رياض الحبيّب
قرأت الليلة الماضية سورة الليل وترتيب تنزيلها ٩ خلافاً لتسلسلها ٩٢ في مصحف الإمام. ولا يزال الليل سواء بأنوار القمر وسائر النجوم وبعتمته من عناصر الإلهام لدى الشعراء كما كان في الماضي، إذ وصلتنا صوَر جميلة عن الليل وأحداثه ولا سيّما هواجس عشاقه- من الجنسَين- بآلامهم وآمالهم ومغامراتهم؛ هنا بضعة أمثلة راودت مخيّلتي خلال الليلة المذكورة- منها ما لاٌمرئ القيس الكندي في معلّقته الشهيرة:
وليْلٍ كمَوْجِ البَحْرِ أرْخى سُدُولهُ *** عَليَّ بأنوَاعِ الهُمُومِ لِيَبتلِي
فقلتُ لهُ لمَّا تمَطَّى بصُلْبهِ *** وأرْدَفَ أعْجَازاً وناءَ بكلكلِ
ألا أيُّهَا الليْلُ الطَّويْلُ ألاَ اٌنْجَلِ *** بصُبْحٍ ومَا الإصْبَاحُ منِكَ بأمْثلِ
فيَا لكَ مِنْ ليْلٍ كأنَّ نُجُومَهُ *** بكلّ مُغار الفتل شُدّتْ بيَذبُلِ
ومنها ما للنابغة الذبياني: فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدْرِكي *** وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنتأى عنكَ واسِعُ
ومنها ما لعنترة بن شدّاد العَبْسي: سيذكُرُني قومي إذا الخيْلُ أقبلتْ *** وفي الليلة الظلماءِ يُفتقـَدُ البدرُ
وإني حريص على الإتيان بأبيات شعر الحقبة ما قبل الإسلام، لسبَبَين أولهما كي لا يُقال أنّ الشاعر الفلاني من العصر الفلاني اقتبس من القرآن أو الحديث شيئاً ما. وثانيهما لأرى ما اقتبس مؤلّف القرآن صوراً شعريّة ممّن سبقوه إذ عاش في البيئة عينها وكان يحبّ الإصغاء إلى الشعْر كشعْر امرئ القيس وأميّة ابن أبي الصّلت وعنترة بن شدّاد. وفي ويكيبيديا- ممّا أضيف على سيرة عنترة- أنّ محمّداً قال: «ما وُصِف لي أعرابيّ قطّ فأحببتُ أنْ أراه إلا عنترة» فماذا أراد مؤلّف القرآن بسورة الليل وهل لموضوع السّورة علاقة ما باٌسمها؟ علماً أني قرأت في كتاب “الشخصيّة المحمّدية” للرصافي حول أسماء السّوَر ما يأتي: {أما أسماء السور فاضطربت أقوال الرواة في كونها توقيفية أي سُمِّيت بتوقيف من النبي، فيكون هو الذي سماها بأسمائها، والذي تطمئن إليه النفس أنها ليست كلها توقيفية، إذ يجوز أن يكون النبي قد ذكر بعضها اتفاقاً لا بقصد التسمية، أو بقصد توقيف الناس على اسمها فسمّاها باسم أخذه منها، فصار الناس يذكرونها بذلك الاسم، كما يجوز أن يكون الناس قد سمّوا بعضها بأسماء أخذوها إمّا من كلمة مذكورة في أولها كسورة الحمد للفاتحة، وسور الفجر والضحى والليل والكوثر والمُزّمِّل، لأنّ هذه الكلمات مذكورة في أوّل السورة، وإمّا أنهم جعلوا لها اسماً مما اشتملت عليه من القصص والأخبار ومن أسماء الأنبياء المذكورين فيها، فقالوا سورة البقرة لما ذكر فيها من قصة البقرة، وسورة آل عمران لأنها ذكر فيها آل عمران، وسورة المائدة لما ذكر فيها من خبر المائدة. وتسمية السورة أمر مباح غير محظور في الدين ولا مخالف لشيء من القرآن ولا من السنة، وإلّا فلو أراد النبي أن يسميها ويذكر للناس أسماءها توقيفاً لهم عليها لما اختار لها هذه الأسماء الدالة على بساطة في النظر وسذاجة في المعرفة…} انتهى. ولقراءة المزيد في كتاب الرصافي والذي أصبح تنزيله مُيَسّراً من “مكتبة التمدن” في هذا الموقع، أنظر الباب “سور القرآن وكم هي” ص 570 أو اقرأ في هذا الباب عبر الرابط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=107832
هنا نصّ سورة الليل كاملاً:
{والليْلِ إذا يَغْشى ١ والنَّهَارِ إذا تجَلّى ٢ ومَا خلـَقَ الذّكَرَ والأُنثى ٣ إنَّ سَعْيَكُمْ لشتَّى ٤ فأمَّا مَن أعْطى واتَّقى ٥ وصَدَّق بالحُسْنى ٦ فسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرى ٧ وأمَّا مَن بَخِلَ واسْتغْنى ٨ وكذَّبَ بالحُسْنى ٩ فسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرى ١٠ ومَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إذا ترَدَّى ١١ إنَّ عليْنا للهُدَى ١٢ وإنَّ لنا للآَخِرَة والأُولى ١٣ فأنْذرْتُكُمْ نارًا تلظَّى ١٤ لا يَصْلاها إلَّا الأشقى ١٥ الَّذِي كذَّبَ وتوَلَّى ١٦ وسَيُجَنَّبُها الأتقى ١٧ الَّذِي يُؤتِي مَالـَهُ يَتزكَّى ١٨ ومَا لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى ١٩ إلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى ٢٠ ولسوْفَ يَرْضَى ٢١} انتهت
وقد اعتدت على الرجوع إلى تفاسير المُفسّرين المعتمَدين إسلاميّاً إذ لا يحقّ لأحد تفسير المقدّسات على مزاجه، علماً أني أركّز على جوانب قد يركّز قارئ غيري على جوانب غيرها! فإنّ لكلّ قارئ أسلوباً في القراءة وفي الكتابة أيضاً- هنا أوّلاً تفسير الإمام الطبري (1) للجملة الأولى: {يقول تعالى ذِكْرُهُ مُقسِماً بالليل إذا غشـّى النهار بظلمته، فأذهَبَ ضوءه، وجاءت ظلمته: «والليل إذا يغشى» النهارَ} انتهى
تعليقي: سبق لي التنويه بأنّ الخالق [العظيم] لا يمكن أن يُقسِم بالمخلوق [الأقل عظمة] فهو جلّ وعلا لا يحتاج إلى قسَم بل إلى الدليل العقلاني، لأنّ القسَم قد يبدو وسيلة من وسائل الكذب فإمّا أريد بها الإقناع بحجّة ما فتُعَدّ ساذجة. فالقسَم بقوله (والليل) هو بلا ريب قولُ محمّد- وليس قوله تعالى- وهذا النوع من القسَم غير مألوف لي في أدب الحقبة المسمّاة بالجاهليّة؛ في المثال التالي أقسم النابغة الذبياني بعمره، لاحظ جملة القسم “لـَعَمْري” في قول النابغة الذبياني:
لعَمْري وما عمري عليَّ بهَيِّنٍ *** لقد نطَقتْ بُطْلاً على الأقارِعُ
وجملة القسم في قول طرَفة بن العبد: لـَعَمْرُك مَا أمْرِي عَليَّ بغُمَّةٍ *** نهَارِي ولا ليْلِي عَليَّ بسَرْمَدِ
وفي معلّقة عنترة: عُلِّقْتُها عَرَضاً وَأقتُلُ قومَها *** زَعماً لعَمْرُ أَبيكَ ليسَ بمَزْعَمِ
أمّا امرؤ القيس فهكذا أقسم:
سَمَوتُ إليها بَعْدَما نامَ أهلُها *** سُموَّ حَباب الماءِ حالاً عَلى حالِ
فقالت سَباكَ اللهُ إنَّكَ فاضِحي *** ألستَ تَرى السُمّارَ والناسَ أحوالي
فقُلتُ يَمينَ اللهِ أبرَحُ قاعِداً *** وَلو قطَعوا رَأسي لدَيكِ وأوصالي
حَلفتُ لها باللهِ حِلفةَ فاجـِرٍ *** لناموا فما إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صالِ
وهنا تفسير القرطبي (2): {أي يُغطّي. ولم يذكر معه مفعولاً للعِلم به. وقيل: يغشى النهارَ. وقيل: الأرض. وقيل: الخلائق. وقيل: يغشى كلّ شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أوّل ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميّز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مُضيئاً مُبصِراً} انتهى
تعليقي: ١ نلاحظ بسهولة اختلافاً في تأويل قوله “يغشى” والمطلوب من الكتاب الديني أن يكون واضحاً لمن يقرأ فماذا كان المقصود؛ هل يغشى الليلُ النهارَ أم يغشى الأرضَ (وهذا مستحيل علميّاً لأنّ الأرض كرويّة تقريباً) أم الخلائق؟ أم كلّ شيء؟ أم ماذا؟ ٢ من أين أتى قتادة بقوله إنْ صحّ ما رُويَ عنه؟ أمّا الجواب فمن التوراة وتحديداً سِفرها الأوّل (التكوين) بل الفصل الأوّل وابتداءً بالآية الأولى حتى الخامسة: {في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروحُ الله يرفّ على وجه المياه. وقال الله: ((ليكن نور)) فكان نور. ورأى الله النورَ أنّهُ حَسَن. وفصَلَ الله بين النور والظلمة. ودعا الله النورَ نهاراً والظلمة دعاها ليلاً. وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً واحداً} – ترجمة فاندايك
أمّا اللافت (بل غير المقبول دينيّاً) فالإختلاف على النصّ الأصلي من القرآن وتحديداً الليل: ٣ “ومَا خلـَقَ الذّكَرَ والأُنثى” وهذا ممّا ورد في تفسير ابن كثير (3): {قال الإمام أحمد حدثنا… عن عَلقمَة أنهُ قدِمَ الشام فدخل مسجد دمشق فصلّى فيه ركعتين وقال: اللهُمَّ اٌرزقني جليساً صالحاً. قال فجلس إلى أبي الدَّرْدَاء فقال له أبو الدَّرْدَاء ممّن أنت؟ قال من أهل الكوفة، قال كيف سمعت اِبْن أُمّ عَبْد يقرأ “والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى” قال علقمة “والذكر والأنثى” فقال أبو الدّرداء لقد سمعتها من رسول الله ص فما زال هؤلاء حتى شكّكوني، ثم قال: ألمْ يكن فيكم صاحب السواد وصاحب السرّ الذي لا يَعْلمه أحدٌ غيره والذي أجير من الشيطان على لسان محمد ص وقد رواه البخاري ههنا ومُسْلم من طريق الأعمش عن إبراهيم قال: قدِمَ أصحاب عبد الله على أبي الدّرداء فطلبهم فوجدهم فقال أيّكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا كلّنا قال أيّكم أحفـَظ؟ فأشاروا إلى عَلقمَة فقال: كيف سمعته يقرأ “والليل إذا يغشى” قال “والذكر والأنثى” قال أشهد أني سمِعْتُ رسول الله ص يقرأ هكذا وهؤلاء يريدون أن أقرأ “وما خلق الذكر والأنثى” والله لا أتابعُهُم هذا لفظ البخاري} انتهى
تعليقي: كيف أصبح النصّ مقدّساً وقد ثبت وجود اختلاف على قراءته؟ فهل نصّ الجملة في سورة الليل: ٣ هو “وما خلقَ الذكرَ والأنثى” – مصحف عثمان- أم كما سمِع عَلقمَة وأبو الدَّرْدَاء من لسان محمّد وهو يقرأ: “والذكر والأنثى”؟ أفما تكفي شهادة رجُلين في الإسلام؟
ولقد ذهبتُ إلى معرض تفسير ابن كثير لقوله “وما خلق الذكر والأنثى” فوجدتُ شاهداً ثالثاً على القراءة المختلفة هو ابن مسعود: {وهكذا قرأ ذلك ابن مسعود وأبو الدرداء ورفعه أبو الدرداء وأمّا الجمهور فقرءوا ذلك كما هو المثبت في المُصْحَف الإمَام العُثمَانِيّ في سائر الآفاق “وما خلق الذكر والأنثى”} انتهى.
علماً أنّ الرواية وردت في تفسير الطبري بتفصيل، كذلك في تفسير القرطبي والذي أردف بقولين مختلفين:
{وفي المراد بالذكر والأنثى قولان؛ أحدهما: آدم وحوّاء قاله اِبْن عَبَّاس والحَسَن والكَلْبيّ. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميّين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته} انتهى
أمّا بعد فقد حاولت تقصّي الحقائق حول بعض الأقوال- فمن تفسير الطبري للجملة “وصَدَّق بالحُسْنى” ما يأتي: {وذُكِرَ أنّ هذه الآية نزلتْ في أبي بكر الصدّيق- رض. ذكر الخبر بذلك: 29011 – حَدّثني… عَن عَامِر بْن عَبْد الله بْن الزُّبَيْر، قال: كان أبو بكر الصديق يُعْتِق على الإسلام بمَكّة، فكان يُعْتِق عجائز ونساءً إذا أسْلمْن، فقال له أبوه: أي بُنيّ، أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك أعتقت رجالاً جُلْداً يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبَتِ، إنما أريد “أظنه قال”: ما عند الله، قال: فحدّثني بعضُ أهل بيتي، أنّ هذه الآية أنزلت فيه: “فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحُسنى فسنيَسِّرُه لليُسرى”} انتهى
تعليقي: ١. أيّد القرطبي نزول السورة في أبي بكر بقوله في معرض تفسير الليل: ٢١ (ولسَوْفَ يَرْضَى) ما يأتي: والأكثرُ [احتمالاً] أنَّ السُّورَة نزلتْ فِي أبي بَكْر- رَض- ورُوِيَ ذلِك عَنْ اِبْن مَسْعُود وابْن عَبَّاس وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر وغيْرهِمْ؛ علماً أنّ القرطبي قد أورد رواية أخرى منسوبة أيضاً لاٌبن عبّاس: {إنّ السُّورة نزلتْ في أبي الدَّحْدَاح في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطّاء. وقال القُشَيْرِيّ عن ابن عباس: بأربعين نخلة ولمْ يُسَمِّ الرجل} انتهت ٢. كان أبو بكر يُحَرّر العجائز والنساء بمكّة إذا أسْلمْن وذلك “ما عند الله” أمّا تحرير الرّجال- بحسب ما رُويَ عن أبي بكر- فليس ممّا عند الله، حتى لو أسلموا! والتساؤل المشروع ليس عن سبب قيام أبي بكر بتحرير العجائز والنساء دون الرجال، إنّما هو: لماذا حصلتْ جرائم السّبْي والإستعباد أساساً؟ فأؤكد ما كتبت من قبل: إنّ حُريّة المعتقد مكفولة للجميع ما لمْ تتسبّب في إيذاء الآخرين.
أمّا من تفسير القرطبي لقوله “لا يَصْلاها إلّا الأشقى” – أي الليل: ١٥ فاقتطفت:
{١ وروى الضحّاك عن ابن عبّاس قال: “لا يَصْلاها إلّا الأشقى” أُمَيَّة بْن خـلف ونظراؤه الذين كذّبوا محمّداً- ص- وقال قتادة: كذّب بكتاب الله، وتولّى عن طاعة الله. وقال الفرَّاء: لمْ يَكُنْ كذَّبَ برَدٍّ ظاهِر، ولكِنَّهُ قصَرَ عَمَّا أُمِرَ به من الطاعة فجُعِل تكذيباً.
٢ الزَّمَخْشَرِيّ: الآية واردة في الموازنة بين حَالتـَيْ عظيم من المُشركين وعظيم من المؤمنين، فأ ُريد أنْ يُبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وَجُعِلَ مُختصًّا بالصَّلْي، كأنّ النارَ لم تُخلق إلّا له وقيل: الأتقى، وجُعِل مُختصّاً بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلّا له وقيل: هُمَا أبو جهل أو أميّة بن خلف. وأبو بكر- رض} انتهى
تعليقي: فموضوع المؤمن برمّته- بحَسَب فهْمي- ليس ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ- أو ربِّها- الأعلى ولا ولاية الله وطاعته- ممّا تقدّم في تفسير الطبري- فهكذا فعل أهلُ الكتاب والحنفاء وسائر الموحّدين، إنّما الموضوع هو ولاية محمّد وطاعته؛ من شهد له فله التيسير باليُسرى، أمّا من كذّبه فله “التيسير” بالعُسرى! وسآتي بأمثلة على اقتران طاعة الله بطاعة الرسول في خضمّ قراءاتي القادمة.
واللافت في قوله أخيراً (ولسوْفَ يَرْضَى) – الليل: ٢١ هو ما ورد في معرض تفسير القرطبي- فبعدما فسّر الجملة بقوله {أي سوف يُعطيه في الجنّة ما يُرضي وذلك أنه يُعطيه أضعاف ما أنفق} ذكر التالي: {قال عَطّاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحِها في دار جارٍ له، فيتناوله صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي ص فقال النبي ص (تبيعها بنخلة في الجنة)؟ فأبى فخرج فلقِيَه أبو الدّحداح فقال: هل لك أن تبيعَنيها بـ “حُسْنى”: حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي- ص- وقال: يا رسول الله، اشترِها مني بنخلة في الجنة. قال: (نعم، والذي نفسي بيده) فقال: هي لك يا رسول الله، فدعا النبي- ص- جارَ الأنصاريّ، فقال: (خذها) فنزلت “والليل إذا يغشى” – الليل: ١ إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. “فأمّا من أعطى واتقى” يعني أبا الدحداح “وصَدَّق بالحُسنى” أي بالثواب “فسنيسّره لليسرى” يعني الجنة “وأمّا مَن بخل واٌستغنى” يعني الأنصاريّ “وكذب بالحسنى” أي بالثواب “فسنيسره للعسرى” يعني جهنم “وما يغني عنه ماله إذا تردى” أي مات. إلى قوله: “لا يصلاها إلا الأشقى” يعني بذلك الخزرجي وكان منافقاً فمات على نفاقه “وسيجنَّبها الأتقى” يعني أبا الدحداح. “الذي يؤتي ماله يتزكى” في ثمن تلك النخلة “ما لأحد عنده من نعمة تجزى” يكافئه عليها يعني أبا الدحداح “ولسوف يرضى” إذا أدخله الله الجنة} انتهى
تعليقي: ١ هل نزلت السّورة في أبي بكر أم في أبي الدَّحْدَاح؟ فقد رُويَ عن ابن عبّاس أنّ سورة الليل نزلتْ في أبي بكر ورُويَ عنه [نفسه] أنها نزلت في أبي الدَّحْدَاح فأيّة الروايتين صائبة؟ فوا عَجَبا!
٢ قوله {فشكا ذلك إلى النبي ص فقال النبي ص (تبيعها بنخلة في الجنة)؟ فأبى… إلخ} وقوله “فسنيسّره لليسرى” وقوله “فسنيسره للعسرى” يدلّ في نظري على اثنين: الأوّل- إنّ محمّداً ظنّ أنّ ربّه قد خوّله حقّ التصرّف بالجَنّة وبجَهَنّم. الثاني: إنّ صاحب النخلة آثر نخلته على النخلة المحمّديّة- أي نخلة الجنّة، إذ رفضَ عرضَ محمّدٍ ما لم يكنْ صاحب النخلة مُعتبـِراً العرضَ المُحمّدي غريباً.
٣ أمّا على قوله “ولسوف يرضى” فهلْ للمرء خيار أمام الله [سواءٌ أرضيَ أم أبى] أم أنّ محمّداً هو الذي سيُرضيه؟
٤ روى القرطبي في معرض شرح “فسنيسّره للعُسرى” ما يأتي: {قال الفرّاء: يقول القائل: كيف قال: “فسنيسّره للعُسرى”؟ وهل في العُسرى تيسير؟ فيُقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عزّ وجلّ: “فبشِّرهم بعذاب أليم” – آل عمران : ٢١ والبـِشارة في الأصل على المُفرح والسّارّ، فإذا جُمِعَ في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المُفرح، فإذا جُمِعَ في كلامين هذا خير وهذا شرّ، جاء التيسير فيهما جميعاً. قال الفرّاء: وقوله تعالى “فسَنُيَسِّرُه”: سنهيِّئُه. والعرب تقول: قد يَسَّرَت الغنم: إذا وَلدَتْ أو تهَيَّأتْ لِلولادة} انتهى. وفي رأيي- مع احترامي لتفسير الإمام القرطبي- إنّ هذا التبرير بقوله (جاء التيسير فيهما جميعاً) محاولة منه للتغطية على إشكاليّة تعبيريّة لا تصبّ في مصلحة القرآن من جهة البلاغة. والمثال الوارد في سورة آل عمران: ٢١ “فبشِّرهم بعذاب أليم” يُشبه ذاك الذي في النساء: ١٣٨ “بَشِّرِ المُنافِقِين بأنَّ لهُمْ عَذاباً ألِيماً” ولقد عرف اللغويّون أنّ البشرى (أو البـِشارة) إنما تكون بالخبر المُفرح والسّارّ أمّا النِّذارة فبالخبر المُحزن والعذاب وليس من البلاغة الخلط بين البشارة والنذارة— ويا ليت شعري: هل يوجد عذاب أليم وآخر غير أليم؟
______________
في الحلقة القادمة قراءة في سورة الفجْر
____________________________
(1) الطبري ت سنة 310 هـ: عاش خلال القرن الثالث الهجري، ولد بطبرستان واٌستقرّ في أواخر أمره ببغداد. مُؤرّخ ومُفسِّر وفقيه مُسْلم، صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ. يُعتبَرُ أكبر علماء الإسلام تأليفًا وتصنيفًا – ويكيبيديا
(2) القرطبي ت سنة 671 هـ: عاش خلال القرن السابع الهجري، ولد بقرطبة وتوفّي بمصر. توسّع بدراسة الفقه والقراءات والبلاغة وعلوم القرآن وغيرها كما تعلّم الشعر أيضاً. يُعتبر من كبار المفسِّرين وكان فقيهًا ومحدثًا ورعاً وزاهداً متعبداً. له “الجامع لأحكام القرآن” وهو كتاب جمع تفسير القرآن كاملاً – ويكيبيديا
(3) إبن كثير ت سنة 774 هـ: عاش في القرن الثامن الهجري، عالم من دمشق مؤلّف كتاب “البداية والنهاية” و”تفسير ابن كثير” – ويكيبيديا