هل تتماشى أحاديث ‘الطب النبوي’ مع العصر

بقلم د. عماد بوظو/
في كتب التاريخ والتراث لمختلف الشعوب روايات تتحدث عن إمكانات خاصة يمتع بها الرسل والقديسون. يدور أغلب هذه الروايات حول قدرت الرسل والقديسين على شفاء أمراض معينة أو حالات مستعصية. يطلق على هذه الأفعال الاستثنائية اسم “المعجزات” التي لا يستطيع القيام بها سوى نخبة مختارة من الناس، ويكون ذلك دليلا على قدسيتهم وقربهم من الله. تصل قدرتهم في بعض الحالات إلى درجة إعادة البصر للضرير وإحياء الموتى.
مع مجيء الإسلام ذكرت الكتب الدينية أن المحيطين بالرسول وخاصة المشككين بدعوته قد طلبوا منه إظهار معجزاته والأدلة على نبوته، وكان الرد على ذلك بأن معجزة النبي محمد هي القرآن، “قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا” الإسراء 88، “أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” يونس 38.
هناك أطباء وباحثين إسلاميين يحاولون إقناع القارئ العربي بأن علم الطب الحالي يتماشى مع كتب الحديث رغم أن كلامهم هذا غير دقيق
وأكد رجال الدين المسلمون على وجهة النظر هذه بقولهم إن معجزات الأنبياء السابقين مادية ينقضي زمانها ولا يراها إلا من عاصرها، فقد حصلت وانتهت وأصبحت خبرا من الماضي، كما أن لا صلة لها بوظيفة النبوة، ويقول ابن رشد: “إن دلالة القرآن على نبوة محمد ليست كدلالة انقلاب العصا إلى حية، ولا كدلالة إحياء الموتى وإبراء المرضى، فإن تلك المعجزات وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وفيها ما يقنع الناس من العامة، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة وأخبار الوحي ومعنى الشريعة”. ويؤكد شيوخ الإسلام السياسي المعاصرون على عدم وجود معجزات مادية عند الرسول، إذ يقول يوسف القرضاوي: “من هنا نفهم الحكمة الإلهية في عدم استجابة الله تعالى لمقترحات المشركين الذين طلبوا من الرسول خوارق حسية وآيات مادية مثل الرسل السابقين فأبى الله تعالى إلا هذا القرآن، وأنكر عليهم أن يسألوا آية غيره، وهو آية الله الكبرى لو كانوا يعقلون”.


كذلك لم يتضمن القرآن أي إشارة إلى قيام الرسول بمعجزات حسية مثل سابقيه من الأنبياء أو القديسين، ولم يتطرق بالعموم للطب أو العلاج إلا في أية حول العسل: “ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون” النحل 69، بالإضافة لآيات أخرى تعتبر القرآن نفسه شفاء: “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارة” الإسراء 82.
على النقيض من ذلك فإن كتب الحديث مليئة بالكثير من العلاجات والوصفات الطبية لمختلف الأمراض التي يدعي قائلوها إنها منقولة عن الرسول، وأطلقوا على مجموعها اسم الطب النبوي، من أمثلتها:
عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول: “في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام”، والسام هو الموت أخرجه البخاري ومسلم.
“عن أنس أن ناسا اجتووا ـ مرضوا ـ في المدينة أمرهم النبي أن يلحقوا براعية ـ أي الإبل ـ فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فشربوا حتى صلحت أبدانهم…” متفق عليه.
عن أم قيس بنت محصن سمعت رسول الله يقول “عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفيه يستعط به من الغدرة ويلد به من ذات الجنب” أخرجه البخاري ومسلم.
عن سعيد بن زيد قال سمعت النبي يقول “الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين”، أخرجه البخاري.
عن أبو هريرة أن النبي قال: “إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء” رواه البخاري.
عن جابر قال سمعت رسول الله يقول “عليكم بالإثمد عند النوم فإنه يجلو البصر وينبت الشعر” أخرجه ابن ماجه.
وهناك الكثير من الأحاديث المشابهة لوصفات قريبة الشبه بالطب الشعبي، كما أن هناك عشرات الأحاديث الأخرى عن “الرقية” وهي قراءة أدعية وآيات معينة من القرآن والمسح على المريض أو المنطقة المصابة حتى يشفى سواء كان مرضه عضويا أو ناجما عن الإصابة بالعين، عن أم سلمة أن النبي رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة فقال “استرقوا لها فإن بها النظرة”، أخرجه البخاري ومسلم.
في العصر الذي تم فيه تداول هذا النوع من الأحاديث كانت المجتمعات الإسلامية بشكل عام غنية اقتصاديا ومتطورة حضاريا وفكريا مقارنة ببقية العالم، وكان الطب من بين المجالات التي برع فيها علماء المسلمين. فأبو بكر الرازي ولد عام 250 هجري أي أثناء حياة البخاري ومسلم، وألف كتابه الشهير “الحاوي في الطب” الذي يضم خلاصة ما عرفه العالم من الطب منذ أيام الإغريق حتى تاريخه، ومن كتبه أيضا “تاريخ الطب” والمنصور في الطب، و”الأدوية المفردة” الذي يتضمن وصفا دقيقا لتشريح جسم الإنسان، وترجمت بعض كتبه للاتينية لتستمر كمرجع رئيسي للطب لعدة قرون، وقد وصفته المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه بأنه أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق.
وبعد الرازي بسنوات ولد الفارابي الذي عرف بمهارته بالطب بالإضافة لمكانته الرفيعة بالفلسفة والرياضيات والفيزياء. وبعده الزهراوي الذي يعد أعظم الجراحين في العالم الإسلامي ووصفه بعضهم بأبو الجراحة الحديثة، وشرح في كتبه الحقن الشرجية وأدوات خفض اللسان وفحص الحلق وفحص الأذن وقطع اللوزات وكلاليب لخلع الأسنان ومناشير للعظام ومكاوي ومشارط على اختلاف أنواعها، ووصف عملية القسطرة البولية وصنع خيطانا للجراح الخارجية والداخلية، وهو أول من وصف الحمل خارج الرحم وأول من اكتشف الطبيعة الوراثية لمرض الناعور “الهيموفيليا”.
وأهم أطباء ذلك العصر الشيخ الرئيس ابن سينا الذي اعتبره الغرب أبو الطب الحديث في العصور الوسطى، ألف 200 كتاب أشهرها القانون في الطب، الذي قال عنه السير ويليام أوسلر أنه “الإنجيل الطبي لفترة طويلة من الزمن” لأنه بقي المرجع الرئيسي في الطب سبعة قرون متواصلة حتى أواسط القرن السابع عشر. وابن سينا هو أول من وصف التهاب السحايا الأولي وأسباب اليرقان وأعراض حصى المثانة والكثير من الأمراض التناسلية، كما أنه تحدث عن وجود كائنات صغيرة لا ترى بالعين المجردة هي التي تنقل الأمراض، وكثير غيرها من الاكتشافات.
الحديث عن وجود دواء أو نبات واحد يمكن استخدامه لعلاج كل الأمراض ويصلح لكل زمان ومكان يبدو بعيدا عن العلم والمنطق والتسمية المناسبة له هي السحر
وبعد هؤلاء، أتى ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، بالإضافة لعشرات من أمثال هؤلاء الأطباء الذين كانوا يتبعون المناهج العلمية، حيث يبدؤون بدراسة كل ما كتبه أسلافهم الأطباء ومن ثم يقومون بأبحاثهم الخاصة لفهم آلية حدوث الأمراض ومن ثم الطرق المناسبة لعلاجها ثم يختبرون ذلك في ممارستهم الشخصية لمهنة الطب، وفي النهاية يدونون ويوثقون كل ما قاموا به وما توصلوا إليه من نتائج حتى تستفيد منه الأجيال التالية بشكل قريب جدا من مناهج البحث العلمي الحديثة.
هذا المنهج العلمي الرصين للأطباء المسلمين في ذلك الوقت لا يتماشى مع حديث: عن أبي سعيد أن رجلا أتى إلى النبي فقال أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا، وراجعه ثلاث مرات دون أن يتحسن والنبي يعيد عليه اسقه عسلا، وفي المرة الرابعة قال “صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا” فسقاه فبرأ، أخرجه البخاري ومسلم. فمن المستغرب اجتماع هذا النوع من الأحاديث مع هذا المستوى المتطور في الطب في نفس البيئة ونفس العصر، ولكن من المحتمل أنه من خلال أمثال هذه الأحاديث يستطيع رجال الدين وأحيانا بعض المشعوذين أن يلعبوا دور الأطباء، وقد يوفر لهم ذلك موردا للرزق أو يرفع من مكانتهم بين قومهم، خصوصا في “العلاجات” البعيدة عن المنهج العلمي للطب مثل الرقية التي ادعوا أن هناك مختصين فيها ومنحوه لقب “الراقي الشرعي” ونصحوا باللجوء إليه لمعالجة بعض الأمراض بما فيها تلك التي تسببها العين أو السحر أو الجن.
إذا كان من الممكن تفهم وجود هذا النوع من العلاجات في العصور القديمة فإن استمراره والتمسك به والدفاع عنه في عالم اليوم يبدو غريبا. فإذا بحثنا مثلا عن الحبة السوداء “حبة البركة” (اسمها العلمي نيجيلا ساتيفا)، في أغلب المراجع الحالية المكتوبة باللغة العربية نجد لها عشرات الفوائد التي تشمل كل أعضاء ووظائف الجسم، حتى أننا نجد أن لها دورا في علاج أمراض مستعصية على العلم كسرطان الكبد والثدي وغيرها. ونلاحظ أن جميع الأبحاث التي أدت إلى مثل هذه النتائج الغريبة قد جرت في جامعات ومستشفيات بلدان إسلامية، ولكن عند الذهاب للمراجع التي تتحدث عن نفس النبتة باللغة الإنكليزية لا نجد فيها شيئا مميزا ولا نجد لها أي مفعول علاجي مؤكد.
ويشير هذا الأمر إلى أن هناك أطباء وباحثين إسلاميين يحاولون إقناع القارئ العربي بأن علم الطب الحالي يتماشى مع كتب الحديث رغم أن كلامهم هذا غير دقيق وبعيد عن الأمانة العلمية، بدل إعادة النظر في صحة هذه الأحاديث ومصداقية من ادعى أنه قد نقلها عن الرسول. ومثال آخر على ذلك ما يفعله بعض رجال الدين أو حتى الأطباء المسلمين بحديث جناحي الذبابة للبخاري، فنرى بعضهم يدعي أن العلم الحديث قد أثبته، ويصورون ذلك باعتباره إعجازا علميا لهذا الحديث دون وجود أي دليل علمي على ادعائهم هذا، ويتهمون الذي يشكك بصحة أمثال هذه الأحاديث بأن هدفه التهجم على الإسلام نفسه!
وقبل كل ذلك فإن علم الأمراض مرتبط بالزمان والمكان، فالكثير من أمراض الدول الفقيرة تكون بسبب سوء التغذية ونقص البروتين وغيره من العناصر الغذائية أو التلوث، بينما في الدول الغنية تنتشر أمراض لها علاقة بالإفراط في الطعام مثل السمنة والسكري وارتفاع الكولسترول والضغط وأمراض التروية القلبية، وعلاج إحدى هذه المجموعات يختلف جوهريا عن الأخرى. كما أن هناك أمراضا قديمة انقرضت وأمراضا حديثة تظهر كل بضع سنوات، والحديث عن وجود دواء أو نبات واحد يمكن استخدامه لعلاج كل هذه الأمراض معا ويصلح لكل زمان ومكان يبدو بعيدا عن العلم والمنطق والتسمية المناسبة له هي السحر.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.