كما قلب نورييغا لأولياء نعمته الأميركيين ظهر المجن واتخذ من ‘الحشاشين’ في أميركا الجنوبية أولياء وحلفاء، فعل المالكي الشيء نفسه. فقد غدر بأولياء نعمته الأميركان أيضا، واتخذ من ‘الحشاشين’ العراقيين الإسلاميين والإيرانيين أولياء.
من منكم يتذكر الجنرال مانويل نورييغا الذي نصبته أميركا حاكما لبنما باعتباره أقرب الموالين لها، وأشد المعادين لخصومها اليساريين المتمردين على نفوذها في جمهوريات الموز التي كانت تعرف بأنها الحديقة الخلفية لأميركا، فلم تمض إلا سنة واحدة حتى أصابته حمى الدكتاتورية، فتنكر لوَليَّةِ نعمته الأم أميركا، واعتقد بأن جبروت مخابراته وجيوش المرتزقة التي أحاط بها نفسه كفيلة بحمايته، وإلى الأبد. ثم راح يبطش بمعارضيه، على اختلاف مبادئهم وعقائدهم وشعاراتهم، ومنهم رفاقُ أمسه في “العمالة” للمخابرات الأميركية، ويساريون متشددون وليبراليون. وما زال شعب بنما يتحدث عن مقابره الجماعية إلى اليوم.
ولكي يُطعم الجيوش التي أحاط بها عرشه لجأ إلى عصابات القتل وتهريب المخدرات وغسيل الأموال، رغم علمه بأنه يفتح على نفسه بهذه العلاقة جحيم أميركا الذي لا يرحم.
وحين طفح كيل الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) نصحته المخابرات الأميركية بالتنحي، ووعدته بعدم محاسبته على كل ما ارتكبه من جرائم قتل واغتيال وخطف وتهريب. فسخر منها، وأعلن رفضه القاطع لتدخلها السافر في شؤون دولته المستقلة.
وشاهدته الملايين من مشاهدي تلفزيونات العالم، في تلك الأيام، وهو شاهرٌ سيفا، نعم سيفا، وهو يهدر، بعصبية، صارخا، مهددا بقطع رقبة بوش، وتمريغ الأنف الأميركي بالتراب.
ولم تمض سوى أيام قليلة على تلك الصورة التلفزيونية المثيرة حتى فاجأه بوش، في ديسمبر 1989، بإنزال عسكري صاعق لم يترك له فرصة للاختباء في حفرة، أو في أنبوب مجاري مياه، مثلما فعل غيره بعد سنين. لكنه تمكن من الهرب متخفيا من قصر الرئاسة، وتسلل إلى مبنى مقر السفارة البابوية، طالبا اللجوء السياسي. حينها أسقط في يد بوش. فلم تشأ القوات الأميركية الغازية اقتحام حرمة سفارة الفاتيكان لإلقاء القبض على الهارب من وجه عدالتها. وأوشك نورييغا أن يفلت من العقاب. حتى خطرت لواحد من عفاريت المخابرات الأميركية فكرة شيطانية مبتكرة. فقد طلب من جميع موظفي السفارة أن يغادروا المبنى، ثم أخلى جميع العمارات المحيطة بالسفارة من سكانها، وسلط على غرفته في مبنى السفارة مكبرات صوت عملاقة، وراح يبث موسيقى “الروك أند رول” بأعلى ما يمكن من ضجيج أربعة أيام متتالية دون توقف، لم يستطع تحملها، حتى فقد أعصابه، واضطر إلى الخروج من مخبئه، مستسلما، مقدما يديه لجندي أميركي ليقيده، ليقضي أكثر من عشرين عاما في أحد السجون الأميركية، ثم سنتين في أحد سجون فرنسا بتهمة المتاجرة بالمخدرات وغسيل الأموال، قبل أن يتم تسليمه لبنما في ديسمبر 2011.
وأمس الأول أعلن مصدر رسمي في بنما وفاة نورييغا الذي حكم بنما من 1983 حتى 1989، عن 83 عاما، وكان قد نقل إلى المستشفى من سجنه في بنما الذي كان يمضي فيه عقوبة بالسجن عشرين عاما بموجب ثلاثة أحكام في قضية اختفاء معارضين في عهده، واغتيال المعارض أوغو سبادافورا في 1985، والعسكري مويزس جيرولدي بعد تمرده في 1989، في ما سمي بـ”مجزرة البروك”، حيث قتل عدد كبير من العسكريين.
والشيء بالشيء يذكر. فلدينا في العراق واحد مسيرته مطابقة تماما لمسيرة نورييغا مع اختلاف قليل.
فكما نصب الأميركان نورييغا في بنما رئيسا، فقد نصبوا نوري المالكي رئيسا، أيضا. والمعروف والموثق والثابت والمؤكد أن الذي التقطه من آخر الصفوف وأجلسه على مقعد الزعامة هو السفير الأميركي زلماي خليل زادة، بتوصية من مندوب المخابرات الأميركية في العراق، وتزكيته.
وكما أصيب نورييغا بجرثومة غرور القوة والمال، أصيب المالكي بها أيضا وصدّق أنه زعيم بحق وحقيق.
وكما قلب نورييغا لأولياء نعمته الأميركيين ظهر المجن واتخذ من “الحشاشين” في أميركا الجنوبية أولياء وحلفاء، فعل المالكي الشيء نفسه. فقد غدر بأولياء نعمته الأميركان أيضا، واتخذ من “الحشاشين” العراقيين الإسلاميين والإيرانيين أولياء.
وكما توهم نورييغا بأن سيفه سيخيف جورج بوش، ويرهب مخابراته وجيوشه الجرارة، ها هو نوري المالكي أيضا يظن أنه، ببضعة حفاة، وببضع بنادق ومفخخات، قادر على ردع دونالد ترامب ومخابراته وجيوشه المتأهبة للعودة إلى العراق، ولو كره الكافرون.
فقد أعلن نوري المالكي، مؤخرا، في تصريح لجريدة الأخبار اللبنانية، أنه يرفض، بشمم، تدخل الأميركان في الشؤون الداخلية “الوطنية” العراقية، وهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما تجرأوا وتآمروا على حكم حزب الدعوة ورفاقه في الائتلاف الوطني، معلنا أن أي تحرش بإيران سيرتد على المتآمرين، فإيران قلعة صامدة لا تقهر.
وصاحبُه ورفيقه في الوكالة عن الحرس الثوري الإيراني في العراق، القيادي في الحشد الشعبي، أمين عام منظمة بدر، هادي العامري، أعلنها صريحة مدوية “لن يسمح للأميركيين بالسيطرة على الحدود”. “لا نأخذ إذنا من أحد، ولا نقبل نصيحة من أحد”، وإذا أصر الأميركان على التدخل سنقول لهم “تأدبوا”.
الفرق الوحيد بين نورييغا بنما ونورييغا العراق أن الأول قَتل عسكريين ومعارضين آخرين لا تزيد أعدادهم عن مئات. أما الآخر فقد اغتال وقتل وسبى وهجر واعتقل عشرات الآلاف، وسرق، أو أهدر كل ما كان في خزينة الدولة، وأمر بتسليم نينوى وصلاح الدين والأنبار لداعش نكاية بخصومه السياسيين السنة، ولم يحاسبه أحد، بل إنه ما زال يصول ويجول، نائبا لرئيس الجمهورية، ويحلم بالعودة إلى حريم السلطان.
شيء آخر، إن الدكتاتور مانويل نورييغا ختم حياته باعتذار شهير طلب فيه العفو والغفران من “أي شخص شعر بالإهانة من أفعالي، أو تضرر، أو أضعِف، أو أهين”. والسؤال الآن، هل سيعتذر نورييغا العراق من ضحاياه، ثم يستسلم لحكم القضاء، ويموت وهو سجين؟ (عيش وشوف).
إبراهيم الزبيدي