لعل الظاهرة عامة: هذا القرن لا يحمل إلى الآن أسماء الكثير من كبار الشعراء. القرن الماضي كان مدهشًا وبديعًا: بابلو نيرودا. تي إس إيليوت. عزرا باوند. سان جون بيرس. بورخيس. لوركا. روبرت سنو. والاس ستيفنسن. فيليب لاركن. أودن. الآيرلنديون. وآنا أخماتوفا. كانت للشعر أمسيات وأصدقاء ولقاءات ومهرجانات. وأعني بالمهرجان الاحتفال بالقصيدة، لا بالزعيم.
لا أعرف لماذا لم يعد هناك أحد من هؤلاء اليوم. لماذا لا تزال روسيا من دون بوشكين آخر. من دون أخماتوفا أخرى. لماذا الإنجليزية من دون إيليوت آخر. لماذا الإسبانية الغنائية من دون شيء من بابلو نيرودا؟ أي شيء. حدث لي شيء مبهج هذا الصيف. دخلت متجرًا للقمصان ورحت أبحث على رفوفه. وتقدمت مني صاحبة المخزن، قائلة بإسبانية لم يصعب عليّ فهمها: إذا اشتريت فوق المائة يورو، لك من المحل هدية: خمس قصائد مزينة بالرسوم لبابلو نيرودا.
كم كانت القصائد لذيذة. لم أفهم المعاني، لكنني تخيلت نيرودا يلقيها أمام منزله على المحيط الهادي. تخيلت وقعها وتقاسيمها والحداء الجميل. كان نيرودا يكتب للمستقبل. وليس صحيحًا، ليس تمامًا، ما قالته أخماتوفا من أن الشعراء لا يكتبون إلا عن الماضي. عن الطفولة والشقاء ورفوف الطيور العابرة. قالت ذلك في يأسها العظيم والمبدع، حين رفضت مغادرة لينينغراد بعد الحصار الوحشي الذي ضربه حولها النازيون: «كيف أغادر هذه المدينة الجميلة وفيها أعمدة الجمال ومدافن أجدادي». رفضت أن تغادر الاتحاد السوفياتي مثل نابوكوف وسولجنتسين. وعاشت من الترجمة، حين يُسمح لها بذلك. وعندما زارها أحد الأصدقاء القدامى قالت في خجل: «سامحني، ليس لدي ما أقدمه لك سوى البطاطا المسلوقة». ولم يكن في ردهتها سوى طاولة عارية وأربعة كراسي.
إلى أي عالم يأخذك شعر أخماتوفا. إلى أي طبقة من طبقات النشوة والندى؟ كتب يومًا أن الروس أسياد الرواية في العالم. ولكن ماذا عن بوشكين وأخماتوفا، المرأة التي أخذوا زوجها إلى الإعدام وابنها إلى سيبيريا؟ عشر سنين في سيبيريا. عندما مُنحت الدكتوراه الفخرية في أكسفورد عام 1965 ظن الغرب أنها لن تعود إلى شقة البطاطا المسلوقة والكراسي الأربعة. لكنها أصرت على العودة، بعكس ابنة ستالين التي هربت من ظل والدها.
كم يغبَّط الروس على شعرائهم. على كتّابهم. على مسرحهم. على متاحفهم ورسومهم. ذلك هو العالم الذي رفضت أخماتوفا أن تغادره. عالمها الذي كتبت فيه «بطل بلا قصيدة» و«مرثاة موسيقية» وتحولت إلى رمز من رموز روسيا. ليس بوشكين طيفًا، لكن هل قليل أن يكون الشعر أخماتوفا؟
* نقلا عن “الشرق الأوسط”