(( نينكاسي )) إلهة البيرة في بلاد الرافدين

الإسم المعروف في اللغة الإنكليزية ” البيرة ” أو الجعة مشتق اسمها من اللاتينية` بيبير’ (ومستعارة من الألمانية `بير ‘) وتعني` للشرب’ . والمصطلح الاسباني للبيرة، “سيرفيزا “يأتي من الكلمة اللاتينية` سيريفيسيا ، وهذا يعطينا مؤشرا بأن الناس قديما كانوا قد تمتعوا بهذا المشروب ، ومع ذلك فإن تخمير أو صناعة البيرة لم تنشأ في أوروبا بل في انحاء اخرى من الأرض وقبل آلاف السنين.

أول صناعة للبيرة
كان أول صناعة للبيرة في التأريخ حوالي 7000 سنة قبل الميلاد في الصين
(المعروفة باسم كوي kui )
. ولكن المعروف لدى الغرب ، بأن تخمير البيرة وصناعتها قد بدأ في بلاد ما بين النهرين عند منطقة ” غودين تيب ” في محافظة كرمنشاه ــ إيران ما بين 3500 ــ 3100 قبل الميلاد. وتوجد أدلة أكيدة على تصنيع البيرة بين هذه التواريخ .
ولكن الاحتمال الأكبر، بأن تخمير البيرة قد بدأ في بلاد سومر جنوب بلاد ما بين النهرين ، كان أبعد من ذلك بكثير من خلال دراسة بعض الأدلة التي عثر عليها ، ومع ذلك ، ان الذي يحدد تاريخ بداية صناعة أو تخمير البيرة في غودين تيب في وقت مبكر ولربما بعشرة الاف سنة قبل الميلاد عندما كانت الزراعة قد بدأت لأول مرة في المنطقة. في حين ذهب بعض العلماء إلا أن البيرة قد سبقت الخبز كعنصر رئيسي، ومن المرجح أيضا أن البيرة ” أُكتشفت” من خلال الحبوب المُخمرّة المستخدمة لصنع الخبز.

البيرة في بلاد ما بين النهرين
كان شعب بلاد ما بين النهرين القديم يستمتع كثيرا باحتساء البيرة ، لأنها كانت المصدر الغذائي الأساسي اليومي لهم. وكانت اللوحات الفنية، والقصائد الشعرية ، والقصص الخرافية جميعها تصور بأن كل من البشر والآلهة يجدون المتعة والراحة في تناولها ، واحتساء البيرة كان من خلال قصبة البردي الرفيعة والمجوّفة
(straw)
، والتي تعمل كاداة تصفية للبيرة ، لانها تحوي في تركيبها على بقايا قشور حبات الشعير، ونوى التمور، و قطع صغيرة وفتات من الخبز العالقة ، وهذا مايجعل شراب البيرة سميكا وبأشبه ما يكون بعصيدة الشعير السميكة ، ويُمتص السائل من وعاء البيرة من خلال تلك القصبة ، وقد اخترعت القصبة من قبل السومريين أو البابليين، ويُعتقد انها أُعدّت خصيصا لشرب البيرة.
عثر على قصيدة شهيرة لـ (إنانا/ عشتار) و إله الحكمة ( أنكي ) تصف الآلهة الأثنين في شرب البيرة معا، ويصلان بتعاطيها المتواصل الى حالة السكر الشديد، بحيث انه ( أي أنكي ) وهب شريعته المقدسة (قوانين الحضارة ) إلى إنانا (يُعتقد أنها ترمز إلى نقل السلطة من أريدو مدينة إنكي، إلى أوروك مدينة إنانا).
القصيدة السومرية ( ترنيمة لـ “نينكاسي” ) وهي بأي حال أغنية ثناء وتقدير لإلهة البيرة ” نينكاسي “.
ونينكاسي في الحقيقة هو اسم أطلقه السومريون على البيرة لاول مرة ، ومن ثم جعلوه من أسماء الآلهة ، وجاء أيضا كوصفة لتحضير البيرة وصناعتها ..
كتبت هذه الترنيمة او الوصفة حوالي 1800 قبل الميلاد. وفي مقطع من القصيدة أو الترنيمة ، تصف عملية صوت سكب البيرة في الوعاء الكبير ، يشبه صوت تدفق وهدير نهري دجلة والفرات لانها تجلب الحياة لشاربها مثل مياه هذين النهرين . وكما في ملحمة كلكامش البابلية ، وليصبح البطل أنكيدو متحضرا ومهذبا ، عليه ان يستمع الى التعاليم والارشادات في المعبد والتي كانت خادمته” شمخات ” تقوم باداء تلك المهمة ، ومنها طريقة احتساء البيرة .
كان للسومريين تسميات كثيرة مختلفة للبيرة من ( سيكارو) و ( ديدا ) إلى (إبير ــ الذي يعني `البيرة القدح ‘) ، ويعتبر شراب البيرة ، هدية من الآلهة الى البشر لتعزيز الرفاه والسعادة البشرية .
كانت مصانع البيرة والحانات تديرها النساء والكاهنات من المعبد “نينكاسي ” حصراً، وليس للرجال أي نشاط في هذا المجال .
وتقوم النساء بعملية التخمير داخل المنازل بشكل منتظم وعلى مدار السنة ، ويعد تقديم البيرة على موائد الأسر جزء رئيسي لوجبات الطعام اليومية المعتادة .
وُتصنع البيرة قديما من “البيبار”
Bippar
(خبازة خبز الشعير مرتين) مضافا اليه العسل والتمر ليصبح خليطا متجانسا لعملية التخمير ، ويرتبط تخمير البيرة دائما مع الخبز. وانتقلت ثم انتشرت وصفة تحضير البيرة المشهورة آنذاك
( ألولو Alulu )
من مدينة أور في 2050 قبل الميلاد الى انحاء بلاد سومر، ومع ذلك، فأن صناعة البيرة أصبحت تجارية بحلول ذلك الوقت. ويدل بذلك لوح سومري قد عثر عليه يحمل وصفة تخمير لخمسة سيلاس من ` البيرة الممتازة ‘ البيرة ألولو (خمسة سيلاس ما يقرب من أربعة ونصف لتر).

وفي ظل الحكم البابلي، زاد إنتاج البيرة في بلاد ما بين النهرين زيادة كبيرة، وأصبحت أكثر تسويقا، ووضعت قوانين بشأنها، حيث توضح المواد 108ــ110 من دستور حمورابي :

المادة 108 :
إذا كان صاحب الحانة (المؤنث) لا تقبل مقدار من الذرة مقابل ثمن الشراب من البيرة ، لكنها تقبل بالمال، أو كان ثمن الشراب أقل من قيمة الذرة، يتم إدانتها وإلقائها في الماء.
المادة 109 :
إذا التقى المتآمرون ( المعارضون للحكم ) في الحانة، ولا تقوم صاحبتها بالقبض على هؤلاء المتآمرين وتسليمهم إلى المحكمة، يجب وضع صاحبة الحانة في السجن حتى الموت.
المادة 110 :
إذا فتحت ” شقيقة إلهة أو إله ” أو كاهنة لحانة، أو دخلت الحانة بقصد الشرب، عندها تحرق هذه المرأة حتى الموت.
وكانت المادة 108 من الدستور البابلي تتعلق بمن يمتلكن الحانات اللائي يقدمن البيرة للزبائن بمقابل نقدي لكمية أقل من المقرر ، مقارنة عندما يكون المقابل قياس محدود من الذرة ، بقصد غش الزبائن. عقوبتهن ، اغراقهن إذا تم القبض عليهن متلبسات بذلك.
وكانت البيرة عادة تستعمل للمقايضة، وليس للبيع النقدي ، و توزع كحصة يومية ولجميع المواطنين من كافة الطبقات بدون استثناء، واسعارها تعتمد على الوضع الاجتماعي للفرد.
أما المادة 109من الدستور، تخص صاحابات الحانات اللواتي يؤيدن ويتسترن على الخيانة من خلال السماح للمناوئين بالتواجد في الحانات. كما أشارت المادة 110 إلى المخاوف من النساء اللواتي نصبن ككاهنات أو سادنات في المعابد في فتح الحانات ، أو إرتياد الحانات لاغراض تناول البيرة . ولكن البابليون لم يكن لديهم اعتراض على كاهنات البيرة لدخول الحانات وشرب البيرة فيها ، كما فعل السومريون ذلك أيضا ..

ألواح “إيبلا “(اكتشفت في سوريا في عام 1974 م) والتي يرجع تاريخها إلى 2500 قبل الميلاد، توفر دليلا على أن إيبلا، المنطقة الاستيطانية السومرية الأخرى التي كانت تصنع كميات كبيرة من البيرة في ذلك الوقت باستخدام العديد من الوصفات المختلفة التي يصل عددها بأكثر من عشرين وصفة . وكانت تستخدم في صناعتها المياه الصافية والنقية فقط ، وكان لا بد من غلي الماء قبل استخدامه، كونه أكثر صحة للاستهلاك من مياه القنوات والتي يمكن ان تتلوث من الفضلات الحيوانية.
االبرفسور الباحث والمؤرخ البريطاني “جيرمي بلاك” كتب:
( كانت البيرة عنصرا أساسيا في بلاد ما بين النهرين والمناطق المحيطة بها لعصور ما قبل التاريخ، حيث كانت عملية التخمير وسيلة فعالة لقتل البكتيريا والأمراض المنقولة بالماء. وتم توثيق تصنيعها من قبل الكتّاب في الواح طينية محفوظة حتى في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. وكانت البيرة تستهلك من قبل الناس وعلى جميع مستويات المجتمع وتُقدم للآلهة والموتى على حد سواء ،وكذلك في طقوس الأضاحي. ( بلاك ص297) .

كانت البيرة لها أهمية كبيرة في النظام الغذائي اليومي للشعب في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين ، وكانت تباع الى العامة عن طريق المقايضة وليس بالعملة النقدية المعدنية ( مقدار من النحاس ). ويزوّد العمال والكادحين بالبيرة كجزء من حصصهم اليومية (كما لوحظت هذه الممارسة في مصر )، واستنادا إلى الأدلة الأثرية، كانت البيرة هي الشراب الذي يتمتع به من أصغر كادح وفقير إلى أعلى نبيل في الدولة ، وكانت تشرب من خلال القصبة ، حيث توضع كميات كبيرة منها في وعاء كبير وواسع ، وكان الاشخاص يضعون قصباتهم في الوعاء لسحب سائل البيرة ، حسب ما ذكره البرفسور بلاك.

وكتب صموئيل نوح كريمر الخبير المشهور في الشؤون السومرية :
( كانت البيرة لديها الصفات الإلهية والسامية للشعراء والحكام السومريين ، ولكنها، كما لوحظ ، بانها شراب الآلهة أيضا. واسم نينكاسي يترجم حرفيا باسم “السيدة التي تملأ الفم” . وكان يعتقد بأن للبيرة القدرة على الشفاء من الأمراض ورفع معنويات شاربها ) . ( كريمر، ص 111 ) .
كتب كريمر ليقول : ( على الرغم من أن نينكاسي كانت إلهة` ولدت في المياه العذبة المتلألئة، ولكن البيرة كانت حبها الأول ) . ( ص111)

في عام 2006 م تأسست ” شركة جعة نينكاسي
“Ninkasi Brewing Company
، تنتج أجود انواع البيرة الفاخرة للغاية في العالم ، وذلك في مدينة يوجين، ولاية أوريغون، الولايات المتحدة الأمريكية ، من قبل جيمي فلويد
Jaimie Floyd
، ونيكوس ريدج
Nikos Ridge،
على أن اسم البيرة نينكاسي ومنتوجها، لا يزالان ذا صيت وشعبية الى يومنا هذا ، كما كانت في بلاد ما بين النهرين القديمة…

ـــــــــــــــــــــــ
جيرمي بلاك ــ أدب سومر القديم ــ من مطبوعات جامعة اكسفورد ــ 2006 .
كريغ سمث ــ البيرة ــ تأريخ حضارة السومريين في بلاد مابين النهرين ــ نيويورك ــ 1995 .
لانس ألريد ــ المرأة والبيرة في بلاد الرافدين ــ أكلاهوما ــ 2008 .
صموئيل نوح كريمر ــ السومريون ، تأريخ وثقافة وشخصية ــ منشورات جامعة شيكاغو ــ 1956 .

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.