هل أميركا في انحدار؟

روبرت صامويلسون – الشرق الاوسط

انتهى القرن الأميركي.. ومرحبا بالقرن الأميركي المقبل. تدور النقاشات السياسية الراهنة حول حالة الانحدار التي تعانيها الولايات المتحدة.. افتراض عادة ما يصور على أنه أمر مسلم به؛ فالاقتصاد يفتقد إلى الحيوية، والبطالة التي تقترب من ثمانية في المائة لا تزال في مستويات الركود، والرئيس نادرا ما يتحدث إلى منتقديه من الجمهوريين، والمأزق يبدو بلا نهاية.. ولكن ماذا إن لم تكن أميركا في انحدار؟ ستأتي الإجابة القوية من مكان غير متوقع: إنه «وول ستريت». وأكد المحللون في «غولدمان ساكس» في تقرير لعملائهم أن الولايات المتحدة لا تزال الاقتصاد الأقوى في العالم وستظل كذلك لسنوات، وأن هناك وعيا كاملا بـ«المميزات الجيوسياسية ورأس المال البشري والمؤسسي والاقتصادي الذي تتفوق به أميركا على الاقتصادات الأخرى».

ودليلا على ذلك، قدموا حقائق ضخمة.. بالنسبة للشركات الصغيرة، لا تزال الولايات المتحدة الأضخم عالميا، فالناتج المحلي الإجمالي يقارب 16 تريليون دولار، ويعادل ضعف نظيره الصيني تقريبا، صاحبة المركز الثاني، و2.5 مرة ضعف اليابان التي جاءت في المركز الثالث. أما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فيقترب من 50.000 دولار، ورغم تفوق 10 دول على الولايات المتحدة في نصيب الفرد من الناتج المحلي، فإنها دول صغيرة؛ على سبيل المثال لوكسمبورغ. لكن حجم السوق الأميركية يجعل منها مكانا جاذبا للاستثمار.

 تأتي بعد ذلك الموارد الطبيعية، ففي عالم نهم للغذاء والطاقة، تمتلك الولايات المتحدة كليهما.. إنها أرض خصبة للزراعة وتفوق حجم الأرض القابلة للزراعة بخمسة أضعاف في البرازيل وهي تساوي ضعف حجم الأراضي في البرازيل. وفتح التقدم في عمليات التكسير والحفر الأفقي الباب لاحتياطات نفطية وغازية ضخمة، كانت تبدو حتى وقت قريب مكلفة للغاية. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن تصبح الولايات المتحدة أضخم منتج للنفط في العالم – ولو مؤقتا – بحلول عام 2020. وفي المقابل، سيعزز ازدهار النفط والغاز فرص العمل، ويشير تقدير الدراسة التي أجرتها شركة «آي إتش إس» للاستشارات إلى أنه وفر 1.7 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة. وسيوفر بحلول عام 2020 هذا الازدهار 1.3 مليون فرصة عمل إضافية. وسيشجع الغاز الرخيص والآمن التوسع في عملية التصنيع الأميركية، بحسب تأكيدات «غولدمان ساكس»، وتلك ميزة أخرى.

 عادة ما يشكل العمال غير المهرة مسؤولية اقتصادية أميركية، لكن منظور تقرير «غولدمان» مختلف.. فسيظل العمال الأميركيون أصغر وأكثر حيوية من منافسيهم الذين يتقدمون في العمر سريعا. وبحلول 2050 سيكون متوسط أعمار العمال في الصين واليابان 50 عاما، أي أعلى بعشر سنوات من نظرائهم في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تجذب الولايات المتحدة المهاجرين المتحمسين، بما في ذلك أصحاب المواهب من حملة الشهادات العليا. ويشير استطلاع «غالوب» الذي شمل 151 دولة إلى أن الولايات المتحدة كانت الخيار الأول لمن يرغبون في الهجرة، بنسبة بلغت 23 %، وجاءت المملكة المتحدة في المركز الثاني بنسبة 7 %. وأخيرا يتوقع تقرير «غولدمان» أن تظل الولايات المتحدة رائدة الابتكار.. فأميركا تنتج أكبر قدر من البحث والتطوير (31 % من الإجمالي العالمي عام 2012)، ولديها أكبر عدد من أفضل الجامعات (29 من بين أفضل 50 جامعة بحسب أحد التصنيفات البريطانية).

 إلى هنا يبدو الأمر مقنعا؛ فقد تم التهوين من شأن القدرات الأميركية، ومقارنة بأوروبا واليابان – مناطق الثراء في العالم – فالآفاق الأميركية أكثر تفاؤلا. لكن تقرير «غولدمان»، الذي يوصي المستثمرين بمكان استثمار أموالهم، دليل ناقص للمستقبل.. فقد يرجع السبب في انتعاشة الأسهم إلى المستويات التي كانت عليها قبل الأزمة.. لكن الأمر يتعلق بكيفية رؤية الأفراد للانحدار الوطني.

 لو احترق منزل جارك بالكامل، ولم يحترق سوى نصف منزلك فقط، فأنت بذلك في حال أفضل نسبيا من جارك، ولكنك ستكون في وضع أسوأ مما كنت عليه من قبل، وهذا هو المعنى المقصود بالضبط عندما تقول إن أميركا أفضل حالا من أوروبا واليابان، ولكن هذه الميزة لا تمحو الخسائر الاقتصادية الهائلة التي يعاني منها الملايين من الأميركيين، وسوف يرى معظم الأميركيين أن هناك أسبابا مقنعة تدل على أن بلادهم قد بدأت تمر بمرحلة من الانحدار. ونظرا لانخفاض الروح المعنوية للأميركيين، فإنهم سيكونون أقل تأييدا للقيادة الأميركية الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الخارج، وهذه هي الطريقة التي يتم من خلالها ترجمة الإحباط المحلي إلى تراجع على المستوى الدولي. ولكن «هل أميركا في انحدار؟» قد يكون هذا السؤال الخطأ.. والحقيقة هي أن معظم دول العالم الغنية – مرة أخرى أؤكد أنها الولايات المتحدة وأوروبا واليابان – تواجه تهديدات مماثلة.

 أولا: حالة الرفاهية في هذه الدول بدأت تنهار، وتواجه المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة حالة من التعارض بين الإعانات المالية التي وعد بها، والضرائب المقبولة، فهل يجب الاقتطاع من الأولى أو زيادة الثانية؟ في الحقيقة، تعد السياسة لعبة خطرة للغاية. وقال تقرير «غولدمان ساكس» إن الطريقة التي ستعالج بها الولايات المتحدة ديونها سوف تخلق حالة هائلة من الشك وعدم اليقين. وينطبق الشيء نفسه على الأماكن الأخرى.

 ثانيا: بدأت الإدارة الاقتصادية في الانهيار هي الأخرى. قبل الأزمة المالية العالمية خلال الفترة بين عامي 2007 و2009، كان معظم الاقتصاديين يعتقدون أنه يمكن تجنب الهبوط الحاد وتعافي الاقتصاد بشكل مقبول. وقد أدت هذه الثقة إلى خلافات مثيرة للنزاع، وأصبح يتم وضع السياسات من دون دراسة متأنية.

 ثالثا: الأسواق العالمية بدأت تستبق السياسة العالمية؛ حيث تعتمد البلدان بشكل متزايد على التجارة الدولية وتدفقات الأموال، ولكن التجارة في عالم تسطير عليه العولمة بدأت تواجه مشكلات بسبب الخلافات القومية والعرقية والدينية والسياسية بين الدول.

 ويبدو أن القرن الأميركي الثاني ممكن، ولكنه سيستغرق وقتا، ويكمن السؤال الأصعب فيما إذا كانت الدول الغنية ستتمكن من التغلب على التهديدات المستمرة والعميقة التي تعوق الاستقرار السياسي والاقتصادي أم لا؟

 * خدمة «واشنطن بوست»

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.