إجابة إسلاميي اليوم عن هذا السؤال فيها الكثير من الانتهازية والتحايل والخداع، حسبما ما يمليه الظرف والمناسبة. فهم في الأوساط التي يهيمنون عليها، ويغيب فيها التعبير الحر عن أي رأي معارض يواجههم بالحجة والبينة، يقولون إن الشريعة طبقت طوال تاريخ الإسلام الذي عرف ازدهارا لا نظير له بفضلها، كما عرف أنماط حكم فريدة من نوعها وهو ما يفسر حسب رأيهم ذلك التوسع الهائل الذي عرفته الدولة الإسلامية. هذا الموقف يشاركهم فيه رجال الدين التقليديون أيضا. أما في الأوساط المثقفة العالمة التي تسود فيها حرية التعبير مثلما أتاحه عالم الأنترنت اليوم، عندما يحصرون ضمن حدود حوار علمي مع مثقفين لهم دراية كافية بتاريخ الحكم الإسلامي وحقيقة (الفتوحات) التي كانت في الواقع غزوا واحتلالا لا يختلف عما كان سائدا في تلك العهود العبودية والإقطاعية بالإضافة إلى مواجهتهم بنماذج الحكم الإسلامي المعاصرة، في هذه الحال، ينفي الإسلاميون أن يكون هذا هو صميم الحكم الإسلامي، ويعتبرون ما آلت إليه الخلافة الإسلامية بعد فترة الخلافة (الراشدة) انحرافا عن صراط الإسلام المستقيم أي عن التطبيق الحقيقي للشريعة. بل يصل الأمر ببضعهم إلى محاولة التخلص من جانب هام من هذه الشريعة التي صاروا يخجلون من الدفاع عنه.
وهذا ما سأتناوله بالتحليل في مقال لاحق. في هذه المقالة سأحصر النقد والتحليل في حواري الافتراضي هذا مع الدكتور يوسف القرضاوي لجانب من هذه المسألة التي تناولها في فصل تحت عنون ((كيف تطبق الشريعة؟))، ردا على الدكتور فؤاد زكريا محاوره، الذي طرح السؤال نفسه، ص 148، في كتابه ((الإسلام والعلمانية، وجها لوجه)):
http://www.scribd.com/doc/28242163
رأي فؤاد زكريا كما أورده القرضاوي، يلخصه قوله : ((يدور جدل كثير في هذه الأيام حول تطبيق الشريعة، فهل يكفي لكي يقال إن الشريعة أصبحت مطبقة، أن نفرض الحدود، أي أن نطبق حد السرقة، فنقطع يد السارق، وحد الخمر فنجلد السكير، وحد الزنا فنرجم مرتكب الخطيئة؟! إن الكثيرين من العقلاء، في صميم الحركة الإسلامية ذاتها، يؤكدون أن تطبيق الشريعة أوسع مدى بكثير من موضوع الحدود. فالعقوبات ليست إلا الوجه السلبي للشريعة، إنها هي الجزاء، الذي ينبغي أن يناله الآثم والعاصي، ولكن هل معنى ذلك أن الناس الأسوياء، الذين لا يسرقون، ولا يسكرون، ولا يزنون ـ وأنا أفترض أن هؤلاء هم الأغلبية ـ لن تمسهم الشريعة، ولن تنظم حياتهم؟! لا جدال في أن الشريعة ينبغي أن تطبق على الجوانب الإيجابية من حياة الناس، لا على الجوانب السلبية أو غير السوية فحسب، ومن هنا فإن تطبيق الشريعة، لابد أن يكون أوسع نطاقا من فرض الحدود والعقوبات)). انتهى.
قبل عرض نقد القرضاوي ونقدي لنقده لا بد من الإشارة هنا إلى اضطرار فؤاد زكريا هنا لتقديم تنازلات للإسلاميين بغير وجه حق في مواقف كثيرة مثل قوله واصفا مواقف الإسلاميين: ((ولقد أدرك الكثيرون هذه الحقيقة، فطالبوا بألا تقتصر الجهود على تطبيق الحدود وحدها، وسايرهم في ذلك كثير من المطالبين بالتطبيق العاجل للشريعة، حتى يتخلصوا من الاعتراض الصحيح القائل: إن الشريعة أوسع وأكثر إيجابية بكثير من تطبيق الحدود)). انتهى.
فأي اعتراض صحيح هذا؟ وهل ((إن الشريعة أوسع وأكثر إيجابية بكثير من تطبيق الحدود))؟ إن الفيلسوف قد أصاب كبد الحقيقة عندما تساءل: ماذا تقدم هذه الشريعة للناس الأسوياء؟ لكن لم يكن بوسعه أن يجيب: لا شيء إيجابيا، حسب رأيي، ولهذا لجأ إلى التحايل والمداراة، حسب رأيي أيضا، بسبب غياب أدنى شروط الحوار الحر في بيئاتنا البائسة.
لا شيء إيجابيا، هذا بالنسبة للمسلمين الأسوياء، أو بالأحرى للمستسلمين للأمر الواقع، ربما يمكن أن يستفيد منها الرجال على حساب النساء، خاصة في هذا العصر الذي بدؤوا يفقدون فيه هيمنتهم التقليدية على الأسرة، أما لغير المسلمين فتطبيقها ولو في أدنى حدودها يعني تجريدهم من مواطنتهم مثل من يعتبرهم الإسلام ذميين وحتى من أهليتهم وكرامتهم مثل النساء ومثل الأقليات الدينية الإسلامية التي تعيش بين أغلبية سنية أو شيعية مثلا. أما غيرهم فليس لهم في دنيا هذه الشريعة إلا التكفير والترهيب والاغتيال أو اختيار المنافي أو في أحسن الأحوال الركون إلى صمت القبور، إن لم يتحولوا إلى مداحين لها.
كذلك فإن تطبيق الشريعة بالنسبة لـ ((الناس الأسوياء، الذين لا يسرقون، ولا يسكرون، ولا يزنون ـ وأنا أفترض أن هؤلاء هم الأغلبية ـ لن تمسهم الشريعة، ولن تنظم حياتهم)) كما قال فؤاد زكريا، قد يتحقق به بعض الأمن مثلما تحققه الدول المستبدة والفاشية والنازية التي تلجأ إلى القمع الوحشي ضد المخالفين، وهو قمع سيكون أكثر قسوة مع المخالفين الأسوياء مقارنة بالمخالفين المجرمين، بل أنا أزعم، من خلال متابعتي لمأساة الجزائر، أن الحركة الإسلامية المتطرفة ضمت في صفوفها الكثير من عديمي الكفاءة والفاشلين والانتهازيين الذين تحول أحسنهم بقدرة قادر إلى برلمانيين دون أن يمارسوا السياسة في حياتهم وتحول أسوأهم إلى آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ووعاظ وشرطة إسلامية تأمر وتنهي وتبطش لينتقموا بهذا الانتماء لماضيهم الفاشل أو الخائب أو التعيس، ولهذا عرف عنهم تجاوزات فضيعة في حق الناس بلغت حد سبي النساء تطبيقا للشريعة بعد أن حكموا على كل الناس بالجاهلية والكفر. تطبيق الشريعة يجرد الأسوياء الشرفاء من الكثير من حقوقهم كمواطنين بالمعنى العصري للكلمة. تجرد الناس من حرية التعبير إلا ضمن الحدود التي يسمح بها فهمهم للدين، تضطهد المفكرين والمبدعين الأذكياء والفلاسفة والمعارضين وهو اضطهاد لم تخل منه أية حقبة من حقب الإسلام.
ولا شيء إيجابيا على المستوى السياسي، لأن النظام السياسي الإسلامي لا ينص صراحة على حقوق الرعية في المواطنة الكاملة بما تعنيه من معارضة فاعلة والحق في اختيار الحاكم ومحاسبته والحق في التنظيم الحر بما يعرف اليوم بالمجتمع المدني. تاريخ الإسلام كله ملك عضوض وراثي حتى اليوم.
لا شيء على الصعيد الاجتماعي، فالإسلام أباح الرق وشرع لنظام أسري شبه عبودي حيث النساء والأبناء ملكية خاصة للرجل الأب (افعل يا أبتي ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) حسب تسلسل مقيت لا زال رجال الدين يرددونه مع الحديث النبوي: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته ، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته )). المسؤولية هنا يحاسب عليها المسؤول أمام الله حين يسأله يوم القيامة، هذا هو الفهم الوحيد المقبول دينيا. والخلفاء فهموا المسؤولية بهذه الصورة حتى أن عثمان بن عفان كان قد رفض الاستجابة لمطالبيه بالاستقالة قائلا (أما أن أخلع لهم أمرهم ، فما كنت لأخلع سربالاً سربلينه الله)، فهو يرى خلافته إرادة إلهية لا شأن للرعية فيها. ولهذا يتفق الفقهاء على أن البيعة مرة واحدة.
لا شيء على المستوى الاقتصادي، فمنذ فجر الإسلام اعتبر الخلفاء أنفسهم خلفاء الله في الأرض ومسئولين أمامه وليس أمام الناس ولا أمام أية هيئة شعبية ما، لا شيء حول كيفية وصول الحكام إلى الحكم. بيت المال يتصرف فيه الحاكم كيفما شاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. ومازال هذا الوضع ساري المفعول حتى أيامنا: فلا ميزانية واضحة محددة من حيث تكوينها وصرفها. نلاحظ هذا في بلدان الخليج العربية التي تطبق الشريعة الإسلامية وتتصرف في موارد البلاد بطرق تخلو من الوضوح والشفافية ومن آليات الإعداد والتبويب التي تخضع لها الميزانيات في الدولة العلمانية الديمقراطية، كما نلاحظ هذا، ولو بصورة أخف، في جمهورياتنا الوراثية التي تنص دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة والشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع.
لهذا ففؤاد زكريا محق في توجيه هذه التهمة للمطالبين بتطبيق الشريعة.
لكني أرى مرة أخرى أنه يتنازل لهم عندما يقول: ((مع ذلك فإني أشك في أن يكون هذا هو موقفهم الحقيقي، وأعتقد أن جهدهم الفعلي يتركز في تطبيق الحدود وحدها، ذلك، أولا، لأن التطبيق الشامل يحتاج إلى وقت طويل وتدرج شديد)).
وهو موقف يزيد من حدة الأوهام والبلبلة في عقول الناس. ماذا في هذه الشريعة حتى يقول بأن ((التطبيق الشامل يحتاج إلى وقت طويل وتدرج شديد)) بعد أربعة شعر قرنا من التطبيق الناجح؟ هذا قد ينطبق على أفكار مثالية غاية في العدل والمساواة وتتطلب فعلا وقتا طويلا وتدرجا شديدا لإعادة الناس إلى الوضع السوي مثلما يحتاج الخارج من نفق مظلم إلى النور، إلى وقت كاف، حتى يتكيفوا مع الوضع الجديد؟
هذا التنازل استغله القرضاوي فكتب: ((ولا أريد أن أطيل التعقيب على الكاتب ـ هنا، بعد أن اعترف هو بوجود مدرسة تؤمن بالتدرج الحكيم في تطبيق الشريعة، كما اعترف بأن كثيرا من المطالبين بالتطبيق العاجل للشريعة وافقوا الآخرين في أن الحدود، ليست هي كل الشريعة. (وهذا ما أعلنه التحالف الإسلامي صراحة في برنامجه الانتخابي الأخير: إبريل 1987م).)).
ثم يقول: ((يدلل الكاتب على أن الدعوة السائدة في هذه الأيام، لا يهمها من جوانب الشريعة إلا تطبيق الحدود وحدها، بأن أقطابها صفقوا ـ بكل حماسة ـ للنميري حينما أصدر قوانينه الشهيرة بإقامة الحدود في السودان، وهو يبدئ ويعيد، ويلح ويكرر في هذه القضية، بعد سقوط نميري، وإخفاق تجربته. كان الإنصاف يقتضيه أن يقول: إن هناك كثيرين تحفظوا في تأييد نميري، ومنهم كاتب هذه السطور، الذي قال في الخرطوم ـ بصراحة ـ كما نقلت ذلك مجلة “الأمة” القطرية في حينها: إن الإسلام ليس كله قوانين، والقوانين ليست كلها حدودا، والقوانين وحدها لا تصنع المجتمع!)).
فهل تحفظ القرضاوي فعلا في تأييد نميري كما زعم؟ شخصيا بحثت في أرشيف القرضاوي فوجدت القليل مما يدعم زعمه لكني وجدت الكثير مما يكذب، ولهذا أرجو من القارئ أن يتحلى بمزيد من الصبر ليقرأ ما كتب القرضاوي وغيره من كبار الشيوخ يومئذ:
نقرأ له في موقعه:
http://www.qaradawi.net/site/topics/printArticle.asp?cu_no=2&item_no=6798&version=1&template_id=217&parent_id=189
((في 1984م دعيت إلى السفر إلى الخرطوم للمشاركة في المسيرة المليونية التي دعا إليها الرئيس السوداني جعفر نميري، وشارك فيها، بقوة، الإسلاميون، وكل فئات الشعب، وحضر عدد كبير من العلماء من بلاد عربية وإسلامية شتى، أذكر منهم: شيخنا الشيخ محمد الغزالي، وأخانا الداعية الكبير الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وكثيرون من علماء العالم الإسلامي لم أعد أذكرهم. وكان النميري في أواخر عهده قد اختار طريق الشريعة الإسلامية، حين رأى أن هذا الطريق هو الذي يحل المشكلات من جذورها، ويقطع الجريمة من دابرها، ويؤسس لتكافل اجتماعي حقيقي بين فئات الشعب، ويدعم مسيرة الطهر والاستقامة في المجتمع، ويقاوم الانحراف والرذيلة فيه، ولاسيما بين القادة والمسؤولين. ثم إن هذا هو (حكم الله) الذي أمر به عباده، وليس (حكم الجاهلية) المستورد، من الغرب أو الشرق، وقد قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍيُوقِنُونَ} [المائدة:50]. وفي الحقيقة كان يوما حافلا، ويوما رائعا، ويوما من أيام الله، وكان كثير من المدعوين – وأنا منهم – تغرورق عينه بالدموع، كلما رأى هذه المناظر الشعبية التلقائية، المؤيدة لشرع الله، وأحكام الله. وكان أخونا الشيخ صلاح أبو إسماعيل يقول في حرقة وحرارة: متى أرى مثل هذه المسيرة في القاهرة؟ أسأل الله ألا يميتنا حتى يقر أعيننا برؤية مثل هذه المسيرة. ولكنه انتقل إلى رحمة الله قبل أن يرى هذه المسيرة. والحقيقة أن المسيرة في القاهرة موجودة وكامنة، ولا تحتاج إلا إلى الحرية، لتنطلق بأضعاف مسيرة الخرطوم. إن المشكلة هي مشكلة الحرية؛ ولهذا ناديت مرارا: يجب أن ننادي بتحقيق الحرية، قبل أن ننادي بتطبيق الشريعة الإسلامية. علام تدل هذه المسيرة؟ إنها تدل على أن شعوبنا مع الشريعة. فما السودان إلا نموذج لسائر الشعوب العربية والإسلامية، فلماذا لا تستجيب حكوماتنا لشعوبنا لتحقيق إرادتها وطموحاتها؟ أليست هذه هي حقيقة الديمقراطية: النزول على رأي الشعب، وإرادة الشعب؟ ولقد سألني بعض الصحفيين في الخرطوم عن رأيي في هذه المسيرة ودلالتها؟ وهل أنت مؤيد لها؟
وقلت في إجابتي: لو لم أكن مؤيدا لها ما جئت من الدوحة إلى الخرطوم، وهل يتصور أن أكون إلا مع الشريعة، ويجيب فيقول: ((إني مع الشريعة لأمرين: الأول: أنها إرادة الله والثاني: أنها إرادة الشعب. كل ما لي من تعليق هنا هو: ما المراد بـ (الشريعة)؟ للأسف أكثر الناس يفهمون من الشريعة: تطبيق العقوبات والحدود الإسلامية، وهذا جزء من الشريعة، وليس كل الشريعة، ولهذا نزلت أحكامها في أواخر العهد النبوي، وفي أواخر ما نزل من القرآن في سورة المائدة. إن الشريعة تعني: العبادات والمعاملات والقيم والأخلاق والآداب، وليس مجرد الجانب القانوني، وخصوصا الجزء الجزائي والعقابي فيه. على أن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولكن تصنعها التربية والثقافة والتوجيه، وهي التي تنشئ العقول المستنيرة والضمائر الحية، والإرادات الحافزة إلى الخير، الرادعة عن الشر. وأود أن أقول: إن مسيرة الشريعة في عهد النميري، لم يقدر لها أن تستمر في خطها الصحيح؛ لأن التصور للشريعة لم يكن واضحا تمام الوضوح للسلطة التنفيذية، (إذن فقد كنت مخدوعا يا مولانا وأنت العالم، فماذا نقول عن تلك الدهماء التي جانت تجوب الشوارع مطالبة بنطبيق الشرية وتؤيدها أنت) فظنت أنها بمجرد الجلد والقطع والقتل، تنفذ الشريعة حقا. وليس هذا هو كل شيء، فقبل أن تقطع يد السارق، لا بد أن نوفر الخبز للجائع، والعمل للعاطل، والسكن للمشرد، والكفالة لليتيم، والرعاية للمحتاج، ونقيم التكافل الاجتماعي في الشعب. فقبل أن ينزل الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ} [المائدة:38] أنزل قوله تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:43] {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7،6] {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} [آل عمران:180] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3،2،1]. لابد إذن أن نكفل حاجات الناس، ونسد الثغرات في حياتهم، وأن نعلمهم ونكفيهم، ثم نطبق عليهم العقوبات التي شرعها الله.)) انتهى.
أهم ما لفت نظري في هذه العموميات قول القرضاوي: ((إن المشكلة هي مشكلة الحرية؛ ولهذا ناديت مرارا: يجب أن ننادي بتحقيق الحرية، قبل أن ننادي بتطبيق الشريعة الإسلامي)). ولم أتمكن من تبيان فهم القرضاوي للحرية. فهل نظام النميري كان نظام حريات أم كان نظاما استبداديا انقلابيا؟ وبالتالي فقد شارك القرضاوي والغزالي وكل الإسلاميين في تأييد الاستبداد وقمع الحريات باسم الشريعة؟ أليس هذا كافيا لتجريدهم من أي مصداقية عندما يتحدثون للناس عن العدالة والمساواة والحرية التي جاء بها دينهم؟ ثم هل تكفي هذه الأقوال البسيطة لإدارة شؤون دولة عصرية. يجب أن نقولها بصراحة: ليس في الإسلام نظاما سياسيا قادرا على إدارة شؤون دولة حديثة، ووكان في أعز مجده قد أفضى إلى نماذج للحكم استبدادية لا يمكن الاعتداد بها اليوم.
القرضاوي يقدم هنا تبريرات واهية لفشل تلك التجربة عندما يقول: ((وكان من أخطاء التطبيق السوداني للشريعة: أن الدولة في عهد نميري، أفرجت عن المساجين الذين حكم عليهم القضاء السوداني في جرائم السرقة ونحوها، وهم ألوف مؤلفة، فلما أفرج عنهم دفعة واحدة، عادوا إلى مزاولة مهنتهم، وعاثوا في الأرض فسادا، ولم يصدقوا أن أيديهم ستقطع، فقطعت أيد كثيرة في زمن قصير، على غير المعهود في البلاد التي تطبق الشريعة كالسعودية.
وكأن الإفراج الجماعي والفوري عن هذه الأعداد الكبيرة التي تمرست بالإجرام، خطأ بينا، ولاسيما في أول عهد التطبيق الشرعي، إذ كانوا يحتاجون إلى أن يوضعوا تحت رعاية إسلامية فترة من الزمن، وألا يخرجوا إلا بعد أن يصلوا مرحلة معينة تظهر معها علامات التوبة عليهم، وأن تهيأ لهم أعمال مناسبة يزاولونها، وأن يؤخذ عليهم تعهّد بالاستقامة والبعد عن الرفقة المنحرفة، وأن يوضعوا تحت المراقبة فترة من الزمن، حتى نعينهم على أهواء أنفسهم. ولكن ذلك لم يحصل.)) انتهى
هل يعقل أن يؤدي إطلاق عدة آلاف من المساجين إلى إفشال تطبيق شريعة ربانية ادعى القرضاوي أن ملايين الناس كانت تؤيدها عن حرية وقناعة؟
ثم يقدم الشيخ تفسيرا غاية في التحايل والخداع: ((ومن ناحية أخرى، أثبتت التجربة: أن الإسلام لا يحسن تطبيقه بحق إلا الملتزمون به إيمانا وفكرا وسلوكا، وكما يقول الماركسيون: لا اشتراكية بغير اشتراكيين، نقول نحن: لا إسلام بغير إسلاميين!)). فهل اعترافه بأن الشريعة مطبقة في السعودية يعني أن بها حكما إسلاميا حسنا راشدا يجب أن يكون القدوة لنا؟
يقول هذا الكلام بدل أن يقول كلاما مسؤولا آخر كأن يعترف بأنه كان متواطئا أو، على الأقل، مخدوعا، مثله مثل تلك الحشود الغافلة التي جعلت عيني القرضاوي تغرورقان بالدموع، وأنه ساهم في توريط الناس في هذه الخديعة باسم الإسلام وتطبيق شريعته. لكنه بدل هذا راح ينتزع من تلك الملايين المطالبة بتطبيق الشريعة بحرية، كما زعم، الصفة الإسلامية. فمن هو الإسلامي الحقيقي إن لم يكن حسن الترابي والغزالي والقرضاوي وغيرهم وقد تولوا أعلى المسؤوليات في توجيه الحركة الإسلامية وحشد الدعم لكل الحكام المستبدين مثل نميري السودان وضياء الحق باكستان، الذين دفعوهم وأيدوهم في تطبيق شريعتهم؟
هذه نماذج من أقوال رؤوس الإسلاميين التي أيدت شريعة النميري:
الشيخ محمد الغزالى:
“تطبيق الشريعة الإسلامية فى السودان كان إلهاماً جليلاً من الله سبحانه وتعالى للمسئولين فى السودان وأنهم بهذا المسلك الجديد احترموا عقائدهم وشعائرهم وشرائعهم وربطوا حاضرهم بماضيهم وامتدوا مع تراثهم العظيم ووقفوا أمام الغزو الثقافي وقفة صلبة وأحبطوا محاولات استعمارية خبيثة كانت تريد أن تجهز على مستقبل الأمة الإسلامية فى هذه الأرض الطيبة وأعتقد أن السودان لا يهنأ بشيء كما يهنأ بهذه المرحلة النقية التي جعلته يتخلص من وباء الأحكام الوضعية .”
الشيخ عبد الحميد كشك:
“إن الحملة التي يتعرض لها الرئيس نميري الآن بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية قد تعرض لها من قبله سيد الأنبياء والمرسلين وتعرض لها جميع دعاة الإصلاح -وقد عودتنا الحياة أن القافلة تسير مهما كانت الذئاب تعوي وهل يضير السحاب نبح الكلاب” .
الشيخ عبد اللطيف حمزة مفتى جمهورية مصر العربية يومئذ:
“إننا جميعاً فى مصر شعباً وحكومة نرحب كل الترحيب بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان الشقيق -ونحيي الزعيم المؤمن الرئيس جعفر نميري -إن تطبيق أحكام الدين في مصر البلد المسلم بلد الأزهر الشريف لهو خير وسيلة لنهضتها وازدهارها وإعادتها لمجدها ولكي ترفع رأسها عندما تنادي في العالم الإسلامي بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية” .
الدكتور يوسف القرضاوى :
“إن الرئيس السودانى يعمل على بناء الفرد الصالح والمجتمع الصالح .فهذا هو البناء الحقيقي وهو حجر الأساس في تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية”.
هذه شهادات تدين الإسلاميين وغيرهم من رجال الدين الذين ساهموا دائما في تخدير الناس بالدين وتعبئتهم لتأييد الاستبداديين في كل زمان ومكان. فكيف يقول القرضاوي بأن “هناك كثيرين تحفظوا في تأييد نميري، ومنهم كاتب هذه السطور”، قاصدا نفسه؟
أختم بهذا القول الذي يكشف عن مدى سذاجة الفكر الإسلامي في قول القرضاوي: ((على أن الذين صفقوا، حماسة لتأييد النميري، إنما فعلوا ذلك لظنهم أنها خطوة تتبعها خطوات، ولذا طالبوه أن يستعين بالثقات من علماء المسلمين لتسديد التطبيق)).
هل يعقل أن يبني مفكر إسلامي، يعد نفسه عالما، موقفه على الظن؟ فيؤيد حكما انقلابيا استبداديا لمجرد أنه وعد بتطبيق الشريعة ثم راح يقطع أيدي وأرجل (الغلابة) من خلاف ليتبين في نهاية المطاف أنه عبارة عن طرطوف حقير دخل مزبلة التاريخ العربي؟
وأعيد طرح السؤال الذي اتخذته عنوانا لهذه المقالة: هل طبقت الشريعة في حياة المسلمين ماضيا وحاضرا؟
وأجيب: نعم طُبِّقت بقضها وقضيضها وحالة بلداننا تشهد على ذلك.