فاجأ الإيرانيون العالم على مشارف العام الجديد 2018، بحراك شعبي مثير ورفع شعارات خالية من اللون الديني ومن الإشارة حتى إلى الرموز الدينية المعارضة كما جرى في كل مراحل الحراك الشعبي في عهد الجمهورية الاسلامية الإيرانية. فشعار “مردم را ذله كرديد، اسلام پله کردید”، أي ” لقد أذللتم الشعب، وحولتم الاسلام إلى سُلّم تتسلقون عليه”، هو شعار يطرح لأول مرة وتعبير عن مطالبة المتظاهرون بفصل الدين عن الدولة والتخلي عن تسييس الدين. ومن المفارقة أن ينطلق هذا الحراك الشعبي في نفس يوم تفجر الحراك الشعبي عام 2009 احتجاجاً على تزوير انتخابات الرئاسة، وتم قمع ذلك الحراك آنذاك من قبل حكام التطرف الديني في إيران.
الشعب الإيراني يبحث عن الحلول
يتميز هذا الحراك الشعبي الإيراني الحالي، شأنه شأن غالبية الانفجارات الشعبية في تاريخ إيران الحديث بطابع المفاجأة والعفوية وغير المتوقعة والتي تميزها عن غالبية الانفجارات الشعبية في العالم. فهذا الشعب قد “يمهل، ولكنه لا يهمل”، ولا يتحمل ولا يصبر طويلاً على الهوان والذل. لقد شمل الحراك الأخير غالبية المدن الايرانية الرئيسية، وبدأت شرارته عندما قدمت الحكومة الميزانية السنوية إلى مجلس الشورى الاسلامي والتي قضت بتقليص أو حذف فقرات من نفقات الإعانة الاجتماعية وزيادة ميزانية الدفاع والأجهمزة الأمنية بمقدار 60%، إلى جانب زيادة نفقات المؤسسات الدينية. وبدأ الحراك في مدينة مشهد الدينية، وهي تعد معقل للتيار الديني، ليطال المناطق التي تعرضت إلى الدمار والضحايا الكبيرة جراء الزلال الذي وقع في غرب إيران يوم 12 تشرين الثاني 2017 بقوة وصلت إلى 7.3. ثم انتقل الحراك تدريجياً إلى ما يزيد عن 20 مدينة رئيسية ليمتد بدرجة محدودة إلى العاصمة الإيرانية طهران.
بدأ الحراك الشعبي على خلاف ما سبقه في عهد الجمهورية الاسلامية خارج العاصمة. فهي لم تبدأ في طهران، وهي التي تحتضن الطبقة الوسطى الإيرانية، وتبقى ضمن حدودها كما جرى في السابق، بل انتشر في سائر المدن الإيرانية في أيامها الأولى. وهذا مؤشر على الطابع الطبقي للفئات المحرومة من الشعب الإيراني التي تقطن هذه المناطق. ويعكس هذا الانتشار الجغرافي حقيقة أن الشعب الإيراني بمختلف مناطقه يتعرض إلى نفس المشاكل الخطيرة التي تكرست في ظل نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية.
الشعب الإيراني اصرار على التغيير
وعلى الرغم من الطابع المفاجئ وغير الموقوت للحراك، إلاَ أن لهذا الحراك جذوره ومسبباته. فلم يؤد الاتفاق النووي الايراني مع الدول الست إلى فتح الباب أمام معالجة الركود الاقتصادي الايراني ورفع الجزء الأعظم من اجراءات الحصار الاقتصادي ضد إيران. وجاء الهبوط الحاد في اسعار النفط ليضيف عاملاً مؤثراً آخراً في تدهور الحالة الاقتصادية وتصاعد مشاعر الاستياء خاصة عند الفئات المحرومة. ولم يستطع الرئيس الجديد حسن روحاني (الاصلاحي) في ظل هذه الظروف إتخاذ أية خطوة للحد من الآثار السلبية للوضع الاقتصادي المتدهور. فهو لم يتمكن من معالجة وتغيير الطابع الريعي والتجاري للاقتصاد الإيراني وإصلاح النظام المصرفي الفاسد. ولم يستطع الرئيس الإيراني تحقيق أي من وعوده اثناء حملة الانتخابات الرئاسية حول مكافحة الفساد و الغلاء و الاختلاس والبطالة والفقر وضمان الحريات العامة والالتزام بالقوانين وإجراء إصلاحات في المؤسسات الأمنية والقضائية والعسكرية والمساواة بين الرجل والمرأة في العمل والكف عن سياسة التمييز المذهبي. فقد وقف الجناح الأكثر تطرفاً في الحكم سداً مانعاً أمام تحقيق أي قدر من الاصلاحات التي وعد بها حسن روحاني الناخب الإيراني. ولذا وليس من قبيل الصدفة أن يرفع المتظاهرون شعار “إننا نادمون”؛ أي ندمهم على التصويت لصالح حسن روحاني في انتخابات الرئاسة الإيرانية. وسار البعض إلى حد أبعد وأعلن عن عدم إيمانهم بجدوى إجراء الانتخابات في ظل ولاية الفقيه وتحكم المرشد بكل مفاتيح السلطة والثروة. وهذا يؤشر إلى تغيير جدي في وعي المواطن الإيراني، خاصة لدى الفئات المحرومة في المجتمع والتي كانت تمثل القاعدة الرئيسية للنظام الحالي.
ولقد حذر العديد من أركان الحكم من مغبة عدم حل مشاكل البلاد، وأشاروا إلى احتمال مثل هذه التحولات المفاجئة. فقد أشار النائب في مجلس الشورى الاسلامي محمود صادقي إلى “أن تجاهل واقع الاستياء الذي يحيط بالمجتمع يشكل خطراً وخيماً على المجتمع، وحذر من الأجواء البوليسية التي تسود في المجتمع الإيراني”. أما السيد محسن رناني، الباحث السياسي والاقتصادي الاسلامي والمدافع عن الجمهورية الإسلامية فإنه “يحذر من التمسك بالسياسة الفاشلة للحكم، وضرورة إجراء تغيير في الخطاب والسياسة وإعلان المصالحة الوطنية والعفو العام عن السجناء السياسيين وأحترام الأقوام الإيرانية غير الفارسية والمواطنين الإيرانيين من غير الشيعة، وتجنب الفوضى التي اقترنت بالثورة الإيرانية”. ويؤكد المحلل الإصلاحي الإسلامي سعيد شريعتي “أن الاستياء من حكومة حسن روحاني هو أقل بكثير من مشاعر الاستياء الذي يعم المجتمع أزاء الحكم بأجمعه. فالمحور الرئيسي لمطالب الشعب يتركز حول رفع القدرة الشرائية لأفراد المجتمع، وهم الذين يشكلون الجزء الأعظم من السكان. فحسب وزارة الرفاه الإيرانية فإن 40 مليون نسمة من الإيرانيين يستلمون الإعانة المالية النقدية من الدولة، ويضاف إلى ذلك ملايين العاطلين عن العمل، وهؤلاء جميعاً يشكلون القوة الأساسية لحملة الاحتجاج. أما الطرف الآخر من المحتجين فهم الفئة التي تطالب بالأساس بحرية الانتخابات ورفض أساليب الإكراه التي يتبعها الحكم. وتمثل الفئة الثالثة المحتجون المثقفون الذي يطالبون بحرية التعبير وإلغاء الرقابة على النشاط الثقافي والفكري وحرية الانتقاد السياسي”.
لقد أشار كاتب هذه السطور في مقال له نشر بعد الانتخابات الرئاسية، إلى أن رئيس الجمهورية ليس لديه أية صلاحية في اتخاذ أي قرار دون الرجوع إلى المرشد الأعلى الذي يمسك بيده بكل مفاتيح المؤسسات الأمنية والقضائية والسياسة الخارجية والإعلام، وهو الذي يتمتع بدعم الجناح الأكثر تطرفاً في الحكم. فالرئيس حسن روحاني لم يستطع حتى إطلاق سراح أحدى الصحفيات الايرانيات التي اعتقلت بتهمة واهية. فالرئيس الإيراني يتعرض دائماً إلى التهديد بالإزاحة من قبل ولي الفقيه الذي يلوح على الدوام بحادث عزل أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الإسلامية من قبل ولي الفقيه آية الله الخم. فالقانون الأساي الإيراني يبيح لولي الفقيه عزل رئيس الجمهورية.
إن الحراك الراهن وخلافاً للتحركات الشعبية السابقة عندما التزم المتظاهرون بشعارات مطلبية محددة، قد تجاوز الأمر الآن لتطرح لأول مرة شعارات تمس جوهر ومستقبل النظام الحاكم من قبيل شعار” لا نريد الجمهورية الاسلامية” و شعار “استقلال ، حرية ، جمهورية إيرانية”، بدلاً من الشعار الذي يرفعه الحكام “استقلال، حرية، جمهورية اسلامية”. وبلغت الشعارات حداً بحيث رفع المتظاهرون شعار يمس المرشد الأعلى مثل “الموت لخامنئي”، إضافة إلى تمزيق صوره. بالطبع إن كل دوافع هذا الحراك الشعبي الواسع الآن يعود إلى عوامل داخلية بالأساس، وليس إلى مؤامرات خارجية وأموال يهدرها هذا الطرف الإقليمي أو ذاك ، كما يدّعي الجناح الأكثر تطرفاً في الهيئة الحاكمة الإيرانية. وقد ادعت صحيفة كيهان الناطقة بأسم الجناح المتشدد في الحكم أن ” مصدر الاحتجاجات يعود إلى تل أبيب وواشنطن والرياض، وإن جميع المشاركين في الحراك هم حلفاء لهؤلاء”. هذا بالرغم من أن هذه الأطراف تكثف كل جهودها من أجل اغتنام أية فرصة لخلق المصاعب أمام هذا النظام.
إنه لمن اللافت للنظر إن هذا الحراك قد انتقل بسرعة البرق إلى عشرين مدينة إيرانية، وهي ظاهرة نادرة الحدوث في التاريخ السياسي الإيراني. إذ لا يوجد أي مركز أو تجمع سياسي يوجّه المتظاهرين، فليس لدى المتظاهرين من “سلاح” سوى الإمكانيات التي توفرها تكنولوجيا المعلومات وأدوات الاتصال الحديثة التي بادرت السلطة الحاكمة في الساعات الأخيرة إلى تعطيل عملها. لقد تجاوزت شعارات المشاركين في الحراك ما طرحه المتظاهرين في التحركات السابقة وتحولت إلى شعارات ضد النظام برمته وبكل أطرافه وبسياسته الداخلية والخارجية. وهكذا رفع بعض المتظاهرين شعار “اصلاح طلب، اصولگرا، دیگه تمومه ماجرا”؛ أي ” انتهت لعبة الاصلاحي والمتطرف إلى غير رجعة”. وكما جرى التركيز على السياسة الخارجية للنظام كشعار “سوریه را رها کن، فکری به حال ما کن”، أي “اترك سورية وفكّر بحالنا” و ” نه غزه، نه لبنان، جانم فدای ایران”، أي “لا غزه ولا لبنان، روحي فداء لإيران”. هذه الشمولية بالشعارات تعكس بدون شك حجم الغضب المكبوت والمتراكم عند الشعب الايراني ضد نظام الحكم في ايران خلال اربعين سنة من تسلط التطرف والاكراه الديني على رقاب الإيرانيين، بحيث تجاوز المتظاهرون طرح شعارات مطلبية أو إصلاحية فقط، بل طالت لتشمل إزالة النظام بكل تفاصيله.
ومما يجلب الانتباه هو أن هذا الحراك لم يطل المناطق القومية مثل كردستان وآذربايجان وبلوجستان وعربستان، مما يدل على الفجوة الأثنية التي تفصل مكونات الشعب الإيراني. فالمكونات القومية لم تتلقى أية إشارة من جانب هذا الحراك الشعبي لمطاليبها كي يدفعها إلى الإندماج بهذا الحراك المشترك كشمول هذه المناطق بتوزيع عادل للثروة وتأمين الحريات الديمقراطية وأحترام الخصوصيات القومية والدينية والمذهبية والتخلي عن سياسة التهميش ضد هذه المكونات القومية والمذهبية.
في خضم هذه التطورات السريعة التي تشهدها الجارة إيران، ينبغي الإشارة إلى ردود فعل أطراف الحكم والقوى السياسية داخل إيران وخارجه واصطفافها، إضافة إلى ردود الفعل الإقليمية. فأطراف الحكم غير موحدين في موقفهم تجاه التعامل مع هذا الحراك الشعبي الواسع. فلم يعلن المرشد علي خامنئي موقفه من الأحداث حتى كتابة هذه السطور، ولا يعرف سر هذا الصمت. كما يصطف الرئيس روحاني وكل الطيف الذي يدعم حكومة روحاني على بعد من التيار المتشدد في هذا الحراك خشية من الشعار الذي رفعوه حول اسقاط الحكومة. إنهم تعاطفوا في الأيام الأولى مع حركة الاحتجاج، ولكنهم غيّروا موقفهم مع رفع المتظاهرين شعار إسقاط النظام في اليوم الثالث من الحراك، رغم تأكيد الرئيس الإيراني روحاني على حق المواطن الإيراني في التظاهر السلمي حسب القانون الأساسي.
لقد أصيبت كل أجنحة الحكم بالدهشة لهذه التطورات، وقام كل طرف باستغلال هذا الحدث من أجل إضعاف منافسيه وتوجيه الاتهام له بما آلت إليه الأوضاع، وهو مؤشر على الارتباك الذي أحاط بأطراف الحكم ودليل على الإنشقاق داخل أجنحته. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يكمن وراء تأخر الحكم في اتخاذ اجراءات بالغة الشدة ضد المتظاهرين، إضافة إلى حساسيتهم من ردود الفعل الدولية. فردود الفعل الدولية يمكنها أن تشكل عامل ردع ضد أية إجراءات قاسية من جانب الحكم ضد الحراك الشعبي.
أما على نطاق مواقف القوى السياسية المعارضة في الخارج ذات التأثير الضعيف في سير الأحداث، فقد اتخذت بعض القوى مواقف إلى جانب الشعار الأكثر شدة وهو اسقاط النظام برمته. ويصطف في هذا الموقف قوى متناقضة مثل مجاهدي خلق وأنصار الأمير رضا بهلوي، الذي يرفع أنصاره شعار “با شعارایران که شاه نداره، حساب کتاب نداره، رضا شاه، روحت شاد” أي “ايران بدون شاه، ليس فيه لا حساب ولا كتاب، رحمك الله يا رضا شاه”. كما يشاركهما في الموقف اليسار المتطرف وبعض المنظمات القومية في حلف غير معلن، وأبدوا دعمهم الكامل للحراك وشعاراته. إن بعض أطراف هذا التيار يسعى في هذا التصعيد إلى دفع الأحداث خارج إطارها السلمي لتتحول إلى مواجهات عنفية يمكن للعامل الخارجي أن يلعب دوره كما يأملون على غرار ما حدث في بعض البلدان العربية. أما التيار الآخر فهو مطلبي سلمي يسعى إلى تجنب العنف من قبل الحكم ومعارضيه، ويضم تيار نهضة الحرية ( التي اسسها المرحوم مهدي بازركان) والجبهة الوطنية واتحاد انصار الجمهورية وبعض التيارات الدينية القومية. هذه الأطراف تنظر بقلق على سير الأحداث التي قد تتطور بسرعة وينفلت الزمام وتؤدي إلى مواجهات مسلحة لا تحمد عقباها. فأية مواجهة مسلحة ستلغي أية فرصة في احتمال انتقال أطراف في الحكم إلى القوى التي تسعى إلى الاصلاح والتخلي عن نمط الاستبداد الديني وتعميق التناقضات داخل التيار الحاكم من ناحية، ومن ناحية أخرى ستشل الدور الفعال للفئات الوسطى في إحداث أي شكل سلمي من أشكال التغيير والإصلاح في الحكم، هذا إضافة إلى أن المواجهات المسلحة تمهد للتدخل الخارجي الذي سيلغي أية فرصة للتطور السلمي للأحداث وما يرافقه من آثار مدمرة على البلاد. فالمواجهات العنفية يتمناه ويسعى إليها الطرف الأشد تطرفاً في الحكم والذي يتحكم بالقوة العسكرية الكافية لحسم المعركة في المواجهة العنفية.
عند النظر إلى كل التطورات الأخيرة على الساحة الإيرانية، يبدو أنه من الصعوبة بمكان عودة الحكم إلى الأساليب التي سبقت هذا الحراك الشعبي الخطير؟ وهل ستقدم الفئة الحاكمة على خطوات لمراجعة سياساتها السابقة؟ ولكن كيف سيتم ذلك؟ وهل ستستطيع الفئة الحاكمة إخماد هذا الحراك؟ وهل سيتطور هذا الحراك السلمي حتى الآن إلى مواجهات مسلحة وعنفية في ظل انعدام أية هيئة أركان لهذا الحراك وعدم وجود ستراتيجية واضحة موحدة له؟ أسئلة كثيرة جدية سيجيب عليها تطور الأحداث في الأيام القادمة.
2/1/2018