حول صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان

هذه هي المقالة العشرون من حواري الافتراضي مع الدكتور يوسف القرضاوي من خلال كتابه ((الإسلام والعلمانية، وجها لوجه)). الكتاب في الرابط:

http://www.scribd.com/doc/28242163

نقرأ للدكتور القرضاوي في هذا الفصل تحت عنوان ((صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان)) ص 133: ((إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله ذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد صلى الله عليه وسلم. إن شريعة الإسلام عامة خالدة، هذا من القطعيات الضرورية، ولكن الدكتور ـ بذكائه ودهائه ـ (يقصد محاوره الدكتور فؤاد زكريا) كثيرا ما يدفعنا إلى توضيح الواضحات، والتدليل على الضروريات! فلنعد إلى مناقشة ما اتكأ عليه من شبهات، يستدل بها على دعواه العريضة)).

وتحت عنوان جانبي ((استدلالات منقوضة)) يقول د. القرضاوي:

اعتمد د. زكريا في رفضه لصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، على أمرين أثبتناهما، بعبارته بحروفها، حتى لا نتجنى عليه:

خلاصة الأمر الأول: أن الإنسان جوهره التغير، فلا تصلح له شريعة جوهرها الثبات.

وهنا أقول للكاتب: لقد أخطأت في القضيتين كلتيهما، فلا الإنسان جوهره التغير، ولا الشريعة جوهرها الثبات)). انتهى.

يقول الدكتور القرضاوي هذا الكلام ولم يجف حبر ما كتب قبله بأسطر معدودات: (إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله ذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد صلى الله عليه وسلم). !!!!!!!

وتحت عنوان جانبي: “حقيقتان كبيرتان”. كتب: “”وقبل أن أبين خطأ الكاتب في دَعْوَيَيْه، أريد أن ألفت النظر هنا إلى حقيقتين كبيرتين:

((الأولى: أن منطق الإيمان يرفض رفضا كليا مناقشة ما أثاره الدكتور من دعاوى. فالمسلم الذي رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماما، لا يتصور منه أن يناقش مبدأ صلاحية الأحكام، التي شرعها له ربه وخالقه، لهدايته وتوجيهه إلى التي هي أقوم، لأن معنى هذا أن المخلوق يتعالم على الخالق، وأن العبد يستدرك على ربه، وأنه أعرف بنفسه، وبالكون، وبالحياة من حوله، من صانع الكون، وواهب الحياة، وبارئ الإنسان)).

هذا الكلام يعبر تعبيرا واضحا عن موقف رجال الدين عموما والإسلاميين خاصة من أي رأي آخر مختلف وتكفير صاحبه والدعوة إلى قمعه وترهيبه واغتياله. وأنا هنا أدعو العلمانيين التوفيقيين أن يتأملوا هذا الكلام للقرضاوي وهم الذين لا يتوقفون عن نصحنا بضرورة تجنب مهاجمة الأديان والاقتصار على مهاجمة رجالها بحجة أنهم محرفون لصحيح الدين؟ وأنا أرى أنه لا يجدي أي نقد لا يتحاشى نقد نصوص الدين ذاتها وأن نسبة العيب إلى رجال الدين وليس للدين إنما يزيد في حدة غيبوبة وتبعية الناس لهذه الأديان ولرجالها بعد أن شهد (العلمانيون) أن العيب ليس في الدين بل في فهمه؟ بل حتى الدكتور فؤاد زكريا لم ينج من الوقوع في هذا المطب كما تضمنه نقدي له في المقال السابق رغم أن له في ذلك أسبابا ومآرب يمكن أن نتفهمها.

يقول القرضاوي: ((فالمسلم لا يناقش ـ بحال ـ مبدأ صلاحية الشريعة، أو النصوص الإلهية للتطبيق والعمل في كل زمان ومكان، لأن هذا يعني مراجعته للإسلام ذاته، أهو من عند الله أم لا؟ وهذا أمر قد فرغ منه كل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، أيقن بها قلبه، ونطق بها لسانه. إنما يناقش المسلم في بعض الأحكام والجزئيات، هل هي من عند الله أم لا؟ هل صحت نسبتها إلى الله، بأن جاءت في محكم كتابه، أو ثبتت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟)).

نلاحظ أن المناقشة عند القرضاوي محصورة في المسلم فقط ((الذي رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماما). كذلك كان الغزالي يلوم السياسيين الجزائريين عندما يخاطبون الناس بـ (أيها المواطنون) واقترح استخدام (أيها المؤمنون، أيها المسلمون.. يا أيها الذين آمنوا) !!!. يقولون هذا الكلام رغم أن مطلب تطبيق الشريعة يهم جميع المواطنين مهما اختلفت مذاهبهم وأفكارهم ومعتقداتهم لأن نتائجها يتحملها الجميع. ثم بعد ذلك يؤكد أن شريعته تتسع لإدارة شؤون الدولة في كل مكان وزمان وهو ما يعني أنه يقصد الدولة الإسلامية فقط، غير أننا نعرف أن لا مكان في دولته الإسلامية إلا لمواطنين مسلمين درجة أولى أما غيرهم فأشباه مواطنين من درجات متدنية لا مواطنة لهم بالمفهوم العصري، وعليهم أن يقبلوا صاغرين بشريعة هذه الدولة الإسلامية القروسطية التي يجب أن تطبق على الجميع خاصة ما تعلق منها بأهم مسألة وهي السلطة وإدارة شؤون الناس فيها وكيف يجب أن يشارك الجميع في تقرير حاضرها ومستقبلها. دولته إذن دينية بامتياز، رغم أنه وغيره من الإسلاميين ينفون كونهم يدعون إلى دولة دينية ثيوقراطية. ليس من حق غير المسلم، بل حتى المسلم العلماني والمسلم من غير المنتمي للمذهب الغالب، وهو عند القرضاوي المذهب السني، أن يكون له رأي مختلف حول مصير بلاده من حيث التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وأن يناقش بحرية، مثلما فعل فؤاد زكريا بحسن نية، مدى أهلية الشريعة وقدرتها على إدارة شؤون الناس. دولة القرضاوي في النهاية وفي أقصى درجة من تسامحها كما هي دولنا الحالية هي دولة ملية تقسم المواطنين إلى طوائف تحت هيمنة الطائفة السنية الغالبية حسب ما يمليه قانون الغاب الديني.

ولهذا لا يتوقف الشيخ في طول هذا الحوار وعرضه عن التهديد والوعيد مثل قوله هنا: (( وقد أجمع العلماء على أن من أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، ولم يكن حديث عهد بالإسلام، ولا ناشئا ببادية أو ببلد بعيد عن دار الإسلام، فإنه يكفر بذلك، ويمرق من الدين، وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة والإقلاع عن ضلاله، وإلا طبقت عليه أحكام المرتدين)).

ونحن نعرف النتيجة النهائية لهذا الكلام من خلال الاغتيالات التي تعرض لها المثقفون العلمانيون، بل حتى رجال دين يختلفون مع القرضاوي وزبانيته، حتى وصل الأمر في نهاية هذه الصحوة المجنونة إلى تكفير كل الناس الذين لا ينتمون إلى جماعاتهم. بلادي عانت من هذا التطبيق الأهوج للشريعة حين خاض الإسلاميون حربا شرسة ضد الجميع، كما عرفت هجرة عشرات الألوف من الكفاءات نحو الغرب في التسعينات هربا من بعبع شريعة القرضاوي، وهو نزيف لم يتوقف في مختلف البلاد العربية، مثل هجرة المسيحيين واليهود وكل من استطاع إلى ذلك سبيلا.

ومع هذا يخاطب القرضاوي محاوره بتعال وصلف: ((ولهذا كان الأصل ألا أشتغل بالرد على دعاوى الدكتور ف. زكريا، بالتشكيك في المسلمات القطعية عند المسلم، ولكني تنازلت عن موقعي الأصلي، واشتغلت بالرد “تبرعا” كما يقول علماء البحث والمناظرة في تراثنا، ومن باب “إرخاء العنان للخصم” كما في قوله تعالى (قل: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (سورة الزخرف:81) وقوله (وإنا أو إياكم لعلى هدى، أو في ضلال مبين) (سورة سبأ:24).)). انتهى.

إن الزعم بإرخاء العنان للخصم ليس تسامحا أو رحابة صدر أو ميلا للحوار المتمدن، بل هو استدراج نحو حوار ظنه العلمانيون مفتوحا وصادقا ونزيها ومتسامحا، بينما كان تلاميذ القرضاوي يشحذون الخناجر ويخططون لاغتيال محاوريهم الذين تحلوا بقدر محترم من الشجاعة الأدبية فعبروا عن آرائهم بصدق.

هل نحتاج مع هذا الكلام إلى دليل آخر على خطر تطبيق الشريعة على حريات الناس العامة والخاصة وعلى السلم الاجتماعي في مجتمعاتنا المتعددة المذاهب والطوائف والملل بالإضافة إلى ما نطمح إليه من حريات لا حدود لها إلا حدود العقل السليم والذوق الرفيق والحس المدني المرهف؟

وتحت عنوان: ((الإنسان بين الثبات والتغير))، يقول: (( بعد هذا البيان الواجب، أعود متبرعا للرد على مقولة محامي العلمانية: “أن الإنسان متغير، والشريعة ثابتة” وهو ما قلت: إنه أخطأ الصواب فيه في القضيتين معا.

أما الإنسان فليس صحيحا أن جوهره التغير، ويؤسفني أن يصدر هذا من أستاذ فلسفة! ولكن بالرغم من هذا التغير الهائل، الذي حدث في دنيا الإنسان، هل تغيرت ماهيته؟ هل تبدلت حقيقته؟ هل استحال جوهر إنسان العصر الذري عن جوهر إنسان العصر الحجري؟ هل يختلف إنسان أواخر القرن العشرين الميلادي عن إنسان ما قبل التاريخ؟ أسأل عن جوهر الإنسان، لا عما يأكله الإنسان، أو عما يلبسه الإنسان، أو عما يسكنه الإنسان، أو عما يركبه الإنسان، أو عما يستخدمه الإنسان، أو عما يعرفه الإنسان من الكون من حوله، أو عما يقدر عليه من تسخير طاقاته لمنفعته. لقد تغير ـ بالفعل ـ أكبر التغير مأكل الإنسان، وملبسه، ومسكنه، ومركبه، وآلاته، وسلاحه، كما تغيرت معرفته للطبيعة، وإمكاناته لتسخيرها، ولكن الواقع أن الإنسان في جوهره وحقيقته بقي هو الإنسان، منذ عهد أبي البشر آدم إلى اليوم، لم تتبدل فطرته، ولم تتغير دوافعه الأصلية، ولم تبطل حاجاته الأساسية، التي كانت مكفولة له في الجنة، وأصبح عليه بعد هبوطه منها أن يسعى لإشباعها، وهي التي أشار إليها القرآن في قصة آدم: (أن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (سورة طه:119).

وبما أن الإنسان، في اعتقاده، لم يتغير ولن يتغير، فهو يقول: ((إن إنسان القرن العشرين أو الحادي والعشرين، أو ما بعد ذلك، لا يستغنى عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وأحكامه، التي تضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها)). انتهى

طبعا، وبغض النظر عن تهافت نظرية الخلق الدينية (آدم) أمام نظرية النشوء والارتقاء الداروينية (القرد) والتي ليس ههنا مجال للإفاضة فيها، فإن مزاعم القرضاوي بأن الإنسان لا يتغير في جوهره و((لا يستغنى عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وأحكامه، التي تضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها)) لا تستقيم أبدا، وما استقامت عبر تاريخ هذا الإنسان.

هل معنى كلام الشيخ هذا أن إنسان اليابان والصين والهند (بوصفه لم يكرمه الله بدين سماوي، ولم ينتم إلى خير أمة أخرجت للناس أو إلى شعب الله المختار) لا يستحق أن يوصف بالإنسان وهو يعيش منذ قرون مستغنيا عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وأحكامه، التي تضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها”. فكيف عاشت تلك الشعوب كل هذه المدد الزمنية محافظة على خصائصها مهدية بلا هداية ربانية؟

إذا كان الناس في تلك البلاد المترامية الأطراف، المتعددة الأديان والأجناس، قد خلقوا أديانا وتعاليم وفلسفات حياة “ضبطت سيرهم، وحفظت عليهم خصائصهم، وحمتهم من أنفسهم وأهوائهم” شأنهم شأن غيرهم، فكيف لا يستطيع بشر اليوم وهم الأكثر خبرة وتجربة وعلما ومعرفة أن يخلقوا قوانين ومواثيق وأخلاقا قادرة على “ضبط سيرهم، وحفظ خصائصهم، وحمايتهم من أنفسهم وأهوائهم”؟ إلا إذا احتقرنا تلك الأديان الوثنية واعتبرنا معتنقيها دون مستوى البشر مجردين من أية خصائص وقيم تميزهم عن غيرهم، يعيشون في تيه وضياع دائمين، وهذا منتهى الكذب والعنصرية، وهذا ما ينطق به الإسلاميون دائما.

لكن القرضاوي يقول بأن الإنسان، في جوهره، هو الإنسان مهما تباعدت الأزمان والأوطان. ومن كلامه هذا فإنسان الصين واليابان والهند هو إنسان بأتم معنى الكلمة، عاش وبنى وشيد وعمر واخترع دون أن يحتاج إلى هداية الإسلام.

ومع ذلك فحديث القرضاوي عن إنسان جوهره الثبات حديث خرافة. فما هو هذا الجوهر الذي يأبى التغير؟ الإنسان في جوهره الطبيعي، إذا صح الوصف، هو حسب نتائج العلوم الحديثة عبارة عن كتلة من الغرائز والاستعدادات الخام مؤهلة لأي تشكيل، وهي نفسها عرفت تطورا على مدى الحقب الطويلة التي تقدر بمئات الآلاف من السنين، وحتى اليوم، لو تركنا أي فرد معزولا عن محيطه البشري الذي يشرف على تنشئته الاجتماعية والدينية والثقافية فسوف يعود إلى حياة بهيمية لعصر ما قبل اكتشاف النار: لن يرث في جيناته لا لغة، لا معرفة، لا خبرة، ولا حتى قدرة على النطق بحروف متمايزة لأن الحبال الصوتية تتخلق وتتهذب بالتدريب والمحاكاة، ولهذا يصعب تعلم الحروف على الصم البكم مقارنة بسليمي السمع. الإنسان إذن كائن ثقافي والثقافة مكتسبات متغيرة باستمرار وبالتالي فالإنسان كائن متغير باستمرار. أما إنسان القرضاوي المطلق فلا وجود له إلا في صورة بدائية بهيمية، تكذب تكذيبا قاطعا حديث ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) على أساس أن الإسلام وحده هو دين الفطرة، بمعنى أن الإنسان يولد على فطرة الإسلام. القرضاوي يقدم لنا هذا الزعم وكأنه حقيقة مسلم بها حتى هو نفسه يكاد يتخلى عنها عندما قال بعد عشرين سنة إجابة عن سؤال:

لنبدأ بالعامل الأول لتغير الفتوى، وهو تغير المكان، ما المقصود بهذا؟

يجيب: “للأسف بعض إخواننا من العلماء المعاصرين يقول إن الفتوى لا تتغير بتغير المكان، وأن الذي انفرد بهذا هو الإمام ابن القيم، وأنا أخالفهم في هذا، وأرى أن التغير المكاني هو من التغيرات الحقيقية للإنسان، فالإنسان في البادية غير الإنسان في الحضر، والإنسان في البلاد الباردة غير الإنسان في البلاد الحارة، والإنسان في الإسكيمو أو عند القطب الشمالي له أحكام تتعلق به، فمثلاً حينما نقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)، فإنه في القطب الشمالي لا يوجد «صعيد»، فهو لديه ثلج، وفي هذه الحالة صعيده هو الشيء المناسب لمكانه.

كذلك لا يوجد عنده أبقار، والكلاب هي التي تجر الأشياء، إذن فاقتناء الكلاب في هذه الحالة جائز وليس فيه حرج، كذلك هناك بلاد الشمس تغيب عنها ستة أشهر، وتطلع ستة أشهر، وهذه البلاد لها أحكامها الخاصة في الصلاة والصيام.

والعلماء من قديم انتبهوا لذلك، فمثلاً راعوا أن البدوي له أحكام خاصة، حتى قالوا لا يصح أن يؤم البدوي الحضري إلا إذا خرج من بداوته وتفقه، وذلك أن الرسول نهى عن عودة الشخص بعد الهجرة إلى البادية وجاء في الحديث: «من بدا جفا»، يعني أصبح عنده جفوة، وإلى ذلك أشار القرآن (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)). انتهى

 http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=7200&parent_id=16&template_id=211&version=1

 وهذا هو ما أراد قوله الدكتور فؤاد زكريا بالضبط. فهل يقبل الشيخ تعميم هذا الحكم التطوري إسلاميا على المرأة بعد أن صارت عالمة ورائدة فضاء ومهندسة وطبيبة ومحامية وأستاذة ونقابية وبرلمانية مختلفة تماما عن تلك المرأة الأمية الغافلة بسبب ما فرض عليها من حصار وتجهيل وظلامية حتى اعتبرها الإسلام ناقصة عقل ودين وناقصة أهلية وكرامة؟ هل يقبل وقف حكم الإسلام القطعي المهين على امرأتنا المعاصرة التي صار بمقدور عقلها أن يستوعب مجلدات من العلوم الطبية والقانونية والآداب والفنون والتقنيات، بينما يمكنها أن تكون شاهدة في قضايا بسيطة من الحياة اليومية مازالت إداراتنا تحرص عليه ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء ان تضلَّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى))؟ فكيف يمكن التعامل مع نصوص دينية يعتبرها القرضاوي من القطعيات والثوابت التي لا يمكن المساس بها في هذا العصر؟

هل تفتقد جماهير النساء عندنا إلى الفطرة الإسلامية عندما ترفض شريعة تعدد الزوجات والقوامة والحجر والشك في أهليتهن والتمييز العنصري ضدهن باسم هذه الشريعة ولو رفضا مواربا؟ هل يمكن أن نعتبر هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان بينما يرفضها نصف مجتمعاتنا على الأقل؟ هل من العدل أن نفرض هذه الشريعة أو على الأقل الكثير من نصوصها القطعية على النساء وعلى من لا يريد أن يخضع لها كما بينت ذلك في مقالي السابق؟

كيف نجيب القرضاوي وهو يقول: ((يتجلى هذا الثبات في “المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع” من كتاب الله، وسنة رسوله، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن، وكلاهما مصدر إلهي معصوم، ولا يسع مسلما أن يعرض عنه (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (سورة النور:54) (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم، أن يقولوا سمعنا وأطعنا) (سورة النور:51).

وفي المحرمات اليقينية، من السحر، وقتل النفس، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، والغصب، والسرقة، والغيبة، والنميمة، وغيرها مما يثبت بقطعي القرآن والسنة.

ومن أمهات الفضائل، من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء، وغيرها من مكارم الأخلاق، التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان. وفي شرائع الإسلام القطعية، في شئون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام، التي ثبت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول”؟ انتهى

ما علاقة مجتمعاتنا اليوم بهكذا خطاب قروسطي ما زال يستخدم مصطلحات مثل (قذف المحصنات الغافلات وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، والغيبة، والنميمة)؟

ولهذا يذكرني مطلب تطبيق الشريعة دائما بشريعة بروكرست اليوناني قاطع الطريق وسريره المشؤوم الذي يأبى أن يكون على قدّ المسافر المسكين الذي تقطع أوصاله بسببه لا محالة مهما كان من الطول أو القصر، مثلما تقطع أوصال مجتمعاتنا المعاصرة فلا هي انسجمت مع المدنية الحديثة ولا هي قادرة على البقاء ضمن مواصفات ذلك المجتمع الذي أنتج الإسلام. يكفي إلقاء نظرة خاطفة إلى مدننا وقرانا لنرى كيف تتجاور أنماط حياة متنافرة يعرقل بعضها بعضا لأنها تجمع بين عصور متباعدة. هذا في المظهر والملبس أما المخبر فما أبعدنا مدننا عن مدن المجتمعات الحديثة التي يسودها التمدن والتعايش السلمي والانسجام والتناغم في الملبس والمأكل والمسكن والمركب والفكر وحتى المعتقد.      عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.