنها تصبح مقدسة لحظة إلقائها. كانت المرأة تذهب بصحبة أول رجل يرمي لها بقطعة النقود، ولا يحق لها أن ترفض أحداً، وبعد أن تذهب برفقته، وتكون بذلك أرضت الإلهة، تعود إلى منزلها. ومنذ تلك اللحظة، لا يمكن لأي أعطية مهما بلغت قيمتها أن تؤثر عليها أو تغويها.

وأشار ويسترمارك إلى وثائق تضمنتها “أنشودة إرميا”، التي يبدو أنها كتبت عام 3000 قبل الميلاد بيد شخص واسع الاطلاع، يقال فيها: “تجلس نساء بابل على قارعة الطريق مقيدات بالحبال وهن يشعلن نشارة بدل البخور، وعندما يمر عابر ويختار إحداهن ليضاجعها، تبدأ بتوبيخ الأخريات لأنهن دونها قيمة ولأن حبالهن غير محلولة”.

لم تكن هذه الطقوس محصورة في الحضارة البابلية، فقد مورست في حضارات شرقية أخرى. ويوضح ويسترمارك أن طقساً مشابهاً كان يمارسه سكان هيلوبوليس (بعلبك – لبنان). فكانوا يقدمون بناتهم العذارى كمومسات للغرباء الذين يزورون مدينتهم، قبل أن يزفونهن إلى أزواجهن. وقد ألُغي هذا التقليد أيام قسطنطين، بعد أن قام بتدمير هيكل أفروديت في هيلوبوليس، ما يعني أن هذا التقليد كان له مغزى ديني.

وفي بيبلوس (جبيل – لبنان) كان الناس يحلقون رؤوسهم عند الحداد السنوي على أدونيس، وكان على النساء اللواتي يرفضن التضحية بشعرهن أن يمارسن البغاء مع الغرباء خلال يوم من أيام العيد، وتقديم المال الذي يكسبنه من ذلك إلى الإلهة عشتروت.

تفسيرات مختلفة
طُرحت عدة نظريات لتفسير هذا التقليد البابلي. قال ويسترمارك إن بعض الباحثين نظروا إليه كنوع من فساد الأخلاق الذي يمارس تحت عباءة الدين. ورأى فيه آخرون فعلاً تقوم نساء تقيات من خلاله، بالتضحية بأغلى ما لديهن لإرضاء الآلهة. وهناك من رأى أنه شكل مُعدل بصورة نفعية لتقليد قديم بممارسة الجنس خارج الزواج، إذ كان على العذراء أن تسلم نفسها إلى غريب قبل إقدامها على الزواج.

وأشار إلى أن هناك من قام بتفسيره على أنه تطوير للطقوس الزراعية، باعتبار أن الإلهة الأم الكبرى، التي كانت تجسد كل القوى المنتجة في الطبيعة كانت تُمجد بأسماء متعددة، ولكن بتطابق أساسي بين الأسطورة والطقس الديني من قبل شعوب عديدة في غرب آسيا، وكان يشاركها حبيبها أو عدد من عشاقها، الذين هم إلهيون رغم أنهم يموتون. وكانت تختار لنفسها واحداً منهم كل سنة، وتعتبر علاقاتها هذه ضرورية لتكاثر الحيوانات والنباتات، كل حسب نوعه. وكانت هذه العلاقة العجائبية بين الإلهيين محدودة، ما يستوجب تكرارها على الأرض بعلاقات حقيقية، ولكن مؤقتة، تقام بين الجنسين البشريين في معبد الإلهة، وتكون الغاية منها إخصاب التربة وتكاثر البشر والحيوانات.

بعض الباحثين رأوا أيضاً أن الطقس البابلي عبارة عن طقس بلوغ، إذ لم تكن البنت تقبل بوضع أو امتيازات سن البلوغ، إلا بعد أن “تفض بكارتها” بشكل احتفالي. وهذا التفسير يفترض أن طقس البغاء كان مقتصراً على البنات غير المتزوجات. وعليه، كان البابليون، من خلال هذا الطقس، يقدّمون أول اتصال جنسي لبناتهم إلى الآلهة، ليضمنوا لهنّ زواجاً سعيداً، تماماً كما كانوا يقدّمون أول إنتاج حصاد القمح إليهم.

هناك أيضاً نوع من البغاء الديني، الذي لا تمارسه لفترة محددة بنت تتهيأ للزواج أو امرأة متزوجة، بل هو دعارة دائمة أو شبه دائمة، تمارسها نساء مرتبطات بالهيكل. فكانت النساء يقمن ببعض الممارسات داخل المعبد كتقليد للسلوك الماجن لإلهة الخصوبة الأم، بهدف تأمين خصوبة الحقول والأشجار والبشر والحيوانات.

البغي المقدسة
وفي كتابه “أدب الغزل ومشاهد الإثارة في الحضارة العراقية القديمة”، قال حكمت بشير الأسود، إن البغاء المقدس هو ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي، ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه، أو تتعلق بالإنجاب وتكوين الأسرة. إنما هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له ومنفعلة به وذائبة فيه. مشيراً إلى أن عشتار هي البغي المقدسة الأولى، لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة، التي لا ترتبط بموضوع محدد وهي تقول عن نفسها: “أنا العاهرة الحنون”، و”أنا من يدفع الرجل إلى المرأة ويدفع المرأة إلى الرجل”.

وأوردت النصوص المسمارية أسماء لفئات من الكاهنات والنساء ذوات الارتباط مع البغاء المخصص للمعابد، منهن
Kezertum وKezertu
(ذات الشعر المجعد)، اللواتي كانت لهن طريقة خاصة في طريقة عمل شعرهن. واسم
Samhti،
التي تعني “الشهوانية”، كما ذكرت مجموعة أخرى من النسوة المقدسات الخاصات بالإله “ادد” واسمها
Qadistum،
وهي المرأة الكاهنة أو الكاهنة الموهوبة للإله أو المقدسة. بينما تترجمها بعض الدراسات الحديثة إلى خادمة المعبد أو بغي المعبد المنذورة أو البغي المقدسة. كذلك
Kulmasitu،
وهي المرأة المحرومة المعزولة، وورد أيضاً اسم
Istaritu،
وهي المرأة الممنوعة الاتصال أو المحرمة، وارتبطت بالإلهة عشتار، لذا حملت اسمها. وربما كان هذا الصنف من الكاهنات، هو الذي اختص بالبغاء المقدس، حسب ما ذكر الكتاب.

وقد أظهرت بعض الأشكال والألواح الطينية رسوماً وتماثيل تشير إلى جسد الأنثى. فصُورت باستمرار بشكل عارٍ وشعرها منثور، واحتوت بعضها على مشاهد الشراب أو عزف الموسيقى، وفسرها البعض على أنها نوع من احتفالات العبادة من خلال إنجاز الفعل الجنسي.

وأوضح الكتاب أن بغايا المعبد لم يكنّ بالمعبد تحديداً، وإنما اجتمعن في مجموعات ومُيزن من خلال أسماء خاصة، وعملن تحت حماية الآلهة، غالباً تحت حماية الإلهة عشتار. وكن يتواجدن قرب أسوار المدينة في وسط الطريق بين الداخلين والخارجين.

وقد اعُتبرت بغايا المعابد جزءاً من المجتمع البابلي، وعُرفن باسم
Harimtu
(أي المرأة المنفصلة). وكنّ بعد وهب أنفسهنّ للبغاء في المعبد يُعرفن بهذا اللقب في المجتمع لا بأسمائهنّ الخاصة.

العقائد الأولى
كان البغاء عند نشأته مقدساً، ولم يكن وليداً لما يزعمه البعض من حرية جنسية بدائية. قالت الدكتورة نجية إسحق عبدالله في كتابها “سيكولوجية البغاء”، إنه ثمرة العقائد الأولى في القوى المنتجة للنسل. فضرورة تقديس المرأة عن طريق رجل غريب، يمثل قوة الإله الخارقة، حتى يهبها الإخصاب الذي لا تحمل النساء بدونه، ولا يستمر بغيره بقاء الإنسان على الأرض. فكانت الفتاة تبدأ حياتها الجنسية بأن تهب نفسها إلى إله الإخصاب، الذي يمثله هذا الرجل الغريب، على أساس أنه قد مُنح من الإله قوة خارقة للطبيعة لا تتوافر في الرجل القريب أو الزوج، ما يضمن الإخصاب للأرض وما عليها، وهذا ما شهدته حضارة بابل.

تطور الحال وأصبحت القوة المقدسة مستمدة من المكان لا من الرجل الغريب، واقتصر الأمر على إزالة البكارة داخل المعبد، وتلا ذلك حجز الفتيات في المعابد ليهبن جمالهن لتخفيف ما يعتري حياة الكهنة من ملل وسآمة. وكذلك ممارسة البغاء بعرض أنفسهن على زوار المعبد، وكان ما يحصلن عليه يذهب إلى خزينة المعبد، ثم أصبحن يحتفظن بجزء منه للإنفاق على أزواجهن، بحسب إسحق.

وأوضحت أن البغاء المقدس، والذي كان يمارس في المعابد لا يعد بغاءً حقيقياً، فالدافع إليه يرتبط بالجانب الديني، إلا أن هذا النوع من البغاء كان بمثابة الإرهاصات الأولى لاستخدام الجنس بغرض الحصول على المال، حتى لو كان هذا المال لخدمة أغراض دينية.

This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.