هل العلمانية ضد الدين؟ حوار مع القرضاوي 9

عبد القادر أنيس

هذه الحلقة التاسعة حول كتاب القرضاوي: “الإسلام والعلمانية، وجها لوجه”
الإسلام والعلمانية، وجها لوجه
يستهل الشيخ هذا الفصل: “العلمانية ضد الدين ص 74-75. بقوله: “قلنا: إن “العلمانية” بالمعنى الذي بيناه، مرفوضة في أوطاننا عامة، وفي مصر خاصة، بأي معيار احتكمنا إليه، وأول هذه المعايير هو الدين”.
قبل مناقشة القرضاوي في هذه الفتوى وغيرها من فتاوى شيوخ الإسلام التي ساهمت في الزج ببلاد المسلمين في هذه المغامرة الرجعية ضد العالم بأسره وفوتت علينا فرصا لا حصر لها للخروج من هذا الانسداد البغيض، قبل هذا بودي أن يطلع القارئ على تعريف للعلمانية، كما يعيشها الناس في البلاد التي استقرت فيها واقتنع بها المواطنون، عند الفيلسوف الفرنسي كونت سبونفيل في قاموسه الفلسفي

(Dictionnaire philosophique, André Compte-Sponville) ص 332، مادة (laïcité):
“العلمانية ليست الإلحاد. هي ليست اللادينية. ولا هي دين إضافي. العلمانية لا تهتم بالله، بل بالمجتمع. هي ليست تصور عن العالم؛ هي تنظيم للمدينة أو الحاضرة

(la cité)

. هي ليست معتقدا؛ هي مبدأ، أو مجموعة من المبادئ: حيادية الدولة حيال أي دين وحيال أية ميتافيزيقا، استقلالها عن الكنيسة واستقلال الكنيسة عن الدولة، حرية الاعتقاد والعبادة، حرية النظر والنقد، غياب أي دين رسمي، أية فلسفة رسمية، وبالتالي، حق كل فرد ممارسة الدين الذي يختاره أو عدم ممارسة أي دين، وأخيرا، وهو لا يقل أهمية، سيادة الطابع غير الديني ولا الكهنوتي – ولا المناهض للكهنوت أيضا- للمدرسة العمومية. ويمكن إيجاز كل ذلك في ثلاثة كلمات: حيادية (الدولة والمدرسة)، استقلال (الدولة تجاه الكنيسة والعكس)، حرية (الاعتقاد والعبادة). بهذا المعنى يستطيع الأسقف لوستيجيه

(Lustiger)

أن يقول إنه علماني، وأنا أشهد على ذلك. هو لا يرغب أن تتولى الدولة الوصاية على الكنيسة ولا هذه الأخيرة الوصاية على الدولة. هو على حق ولو من وجهة نظره: إنه يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متى 22، 21). وسيخطئ الملحدون لو تململوا من هذا الكلام. أما أن تتأخر الكنيسة، إلى هذا الحد، في الاعتراف بالعلمانية، فلن يجعل تحولها إلا مشهديا. لكن هذا الانتصار، بالنسبة للعلمانيين، ليس مع ذلك هزيمة للكنيسة: إنه انتصار مشترك للعقول الحرة والمتسامحة. العلمانية تمكننا من العيش سوية، رغم اختلافنا في الآراء والاعتقادات. لهذا فهي رائعة. لهذا فهي ضرورية. هي ليست نقيضا للدين. هي نقيض لا يلين للكهنوتية (التي تسعى لإخضاع الدولة للكنيسة) وللشمولية (التي تسعى لإخضاع الكنائس للدولة).
“نعرف أن إسرائيل، إيران أو الفاتيكان ليست دولا علمانية، لأنها ترفع شعار دين رسمي أو مفضل. لكن ألبانيا أنور خوجة لم تكن كذلك، وهي تنشر إلحاد الدولة. وهذا يدفعنا للقول أيضا ما يجب أن تكون عليه العلمانية: ليست أيديولوجيا دولة، بل هي رفض الدولة الخضوع لأية أيديولوجيا مهما كانت”.
“فماذا عن حقوق الإنسان؟ كما قد يتساءل أحدهم. وماذا عن الأخلاق؟ هنا أيضا ليس على الدولة أن تخضع لهما، بل عليها أن تخضع لقوانينها الخاصة ولدستورها الخاص. أو تخضع لحقوق الإنسان بشرط أن يكون الدستور قد نص عليها أو تَضَمَّنَها. لماذا على الدولة أن تقوم بهذا في ديمقراطياتنا؟ لأن الشعب السيد قرر ذلك، ولا حق لي أن ألومه على قراره. وهو ما يعني وضع الدولة في خدمة البشر، وليس بالأحرى، البشر في خدمتها. والسبب نفسه يمنع من تنصيب حقوق الإنسان دينا للدولة. ليس على الدولة أن تتحكم في العقول ولا في القلوب. ليس عليها أن تقول هذا هو الحق وهذا هو الخير، بل فقط أن تقول ما هو مسموح وما هو ممنوع. ليس للدولة دين. ليس للدولة أخلاق. ليس للدولة مذهب. أما المواطنون فمن حقهم أن يكون لهم ذلك، إذا رغبوا فيه. ولا يعني هذا، مع ذلك، أن على الدولة أن تقبل كل شيء ولا أن تقدر عليه. لكنها لا تمنع إلا الأفعال، لا الأفكار، إذا كانت هذه الأفعال تتعارض مع القانون. ففي دولة علمانية بحق، لا مكان لعقوبة الرأي. كل شخص يفكر فيما يريد، ويعتقد فيما يرغب. إنه يُسْأَل عن أفعاله وليس عن أفكاره. عما يفعل لا عما يعتقد. إن حقوق الإنسان في دولة علمانية، ليست إيديولوجيا، كما هي ليست دينا. ليست معتقدا، بل هي إرادة. ليست هي رأيا بل قانونا من حقنا أن نكون ضده. وليس من حقنا أن ندوس عليها”. انتهى.
هنا لابد أن أشير إلى أن فيلسوف القرن الواحد والعشرين في شخص كونت سبونفيل، يختلف إلى حد ما عن فيلسوف القرن الثامن عشر في شخص فولتير. كانت علمانية هذا الأخير عنيفة ومناهضة للكنيسة كون هذه الأخيرة كانت عنيفة ومناهضة للعلمانية والعلم والحرية. ولعلني لا أخطئ إذا قلت بأن محنتنا اليوم، في العالم الإسلامي، تتمثل في كوننا لم ننجز بعد مهمة فولتير ومعاصريه ولهذا فنحن أبعد من واقع العلمانية الذي يتحدث عنه فيلسوف القرن الواحد والعشرين. وهو ما يحتم علينا أن نكون أكثر قربا من فولتير منا إلى كونت سبونفيل حتى تتعمق العلمانية في ديارنا. وحتى يظهر عندنا قرضاوي من طراز آخر هو أقرب ما يكون من الأسقف الباريسي لوستيجي (توفي سنة 2007) وأبعد ما يكون عن قرضاوي الدوحة الذي ما زال حيا يرزق، يصول ويجول، يحيي ويميت، يأمر وينهى، يحل ويربط يعبئ ويجيش ويستعدي العامة والحكومات ضد الأحرار وضد كل التطلعات الشرعية من أجل مجتمعات الحرية والديمقراطية والعلمانية والمساواة والمواطنة الحقة.
وإلى ذلك اليوم علينا أن نكون فولتيريين تجاه قرضاوينا الذي ما زال يقول: “فإذا احتكمنا إلى الدين، أعني الدين الذي تؤمن به الأغلبية، وتنزل على حكمه ـ وهو الإسلام ـ نجده يرفض العلمانية رفضا حاسما، ذلك لأنها هي لا تقبل التعايش معه، كما أنزله الله، كما بينا ذلك من قبل”. وهذا بالضبط ما كان يقوله رجال الكهنوت في وجه فولتير.
إن الانتقال من قراءة ما ترجمناه للفيلسوف الفرنسي قبل قليل، إلى قراءة هذا الكلام للقرضاوي، يصيبنا بالصدمة، ولعلها صدمة تشبه إلى حد بعيد ما نشعر به عند عودتنا إلى مدننا البائسة الوسخة المغبرة قادمين إليها بعد زيارة إلى إحدى مدن الشمال الجميلة النظيفة السعيدة. متابعة هذا الحوار مشقة، لكن “مُكْرَهٌ أخوك لا بطل” .
على ذكر الأغلبية في كلام القرضاوي لا بد أن نشير إلى أن الفكر الإسلامي لا يعترف إلا بالأغلبية التي تعني الإجماع كما رأينا ذلك في المقال السابق. بينما الديمقراطية الحديثة تستمد قوتها من احترام حقوق الأقلية في البقاء في الساحة وتمكينها من أدوات التعبير المختلفة، بل يرى بعضهم أن لا ديمقراطية ممكنة بدون أقلية فاعلة. الأغلبية الطاغية في مفهوم القرضاوي لا وجود لها. وما كان بإمكان الديمقراطيات الحديثة البقاء إلا عبر احترام هذا المبدأ. لو عملت الديمقراطية الغربية بدكتاتورية الأغلبية المطلقة لانتهت كلها إلى فرض الإجماع القرضاوي على الجميع. وقد حدث ذلك بالفعل مع النازية والفاشية التي كانت تجر وراءها أغلبية الناس أي لو كان التفويض الذي تحصل عليه الأغلبية في الانتخابات يخولها فعل ما تشاء لبدأت بمنع التعددية الحزبية وتعدد الآراء والأفكار في المجتمع وإغلاق كل قنوات التعبير في وجه كل ممثلي الأقلية لينتهي الأمر إلى منظومة سياسية شمولية أحادية الحزب والفكر والسياسة والاقتصاد وغيره ذلك. وهذا ما يريده القرضاوي عندما يتلفظ بكلام في منتهى الخطورة ” فإذا احتكمنا إلى الدين، أعني الدين الذي تؤمن به الأغلبية، وتنزل على حكمه ـ وهو الإسلام ـ نجده يرفض العلمانية رفضا حاسما، ذلك لأنها هي لا تقبل التعايش معه، كما أنزله الله، كما بينا ذلك من قبل”.
وهذا ما كان يردده إسلاميو الجزائر عندما شبهوا انتخابهم بالبيعة، والبيعة في الإسلام مرة واحدة. ولهذا قالوا: إن هذه ستكون آخر انتخابات ديمقراطية. أما أن يفكروا في حق الأقلية التي يمكن أن تتحول إلى أغلبية في انتخابات حرة قادمة فهذا مستحيل، وهم في ذلك لا يختلفون عن القوميات والاشتراكيات البائدة التي اعتبرت نفسها موكلة عن الكادحين الذين يمثلون الأغلبية في مجتمعاتنا البائسة.
تزداد هذه النظرة سوءا في البلاد التي تعيش فيها أقليات دينية ومذهبية وطائفية وسياسية كمصر مثلا، بلد القرضاوي الأصلي. في هذا البلد، كما في غيره، ينص الدستور على أن الإسلام دين الدولة وهو مصدر التشريع فيها وفي الجزائر مثلا كان الدستور والميثاق الوطني سابقا ينص على أن الاشتراكية ونظام الحزب الواحد خيار لا رجعة فيه. والنتيجة البغيضة لهكذا سياسة قرضاوية لا بد أن تتجه وجهتان لا غير. الوجهة التي تفضي إلى فرض شريعة الإسلام على غير المسلمين وفرض مذهب الأغلبية على الجميع مع تغييب أي حق في المعارضة والاحتجاج والتوجه نحو الشعب.
الوجهة الثانية، تفضي إلى تقسيم الوطن الواحد إلى جزر طائفية يفرض على المواطنين فيها، بالقهر، الخضوع إلى طوائفهم أبوا أم كرهوا، خاصة في الأحوال الشخصية، ويصبح أي تواصل إنساني حميم بين المواطنين المختلفين دينيا وطائفيا من قبيل المستحيل، في الحب والزواج والمعاملات التجارية والانتماء الحزبي والنقابي وغير ذلك مادام قانون الأغلبية هو المطبق على الجميع. هذا هو مآل رفض العلمانية في مجتمع القرضاوي.
يؤكد القرضاوي هذا الكلام فيقول: “فهي قد تقبله عقيدة في ضمير الفرد، ولكنها لا تقبل هذه العقيدة أساسا للولاء والانتماء، ولا ترى أن من موجبات العقيدة الالتزام بحكم الله ورسوله”.
فأي ولاء وأي انتماء يقصده القرضاوي غير الولاء والانتماء للوطن والإنسانية؟ طبعا هو يقصد الولاء الإسلامي والانتماء الإسلامي، وهو يقول في مكان آخر الولاء “للجنسية الإسلامية” وهو في النهاية ما يدفع الناس للولاء الطائفي.
ويقول: “وهي قد تقبله عبادة ونسكا، لكن على أن تكون شأنا موكولا إلى الأفراد، لا على أن ترعاه الدولة، وتحاسب عليه، وتقدم الناس، أو تؤخرهم على أساس الالتزام بذلك أو عدمه. وهي قد تقبله أخلاقا وآدابا، ولكن فيما لا يمس التيار العام، المقلد للغرب، فالأصل لدى العلمانيين أن يبقى الطابع الغربي سائدا غالبا، على عاداتنا وتقاليدنا في المأكل، والملبس، والزينة، والمسكن، والعلاقة بين الرجال والنساء، ونحوها ضاربين عرض الحائط بما قيد الله به الفرد المسلم والمجتمع المسلم من أحكام الحلال والحرام”.
إن أهم ما يمكن أن نفهمه من هذا القول هو أن القرضاوي لا يؤمن بتاتا بحق الناس في حرية اختيار مأكلهم وملبسهم وزينتهم ومسكنهم والعلاقة بين الرجال والنساء. هي رؤية فاشية للحياة تتجاوز بكثير الرؤية الاستبدادية والدكتاتورية السياسية التي مارستها الأنظمة الاستبدادية العربية باسم القومية والاشتراكية وغير ذلك (باستثناء الأنظمة الإسلامية طبعا) لأن الأولى رغم استبدادها السياسي كانت تترك مساحات واسعة للحريات الفردية “في المأكل، والملبس، والزينة، والمسكن، والعلاقة بين الرجال والنساء، ونحوها” حسب تعبير القرضاوي. أما الثانية فلا. ولعل هذا ما حدا ببعض المثقفين العلمانيين إلى الوقوف إلى جانب حكومات الاستبداد ضد الفاشية الإسلامية كأهون الشرين.
ونقرأ له أيضا: “أما الشيء الذي تقف العلمانية ضده بكل صراحة وقوة، فهو “الشريعة” التي تنظم بأحكامها الحياة الإسلامية، وتضع لها الضوابط الهادية، والعاصمة من التخبط والانحراف، سواء في ذلك ما يتعلق بشئون الأسرة “الأحوال الشخصية” أو المجتمع، أو الدولة في علاقاتها الداخلية أو الخارجية، السلمية أو الحربية، وهو ما عنى به الفقه الإسلامي بشتى مدارسه، ومختلف مذاهبه، وخلف لنا فيه ثروة تشريعية طائلة، تغنينا عن استيراد القوانين من غيرنا، وهي قوانين لم تنبت في أرضنا، ولم تنبع من عقائدنا وقيمنا وأعرافنا، وهي بالتالي تظل غريبة عنا، مرتبطة في أذهاننا وقلوبنا بالاستعمار الدخيل، الذي فرضها علينا دون إرادة ولا اختيار منا”.
وهو محق في قوله بأن العلمانية تقف ضد تطبيق الشريعة. لأن الشريعة هي، عكس ما يدعيه، غير قابلة للتطبيق أصلا. فلا أحكامها قادرة على تنظيم حياة الناس رغم قرون من الهيمنة والتطبيق، ولا فيها من “الضوابط الهادية، والعاصمة من التخبط والانحراف، سواء في ذلك ما يتعلق بشئون الأسرة “الأحوال الشخصية” أو المجتمع، أو الدولة في علاقاتها الداخلية أو الخارجية، السلمية أو الحربية”، ولو كان هذا الكلام صحيحا لانعكس على أوضاع البلاد التي احتكمت إلى الشريعة ماضيا وحاضرا، ولا “الفقه الإسلامي بشتى مدارسه، ومختلف مذاهبه” اعتنى بذلك، ولا “خلف لنا فيه ثروة تشريعية طائلة، تغنينا عن استيراد القوانين من غيرنا” بل أنا أجزم أن حظ الفقه الإسلامي من “العلم السياسي”، يكاد يقترب من الصفر لأنه زهد فيه بسبب كون النصوص الإسلامية المؤسسة (الكتاب والسنة) أهملته تماما نظرا لمنشئها البدوي القائم على الإجماع حول إله واحد ونبي واحد ودين واحد وكتاب واحد ومصير واحد، وهو ذات المنشأ الذي تمكن من القضاء على تلك التجربة المكية (اللبرالية) نسبيا والتي فشل في مواجهتها سلميا في مكة فعبأ من أجل القضاء عليها قبائل الأعراب المعتادة على الغزو والسلب والسبي، ومن السخف أن يحتج الإسلاميون اليوم بـ”وأمرهم شورى بينهم” لمعارضة الديمقراطية الحديثة أو الالتفاف والسطو على منجزاتها وأسلمتها وإعادة إخراجها إسلامية أصيلة. أما الحديث عن الشورى في الإسلام فهو حديث خرافة ومهما بحثنا فلن نجد له لا رأسا ولا جسدا. كل ما في الأمر أن الحاكم أو الملك أو الخليفة كان يصل إلى منصبه بطرق مختلفة أغلبها التوريث أو العصبية القبلية أو الانقلاب ثم يجمع الناس لمبايعته شكليا ويباركه الفقهاء تحت شعار “ظلم غشوم خير من فتنة تدوم”، ثم يجمع هذا الحاكم، إذا شاء، أهل الحل والعقد ممن يضمن ولاءهم، على أن تبقى مشورتهم غير ملزمة له. فهل يشبه هذا ما يزعمه القرضاوي حول” الضوابط الهادية، والعاصمة من التخبط والانحراف، سواء في ذلك ما يتعلق بشئون الأسرة “الأحوال الشخصية” أو المجتمع، أو الدولة في علاقاتها الداخلية أو الخارجية، السلمية أو الحربية”؟
أما ما يهاجمه باعتباره “قوانين لم تنبت في أرضنا، ولم تنبع من عقائدنا وقيمنا وأعرافنا، وهي بالتالي تظل غريبة عنا، مرتبطة في أذهاننا وقلوبنا بالاستعمار الدخيل، الذي فرضها علينا دون إرادة ولا اختيار منا”، فهو من قبيل التهويل ودق طبول الحرب ضد خطر وهمي، فالقوانين التي وضعها لنا الاستعمار قبل الجلاء أو تلك التي استوحيناها من دساتيره ومواثيقه، سرعان ما قمنا بتشويهها وتحريفها بعد الجلاء لتتناسب مع رغبتنا في الجمع ضمن خلطة غريبة عجيبة تشبه كوكتيل مولوتوف، وأهم ما فيها أن الحسنة الغربية تمحوها السيئة الشرقية: إن معظم دساتيرنا تنص على تساوي المواطنين بدون تمييز في الدين والجنس مثلا (كما نصت الدساتير الغربية) ثم تنص على أن الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع والمرأة ناقصة أهلية والمجتمع مقسم إلى طوائف تحتكم إلى تشريعاتها القروسطية في الأحوال الشخصية التي يتحدث عنها شيخنا.
وعندما يقول القرضاوي: “هذا هو حال القوانين الوضعية بالنسبة لنا، ولكن العلمانية تقبلها، وترفض شريعة الله، تتبنى الزنيم، وتنفي نسب الابن الأصيل”.
وهو كلام يقطر كذبا ووحشية وحقدا ولا يحتاج إلى تفنيد بقدر ما يحتاج إلى رفع دعاوى ضده وضد حكامنا إلى المحاكم الدولية بتهمة “الجريمة ضد الإنسانية” خاصة في قضية التبني وتعدد الزوجات التي تجعل هذه الفئات في مجتمعاتنا تعاني التمييز العنصري والحيف والظلم والعزل والتهميش والغبن من المهد إلى اللحد وكلها جرائم تقع تحت طائلة البند السابع في نظام روما بمحكمة الجنايات الدولية مثل “اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرفية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس” ومثل “الاعتداء على كرامة الشخص، وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة”. وإن الدفاع عن حق الرجل في أربع زوجات هو جريمة ضد كرامة المرأة، وإن معارضة رجال الدين للتبني من أجل التكفل الإنساني بأطفال أبرياء لا ذنب لهم سوى أن أنهم ولدوا خارج مؤسسة الزواج القروسطية التي تجاوزتها الأمم المتحضرة جريمة ضد الإنسانية يعاني منها ملايين الأطفال في العالم الإسلامي.
نختم هذا الحوار بقول القرضاوي: ” وبهذا تناصب العلمانية العداء للدين، أعني للإسلام، الذي أنزله الله نظاما شاملا للحياة، كما أن الإسلام يناصبها العداء أيضا، لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفتها، وفقا لأمر الله ونهيه، والحكم بما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحكم المجتمع بما أنزل الله، سقط ـ لا محالة ـ في حكم الجاهلية، وهو ما حذر الله منه رسوله والمؤمنين من بعده، حين قال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (سورة المائدة:49،50)”.
وهو محق في قوله بأن العلمانية تناصب العداء للدين، مادام يزعم أن هذا الدين ” نظاما شاملا للحياة”، والعلمانية لا تعترف له بـ “سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع، وتوجيه دفتها، وفقا لأمر الله ونهيه، والحكم بما أنزله على رسوله” لأنه فشل في هذه المهمة على مدى 14 قرنا من الزمان وعرقل كل الجهود الفكرية والفلسفية والعلمية للخروج من هذا الانحراف الذي ابتلي به العرب وعمموه على بقاع واسعة من العالم.
أدعو القارئ مرة أخرى إلى قراءة ما يلي للقرضاوي: “إن العلمانية بمعيار الدين دعوة مرفوضة، لأنها دعوة إلى حكم الجاهلية، أي إلى الحكم بما وضع الناس، لا بما أنزل الله. إنها دعوة تتعالم على الله جل جلاله! وتستدرك على شرعه وحكمه! كأنها تقول لله رب العالمين: نحن أعلم بما يصلح لنا منك، والقوانين ـ التي أدخلها الغرب إلى ديارنا في عهود استعماره ـ أهدى سبيلا من أحكام شريعتك!! فماذا عسى أن يوصف من وقف هذا الموقف من ربه وشرعه؟!!”
ولكني أرجو من كل ذي عقل أن يعود لقراءة قول الفيلسوف الفرنسي السابق حتى لا يبقى في حلقه هذا المذاق المر وحتى يمحو السيئة بالحسنة.
يتبع  عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.