حين كنت اتسكع في بلد الوليد وغرناطه والحمراء قبل ثلاثين عاما كنت احمل كامرتي الكانون – والزوم – ودفتر النوت الورقي وقلمي المحشور على اخر ورقة كتبت عليها ملاحظة بدوي من جنوب العراق يطمع ان يرى حذافة هاربة من الهور او حمامة من بساتين العمارة هاربة واقفة على جدار من جدران قصور او قلاع الحمراء او وهي تهدل عند حوض ماء غذب من نوافير السباع التي بناها المعماريون والفنانون العرب ،من المؤكد الا خيط وصل بين هذا البدوي العراقي واؤلئك الحضاريين عرب الجزيرة الايبيرية ،انا اختلف مع كل اؤلئك المؤرخين الذين عدوا العرب في الجزيرة الايبيرية برابرة محتلين ،فاؤلئك البرابرة كانوا بناة حضارة اسبانيا والبرتغال في الوقت الذي كانت تغرق فيه اوربا في غياهب الجهل والتخلف والعوز والرعب من بعضها ،حين تجولت في اسبانيا وبرشلونة وخيمت في ضواحي مدنها الريفية ،كانت روائح العرب تسكر ليلي ويتناهى الي صوت زرياب باغنية بغدادية بغددت اماسي غرناطة كلها ، انا اكتب الان على خلفية الذكرى 534 لسقوط الاندلس ،متذكرا دمعة الملك العربي الذي تنازل عنها و( رزالة امه ) التاريخية ،لاقرأ ملاحظة كتبتها على ورقة من دفتر ملاحظاتي انذاك ( رزالة ام ملك تاريخية لا يمكن ان ينساها العرب وقد ضيعوا فلسطين ويبدو انهم سيضيعون جنانا عربية اخرى )
اليوم مرة اخرى اتجول في مدن الجزيرة الايبيرية متذكرا اجتماع بوش وبلير في احدى جزرها للاتفاق على قرار اسقاط اندلس اخرى هي العراق ،لكني هنا ابحث عن حجر سحري اخر كتب عليه العرب اخر كلماتهم ونقوشهم التي يبدو لي انها لن تنسلخ عن تاريخ اسبانيا مهما حاول الوطنيون الاسبان محقين .
تحضرني هنا مقولة بدوي عراقي اخر تسكع في الجغرافيا الليبيرية هو الكاتب حسين عبد الحسين (( لو كانت صورة العرب أنهم برابرة، لما كان ملك البرتغال حتى العام 1853 ليستخدم العربية تخليداً لذكراه )) وملك البرتغال هذا نقش تخليده بالعربية على قبره .
ويقول حسين انه مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، وسّع المؤرخون الاوروبيون، وخصوصا الألمان، عملية اعادة كتابة التاريخ بحسب أصول علمية لا تتفق بالضرورة مع الرواية المسيحية الدينية، فانكبوا على دراسة تاريخ العرب والمسلمين، وقدموا اعمالا تحول بعضها الى اعمال كلاسيكية ومرجعية لكل الاعمال التاريخية التي تلت.
الا ان الضوابط الحديثة للتدوين التاريخي لم تلغ الانحياز الاوروبي للرجل الابيض والاعتقاد بتفوقه على باقي الشعوب. ولأن تاريخ الرجل الابيض ونهضته في عصر التنوير كان تاريخاً حديثاً، استنبط الاوروبيون تاريخا لهم يعود الى منتصف الالفية الاولى قبل الميلاد، ويبدأ مع اليونان، ثم الرومان، ثم البيزنطيين والصليبيين، فعصر النهضة والتنوير.
وحاولت مجموعات التنوير الاوروبية، مثل الماسونية، مصادرة الحضارات الأقدم، فاعتبرت ان عقيدتها عن البناء تعود الى عصور غابرة تربو على ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، مرورا باحيرام الفينيقي باني هيكل سليمان اليهودي، وصولا الى بنّائي الكاتدرائيات الاوروبية الضخمة، فبناء عاصمة الامبراطورية الاميركية الجديدة، فعليا وفكريا.
إلا أن التدوين الاوروبي العام للتاريخ كان يتطلب التقليل من اهمية بعض الحضارات الماضية او رميها بالبربرية، وهي عملية بلغت ذروتها مع معاداة السامية الاوروبية، وطرد اليهود، واندلاع الهولوكوست النازية.
ها انا ابتعد عن جولتي التذكارية وشاعرية مشاهد المعمار العربي ونوافير دمشق في مدن اسبانيا الى فلسفته و وانتمائه الفينيقي الذي لا يمكن انكار كينونته جسرا حضاريا عبرت عليه الموسيقى والفن والحضارة العربية الاسلاميه لاعود فانقل الحديث مجدداعن تهميش تاريخ الحضارات غير الاوروبية، حيث نسب بعض المؤرخين الاوروبيين سلسلة من الانجازات لليونان، على الرغم من ان هؤلاء — باعترافهم — نقلوا جملة معارفهم، بما في ذلك حروفهم وعلم الابحار، عن الفينيقيين. هكذا، ضاعت قرون من الانجازات والمستوطنات الفينيقية في حوض المتوسط، خصوصا في شبه الجزيرة الايبرية (اسبانيا والبرتغال)، التي تعود الى خمسة قرون قبل الميلاد، وتم استبدالها بغزوات بربرية عربية في القرن السابع الميلادي. ولتأكيد انتصار الحضارة على البرابرة، قام الاوروبيون بتصوير استعادة الايبيريين الاندلس، في القرن الخامس عشر، على انه عملية طرد.
وعلى مدى القرن الماضي، ساهم “الفينقيون الجدد”، وهم من المسيحيين اللبنانيين، في الغاء انجازات الفينيقية بسبب اصرارهم على ربط القومية اللبنانية الفينيقية بأوروبا وابعادها عن العرب، وهي محاولات امتدت قروناً، وتضمنت خزعبلات تاريخية مثل اعتبار بطرك الموارنة في القرن الثامن عشر اسطفان الدويهي، أن شرلمان، ملك اوروبا في القرن التاسع، هو خال مار مارون، مؤسس طائفة الموارنة في القرن الرابع.
الفينيقيون لم يكونوا عرباً، لكنهم كانوا ساميين، مثل اليهود والآراميين والآشوريين والعرب، ومحاولة الموارنة فك ارتباطهم بالشرق والصاقه بالغرب، ألغى انجازات الفينيقيين التاريخية، وفي الوقت نفسه لم ينل رضى الرجل الابيض، وأكسبهم عداء أقرانهم الساميين، خصوصاً العرب.
هنا في لشبونة، لا يمكن اخفاء الدور الفينيقي. القلعة الأهم التي أعطت المدينة اسمها هي قلعة الأخبونة التي شيدها الفينيقيون وورثها الرومان، فالمرابطون، فالبرتغاليون، وربما لو قيّضت لنا إعادة كتابة التاريخ الايبري، لتبين ان للفينيقيين دوراً رئيسياً في تمرير علومهم عن البحار الى الشعوب المحلية، التي تحولت، بحلول القرون الوسطى، الى كبرى الامبراطوريات البحرية التي استعمرت العالم، بما فيه القارة الاميركية.
ولأن التماهي مع اوروبا الحضارة تحول طموحا لدى شعوب العالم، كتب الايبيريون تاريخهم بشكل صوّر ملوكهم على طراز نظرائهم الفرنسيين والبروسيين والبريطانيين.
تعال معي عزيزي القاريء الى غربي لشبونة، بلدة سينترا، مصيف ملوك “البرتغال والچرڤ”، اي الغرب، نسبة الى غرب الاندلس. والاسم سينترا مستوحى من سينتيا، اي إلهة القمر العراقية وقد ا شتهرت عبادة الإله سين (إلاه القمر) فى شمال سوريا ( في حلب تحديدا ) والعراق حتى مصر وأسم سيناء معناه شبه جزيرة القمر ووجد أن إسم إله القمر سين ولكن عنوانه أو الإسم العام له هو الـ يله بمعنى” إله” وهذا الإسم معناه الرئيس أو العظيم أو الكبير بين الآلهة أو بصورة أكثر تدقيقاً “الله أكبر” وقد أشار كوون إلى هذا فقال ” الإله مكونة من الـ و يلاه التي كان أصلها وجة من أوجه إله القمر وقد إشتهر إله القمر بصفاته الشهيرة بأنه إله الوقت وإله الإخصاب والجنس وأيضاً إله الحرب وكثير من الدارسين والباحثين فى علم الأثريات لا حظوا أن إسم إله القمر هو سين وهو جزء من الكلمة العربية سيناء والتى ذكرت فى التوراة بإسم ” برية سيناء ” أى برية إله القمر كما ذكرت جبالها بجبال سيناء أى ” جبال إله القمر” ولما كانت عبادة القمر منتشرة كل هذا الإنتشار فى العالم القديم فقد إنتشرت عبادة سين إله القمر الذى تغلب على الكثير من الآلهة الأخرى فى بلاد كثيرة حولهم أى أينما ذهبوا وجدوا إلههم يعبد
وقد وردت في القران الكريم كلمة ( يس والقران الحكيم) ويقرأ أهل المدينة والكسائي “يس والقرآن الحكيم” بإدغام النون في الواو. وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة “يس” بإظهار النون. وقرأ عيسى بن عمر “يسن” بنصب النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحق ونصر بن عاصم “يسن” بالكسر. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع “يسن” بضم النون فهذه خمس قراءات. ..
وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر. وقيل: إنه اسم من أسماء الله قال مالك. وروى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: “يس والقرآن الحكيم” يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي هذا كلام بديع, وذلك أن العبد يجـوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من التسمية بـ “يسين” لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى: “سلام على إل ياسين” [الصافات: 130] قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به, وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه لما فيه من الإشكال والله أعلم. … وقال الشعبي: هو بلغة طي. الحسن: بلغة كلب. الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في [طه] وفي مقدمة الكتاب مستوفى…
سين اله القمر العراقي من الذي نقله الى اعماق الجزيرة الايبيرية بتحريف ( سينترا او سينتيا )
وشعار هذه البلدة المسيحية هو هلال ونجمة على الطراز الاسلامي.
الا ان المفاجأة تكمن في قصر بنها (او بينا او بنرأ وهو اللفظ اللاتيني الذي يعني ريشة وصخرة في الوقت نفسه، ومنه بترا او بطرس)، وهو قصر تم تشييده على اثر ظهور مريم او ماري العذراء في نقطة البناء، وهي اسطورة شبيهة باسطورة فاطمة العذراء التي ظهرت في بلدة فاطمة شرق لشبونة. ((هي ذاتها اسطورة فاطمة البتول الاسلامية العربية التي صارت فيما بغد سيدة الفاطميين الذين تسيدوا شمال افريقيا وامتدوا من القيروان الى الفرات )
القيمون على القصر يفتحونه للزوار، فيمر هؤلاء في غرف الدير، الذي حوّله ملك البرتغال فيرديناند الثاني إلى قصر له ولعائلته. داخل الغرف استعراض للفخامة — على طراز ملوك اوروبا — التي عاشها حكام البلاد.
لكن خارج القصر، وخارج برنامج الزيارة، نصب غير لافت للنظر، داخله نقوش عربية، يشي التباين في الخط انه تم نقشها على دفعتين. النقش الأول، نص يؤرخ اقامة الدير، وهو على الشكل التالي: “السلطان ضون مانويل بنى هذا الدير المبارك على اسم سيدتنا مريم ده پنها سنة ١٥٠٣”. النص الثاني، يؤرخ رحلات البحّار الشهير فاسكو دي غاما، ويضيف ان بناء القصر تم برعاية فيرديناند وزوجه ماريا: “ذكر الرجوع ضون ڤاسكو ده غامه سالما من كشف واستملاك الاراضي والبلاد التي وجدها، اعنى، كابو بونا اسپير، (نسه)، والهند وغيره، ثم حضرة السلطان ضون فرناندو الثاني قرين ذات الجلالة ضون ماريا سيكونده عمرة واتقنة هذا (دير) وقلعة سنة 1840”.
هذا النقش يقدم لمحات رواية مختلفة عمّا قدمه مؤرخو اوروبا.
أولاً، إذا كان الاوروبيون دحروا العرب من ايبيريا مع نهاية القرن الخامس عشر، فلماذا الاستمرار في استخدام النصوص العربية حتى العام 1840؟ ثانياً، من الواضح ان عملية تغريب النصوص البرتغالية استغرقت فترة طويلة، فمريم في العام 1503 هي ماريا في العام 1840. ثم ان التسميات الجغرافية صارت اوروبية ايضا في الجزء الثاني، فرأس الرجاء الصالح هو كابو بونا اسپير، وماريا الثانية هي ماريا سيكونده. اما في الاسلوب، فيشي النقش بأن عرب الأندلس استخدموا حروفاً من خارج الابجدية العربية، مثل ڤ وپ، واستخدموا التاء المربوطة في الفعل ايضاً، بدلاً من تاء التأنيث، مثل “عمرة واتقنة” بدلاً من “عمرت وأتقنت”.
ويبدو ان الايبيريين لم ينظروا الى العرب كبرابرة قبل بدء مؤرخي النهضة الاوروبية بتصوير العرب على انهم شعب لا حضاري يحتاج للاوروبيين لإعداده للحداثة والحضارة. ولو كانت صورة العرب بأنهم برابرة، لما كان ملك البرتغال، حتى العام 1853، ليستخدم العربية تخليداً لذكراه وذكرى دي غاما.
إن نقش قصر بنها، وشعار سينترا، واسميهما، وقلعة الأخبونة وتاريخ المرفأ الفينيقي المجاور، كلها مواد تاريخية تحتاج الى إعادة نظر بهدف إعادة كتابة التاريخ بعيداً عن الحمية القومية التي غلبت على كتابات مؤسسي التأريخ الحديث من الاوروبيين. ولا شك أن الكتابة الجديدة للتاريخ قد تنصف الفينيقيين وانجازاتهم، وتعيدهم الى ساميّتهم، والى قربهم من العرب، والى مساهمتهم في صناعة التاريخ العربي، بدلاً من تصوير التاريخ على انه صراع حضارات اجتاح بموجبه العرب البرابرة، فينيقيا وايبيريا الاوروبيتين.