هكذا قرأتُ القرآن ٨ سورة الأعلى

رياض الحبيّب

قرأت اليوم سورة الأعلى هي الثامنة في ترتيب “التنزيل” بينما ورد ترتيبها ٨٧ في مصحف عُثمان بن عفـّان. وممّا لاحظتُ أنّ مؤلّف القرآن كان ملتزماً بوحدة القافية في هذه الأسجوعة لم يغيّرها لأنها؛ أوّلاً- منتهية بقافية ذات حرف رويّ سهل جدّاً هو الألف، سواء المقصورة بقوله “الأعْلى” والممدودة بقوله “يَحْيَا” علماً أنّهما مختلفتان كتابة لا لفظاً، يجوز استعمال كلتيهما في قصيدة الشعْر المُقفّى. ثانياً- لأنّ الأسجوعة قصيرة نسبيّاً. وسوف نرى التزاماً بالقافية في أساجيع قِصار أخرى كما في سُوَر الليل والشمس والفيل. فماذا أراد المؤلّف بسورة الأعلى؟ هنا النصّ كاملاً:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى ١ الذي خلق فسَوَّى ٢ والذي قدَّرَ فهَدَى ٣ والذي أخْرَجَ المَرْعَى ٤ فجَعَلهُ غُثاءً أحْوَى ٥ سَنُقرِئُكَ فلَا تنْسَى ٦ إلَّا مَا شاء اللهُ إنَّهُ يَعْلمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفى ٧ ونُيَسِّرُك لِليُسْرَى ٨ فذكِّرْ إنْ نَفعَتِ الذكرَى ٩ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ١٠ ويَتجَنَّبُها الأشْقى ١١ الذي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى ١٢ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يَحْيَا ١٣ قدْ أفْلَحَ مَن تزَكَّى ١٤ وذكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصَلَّى ١٥ بَلْ تُؤْثِرُون الحَيَاة الدُّنيا ١٦ والآخِرَة خيْرٌ وَأبْقى ١٧ إنَّ هذا لفِي الصُّحُفِ الأُولى ١٨ صُحُفِ إبراهِيمَ ومُوسَى ١٩} انتهى

رأيت بعد قراءة النصّ إنّ التسبيح (أي الصلاة والدعاء والتنزيه والتمجيد) وتبيان عمل الخالق والثواب والعقاب شؤون جاءت بها الشريعة الموسويّة قبل محمد بأزيد من ألفي عام. أمّا التأويلات في كتب المفسّرين فكثيرة، لذا اقتطفت منها ما تيسّر ابتداءً بما ورد في تفسير الطبري للجملة الأولى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى) فذكر اختلاف أهل التأويل مُورداً ستّة اختلافات قبلما أدلى بقناعته الشخصيّة قائلاً: {وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب: قول مَنْ قال: معناه: نزِّه اسم ربّك أن تدعو به الآلهة والأوثان، لما ذكرْتَ من الأخبار، عن رسول الله ص وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سُبحان ربّي الأعلى، فبيّن بذلك أنّ معناه كان عندهم معلوماً: عظِّم اٌسْمَ ربّك ونزِّهْهُ} انتهى

وقرأت في تفسير القرطبي تأويلاً عن ابن عُمَر، قال: {لا تقُلْ عَلَا اِسْمُ الله فإنَّ اِسْم الله هُوَ الأعْلى} انتهى. وتعليقي: أما كان حَريّاً بابن عُمَر لو كان مطّلعاً على شرائع أهل الكتاب أن يقول لمحمّد- مثالاً: إنّ الله معروف قبل الإسلام وأنّ اسم الله هو الأعلى فلمْ تأتِ الناسَ يا محمّد بجديد؟ لكنّ المشكلة تكمن في قناعة ابن عمر وأمثاله بأنّ ما أوحِيَ إلى محمّد مُنزّل من فوق وأنّ الدعوة إلى قتل المعارضين مشروعة على أنها مرسلة من ذلك الإله! فلماذا بخس محمّد وأتباعه ممارسة المعترضين حقوق رفض الدين الجديد بما فيه من نسب أساجيع محمد إلى الله؟ وكأنّ المطلوب إليهم هو السكوت أمام كلّ مدّعٍ بأنّ رسالته من مُقرّرات الله ووساطة جبريل وتدخله شخصيّاً فلا يحق لهم الإعتراض على حامل الرسالة- حتّى لو أوحِيَ إليه بإبادتهم- لأنّ اعتراضهم سيُعتبَر موجّهاً إلى الله وعلى أمر الله! ولكنّ محمّداً نفسه قد اعترض على دعوة مسلمة بن حبيب فسمّاه مُسَيلمة الكذاب فلماذا لا يحقّ للمعترضين اعتبار محمد كذاباً أو دجّالاً ولماذا اعتبرهم المسلمون كفاراً؟ لماذا الكيل بمكيالين؟ إذاً من حقّ المسيحي أيضاً أن يعتبر محمّداً كافراً بالكتاب المقدّس أو من الهراطقة أو مشركاً، لأنّ تعاليم القرآن (أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم… التوبة: 5 وقاتلوا الذين لا يؤمنون… التوبة: 29) تناقض تعاليم الإنجيل (أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعِنيكم، أحسنوا إلى المُسيئين إليكم، طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم…إلخ) علماً أنّ فضل معرفة الله يعود لأهل الكتاب لا لغيرهم. ومن شاء فليراجع حتى الشعر الذي سبق الدعوة المحمّدية سواء لشعراء من أهل الكتاب قبل الإسلام ولشعراء من الحنفاء وغيرهم. ولأوردنّ من الأمثلة قولاً لأحد شعراء المعلّقات- زهير بن أبي سلمى- الذي ذكر عنه التبريزي أنه نظم معلّقته في ظروف حرب البَسُوس أي قبل الإسلام:
فمن مُبلِغ الأحلاف عَنِّي رِسَالة ً *** وذبْيَان هَلْ أقسَمْتمُ كُلَّ مقسَمِ
فلا تكتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفوسِكُم *** لِيَخفى وَمَهْمَا يُكتـَمِ اللهُ يَعْلمِ

وقول شاعر “جاهلي” آخر- عبيد بن الأبرص- قد اعتبر التبريزي قصيدته من المعلّقات العَشر:
مَن يَسأَلِ الناسَ يَحرِموهُ *** وسائِلُ اللَهِ لا يَخيبُ
علماً أنّ مطلع قصيدته: أقفرَ مِن أهلِهِ مَلحوبُ *** فالقُطَبيّاتُ فالذنوبُ

ولا بأس عندي- أنا الكتابي- في أنّ يتخذ الإنسان ربّاً من دون الله وهو وربّه يحترمان خيارات الآخرين ومقدّساتهم ولايُسيئان إليهم في الحاضر والمستقبل. ولا بأس في قيام المؤمن بالتبشير داخل حدود الأخلاق المتعارف عليها بدون إكراه ولا إزعاج. فلو كان القرآن كلّه من قبيل هذه السورة أي بدون المساس بخصوصيّات الآخرين ولا سيّما مقدّساتهم غير المؤذية لاحترم الناسُ المؤلّفَ ولأعطوه الحقّ في التعبير عن مشاعره وعن إيمانه ولربّما اعتبروا القرآن كتاباً أدبيّاً من جهة ولاعتبروه من جهة أخرى كتاباً من كتب التديّن، لكنّ مؤلّف القرآن جعل من جميع مخالفي دينه أعداءً فشرّع ضدّهم ماشرّع وفرض الجزية على أهل الكتاب يدفعونها وهم صاغرون- أي أذلّاء. فبسبب تلكم التشريعات ولما تحفل به السيرة المحمّدية من ثقافة منحرفة يتعرّض القرآن وأخلاق مؤلِّفه للنقد والسّخرية والإستهجان في كلّ زمان ومكان.

وقرأت في تفسير القرطبي- إضافة إلى ما تقدّم- روايتين قد يظنّ بعض القرّاء الكرام أنهما من الغرائب، لكنّ المطّلع على وقائع التراث الإسلامي لا يستغرب شيئاً؛ مُختصَر الأولى: {وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه قال: إنّ لله تعالى مَلـَكاً يُقال له حِزقائـِيل، له ثمانية عشر ألف جناح… [إلى قوله] فأوحى الله إليه أيها المَلك، لو طِرْتَ إلى نفخ الصُّوَر مع أجنحتك وقوّتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سُبحان ربّي الأعلى فأنزل الله تعالى: “سبِّح اسم ربّك الأعلى” فقال النبي- ص: «اجعلوها في سجودكم» – ذكره الثعلبي في (كتاب العرائس) له} انتهت

أمّا الرواية الثانية: {وقيل: إنّ أول من قال “سبحان ربّي الأعلى” ميكائيل عليه السلام. وقال النبي- ص- لجبريل: «يا جبريل أخبـِرْني بثواب من قال: سبحان ربّي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته» فقال: (يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلّا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول الله تعالى: صَدَقَ عبدي، أنا فوق كل شيء، وليس فوقي شيء، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له، وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حَمَله على جناحه، فأوقفه بين يَدَي الله تعالى، فيقول: يا ربّ شفـِّعني فيه، فيقول قد شَفَّعْتُك فيه، فاٌذهبْ به إلى الجنة)} انتهت

وتعليقي: يكفي لدى المُوحِّدين كفراً قوله (يقول الله تعالى: اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له) فهل يبطل غفران الله ما لم يشهد الملائكة؟ كذلك قوله (إلّا كانتْ له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي) فهذه مبالغة قد تجوز في حضرة مَلِكٍ أو حضرة صنم مقدّس لكنها لا تجوز في حضرة الله إذ لا شيء يسمو على الله ولا صفة تتفوّق على ما لله.

أعود إلى الأسجوعة لألقي بعض الضوء على قوله (سَنُقرِئُكَ فلَا تنْسَى ٦ إلَّا مَا شاء اللهُ إنَّهُ يَعْلمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفى ٧) فاقتطفت من تفسير الطبري ما يأتي- باختصار: {والقول الذي هو أولى بالصواب عندي، قول من قال: معنى ذلك: فلا تنسى إلّا أنْ نشاء نحن أنْ نُنسيكهُ بنسْخه ورفعه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ذلك أظهَر معانيه. وقوله “إنّهُ يعلم الجَهْر وما يخفى” يقول تعالى ذكره: إن الله يعلم الجهر يا محمّد من عملك، ما أظهرته وأعلنته “وما يخفى” يقول: وما يخفى منه فلم تظهره، ممّا كتمته، يقول: هو يعلم جميع أعمالك، سِرّها وعلانيتها؛ يقول: فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذِن لك به} انتهى

واقتطفت من تفسير القرطبي النقاط التالية:
1 “سنُقرئُك” أي القرآن يا محمد فنُعَلِّمُكَهُ “فلا تنسى” أي فتحفظ- رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من الله تعالى بشَّره بأن أعطاه آية بيِّنة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أنْ ينسى، فقيل: كـَفـَيْتُكـَهُ. قال مجاهد والكلبي: كان النبيّ- ص- إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي- ص- بأوّلها، مخافة أن ينساها فنزلتْ: “سنقرئك فلا تنسى” بعد ذلك شيئاً، فقد كفيتكه.
2 عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات “إلا ما شاء الله”
3 وقد رُوي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحَسِبَ أُبَيّ أنَّهَا نُسِختْ، فسأله فقال: “إنّي نسِيتُها”
4 ثم قيل: هذا بمعنى النسخ أي إلّا ما شاء الله أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل: النسيان بمعنى الترك أي يعصمك من أن تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة.
5 وقوله “فلا” للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي وإنما أثبتت الياء؛ لأن رءوس الآي على ذلك.
6 وقِيلَ: الجَهْر مَا حَفِظْته مِن القرآن فِي صَدْرك “ومَا يَخْفى” هُوَ مَا نُسِخ مِنْ صَدْرك.

تعليقي: أوّلاً- على قوله ( وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ) هو أنّ في كتب التراث أدلّة على خلاف ذلك؛
١ كان من مُعلّميه ومستشاريه القس ورقة بن نوفل والسيدة خديجة بنت خويلد (ابنة عمّ ورقة) وبحيرى الراهب ٢ عمله بالتجارة مع السيدة خديجة ما يلزم معرفة بالقراءة والكتابة- وفي أقلّ تقدير أنه تعلّمَهما منذ بداية عمله مع السيدة خديجة حتى بدء التخطيط لدعوته وهو في سنّ الأربعين ٣ توقيعه على معاهدة صلح الحُدَيبيّة ٤ طلبه أن يكتب- وهو على فراش الموت- كتاباً (لا تضلّ الأمّة من بعده) لكنّ طلبه جُوبه بالرفض بداعي الهذيان.
ثانياً- على قول ابن عبّاس: (فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات “إلا ما شاء الله”) فيه مُداراة على حال محمد من تناقض في مواقفه وقراراته. وقد اختلق محمد من الحجج النسيان والنسخ ليبرّر تغيير رأيه وتقلّب مزاجه، لكنّ اللافت في هاتين الحجّتين هو أنّ محمّداً نسبَهُما إلى مشيئة الله ضمانة له لكي لا يُلقي أحد المعترضين باللائمة عليه فيذعن لأوامر ربّ القرآن ويخضع، أي أنّ الله هو المسؤول عمّا يُنسي محمّداً فينسَخ ليأتي بالأفضل! وفي هذا الموضوع تساؤل مشروع: لماذا يُقرئُ الله (أو جبريل) محمّداً جملة ثمّ يُنسيه ليأتي بخير منها أو مثلها؟ فمعلوم أنّ الله حكيم وعليم بالغيب وقدير، لا نقص في أعماله وترتيباته ولا ريب ولا عيب فهذه متوقعة من خصال الإنسان ما لا يجوز الخلط بينها وبين الإمتيازات الإلهيّة- الكاملة بكلّ شيء والمنزَّهة. لذا فالحجج المُحمّديّة بالنسيان أو النسخ مكشوفة ولا أدري ما كانت في يد “الرسول” حيلة أخرى ليستكمل بها مشاريع الدعوة.

———————

في الحلقة القادمة قراءة في سورة الليل
____________________________

شكراً جزيلاً لكلّ من تفضّل-ت بالتعليق على مقالتي السابقة ولكلّ من تفضّل-ت بالتصويت

رياض الحبيّب

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.