طبل النظام الأسدي وزمر للهدنة التي توصل إليها مع قسم من مواطني المعضمية، واعتبرها نجاحا باهرا لسياسات شرع ينتهجها لما يسميه «حسم الصراع وإنقاذ المدنيين»، تعهد أن يواصلها ريثما ينهي الأمور في حلب وحمص: بالقوة والقنابل المتفجرة، وبالحصار والقتل بالتجويع.
وكان النظام قد اتبع مؤخرا سياسات تمزج بين أعمال قصف تفتك بالمدنيين تحديدا: نساء وأطفالا ورجالا، وبين حصار يجوعهم حتى الموت، يتسم بقدر من الإحكام يستحيل عليهم الإفلات منه. بالمقابل، دأبت السلطة على مزج التشويق بالجزرة والضرب بالعصا، وتقديم وعود تلوح بالغذاء والدواء وإطلاق سراح المعتقلين وتسوية أوضاع من انفكوا عن عملهم من الناس، وبالعفو عن الجنود والضباط المنشقين وإعادة المهجرين إلى منازلهم التي سترممها على نفقة الدولة. بعد أشهر من القتل والتجويع، لا عجب أن وجدت في المعضمية أصوات قبلت عقد «هدنة» رأت فيها وقفا لإطلاق نار يحقق الوعود المعسولة، ويحظى باهتمام المحاصرين، الذين كان أطفالهم يموتون جوعا وعطشا وخوفا.
قرأت بالأمس ما أورده أحد قادة المقاومة في المعضمية من وقائع حول تطبيق الهدنة. قال المقاوم: إن الجيش خالف كل ما تم التوصل إليه في اتفاق «الهدنة»، فلم يسحب قواته من محيط المدينة بل عززها، ولم يوقف قصفها بل زاده، ولكن بالأسلحة المتوسطة ونيران القناصة، ولم يفرج عن أي معتقلة أو معتقل أو يسمح بدخول الغذاء والدواء، أو بعلاج أي مريض أو مصاب من سكانها إلا إن عولج على نفقته الخاصة، ورفض السماح لمن دخلوا المدينة بعد «الهدنة» بالخروج منها، ولم يرفع حواجزه عن بواباتها بل وطدها، وحصر تعامل الأهالي مع العالم بحاجز واحد يضايقهم ويذلهم، بينما اعتقل عددا كبيرا من الشباب الذين أرادوا مغادرتها، وسرب عناصره إليها لتقويض وحدة مواطنيها، وامتنع عن إعادة ترميم أو بناء ما تهدم أو دمر فيها. وأخيرا، بلغ استهتار النظام بأهالي المدينة حد السريالية، فقد أدخل بعد ثمانية أشهر من الحصار ما وعد بإدخاله من مواد غذائية، فإذا هي 27 علبة سردين و90 ربطة معكرونة و80 كيلو برغل و56 علبة طون، اعتبرها العميد غسان بلال، مدير مكتب ماهر الأسد المشرف على الهدنة، كافية لتغذية 8500 مواطن يقتلهم الجوع!
قوض النظام الهدنة بندا بندا، لأن ما أملاها لم يكن الحرص على المواطنين، بل حاجته إلى نقل قسم من قواته إلى مواقع أخرى يريد محاصرتها بدورها، فضلا عن اختراق الثورة، وزرع الفتنة بين مواطنيها، وحفر هوة يصعب ردمها بين شعبها والمقاومة، تجعل من السهل إسقاطها دون قتال، حين تنضج شروط سقوطها، ويقرر استئناف هجومه عليها.
من جانبهم، أراد الأهالي التقاط أنفاسهم بعد شهور عانوا فيها أشد المعاناة من القتل والتجويع، ولم يقبلوا «الهدنة» كي ينفكوا عن الثورة وتعصف بهم خلافات وفتن تجعل استسلامهم مسألة حتمية. واليوم: يميل سكان المعضمية إلى التخلي عن الهدنة، أسوة بسكان مخيم اليرموك، الذي رفض رئيس مجلسه المحلي ما سماه «هدنة الإذلال والتجويع».
والآن، ماذا سنفعل إذا ما انهارت «هدن التجويع والإذلال»: هل نتركهم يموتون جوعا، أم نعمل بكل جدية لفك الحصار عنهم، بالسياسة والمقاومة، وفي إطار دولي يسمح لأول مرة بالتواصل معهم «عبر الحدود»، دون موافقة النظام وعن غير طريقه؟