نعيم دنكور اليهودي العراقي رائد الطباعة والكوكاكولا

hakhamdankor

الحاخام عزرا دنكور وعائلته في العام 1910 في بغداد وهو جد نعيم دنكور وجد الكاتب والاقتصادي مير بصري

رجل الأعمال العراقي حرص على الظهور من موقع الباحث أكثر من حضوره كرجل أعمال، وقدم الكثير في سبيل إنهاء الصراعات في الشرق الأوسط.
العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 20/12/2015، العدد: 10133، ص(9)]

نعيم دنكور صناعي ومؤرخ عراقي يهودي أسرته كانت أول من طبع القرآن الكريم في بغداد

برلين – كان داوود ينظف ركناً من أركان المكتبة القديمة. حين عثر على ملفات قديمة ومهملة، اكتشفت إحدى شركات العالم العملاقة لاحقاً أن لها أهمية البالغة، فقد وجد الابن تخطيطات وضعها والده قبل عقود من الزمان، لتكون دراسة جدوى وبرنامج تسويق متكامل لوضع عبارة “صنع في العراق” على زجاجات الكوكاكولا الأميركية.
وحين أرادت شركة كوكاكولا الاحتفال بمئويتها، اكتشفت أن تلك المئوية تصادف مئوية الرجل ذاته نعيم دنكور. فلم تجد أفضل من سيرته لتكون رسالتها إلى العالم، كأول شخص قام بتعبئة كوكاكولا في بغداد. بعد حملة من الإعلانات التي غزا بها الصحافة العراقية في صيف العام 1950 “قريباً سترون القنينة التي تجلب السعادة عبر العالم”.

لكن عمل نعيم دنكور لم يكن يقتصر على المشروبات الغازية، فقد كان رجل الأعمال العراقي الذي رحل قبل شهر من الآن، ابناً لأول من طبع القرآن الكريم في العراق. وكلما توغّلت في عالمه سترى كيف انعكست صورة العراق في شخص نعيم دنكور، كمثقف واسع المعرفة ورجل أعمال وإحسان وصحافة وتأريخ.

المغامرة البغدادية

ولد نعيم دنكور في بغداد في العام 1914، في بيت جده عزرا دنكور رئيس حاخامي الطائفة الموسوية في العراق، وكان والده تاجر ورق بحكم صنعة العائلة، التي أسست أقدم المطابع الأهلية للكتب في العام 1904. حينها كانت الأسرة تستورد الورق من السويد، لتصدر مئات الكتب العربية التي انتشرت في المشرق، علاوة على الكتب المدرسية للمراحل الابتدائية والثانوية والعليا. كما ذكر مير بصري في كتابه “أعلام اليهود في العراق الحديث” الصادر عن دار الوراق في لندن في العام 2009.

والد نعيم دنكور هو الرابي إلياهو دنكور الذي أصدر في العام 1929 جريدة “الدليل” الاقتصادية الأسبوعية، ثم أصدر في العام 1936 “الدليل العراقي الرسمي” في مجلدين ضخمين بالعربية والإنكليزية. بقي إلياهو دنكور في العراق، ولم يغادره سوى في العام 1973.

في عمر السابعة عشرة، قرّر نعيم دنكور القيام بمغامرة شخصية من أجل التعلم، فسافر إلى لندن في رحلة استغرقت خمسة أيام، ليدرس الهندسة بدءاً من العام 1930. ثم عاد إلى بغداد ليلتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية. وهناك التقى بمن سيصبح صديقه وشريكه لاحقاً.

الحصار على الشعب العراقي، دفع نعيم دنكور إلى اللجوء إلى العمليات السرية لمساعدة العراقيين في الداخل، ليقدم أكثر من مليون جنيه إسترليني بعيدا عن الإعلام للأسر المحتاجة. اللافت وقتها أن دنكور اشترط شرطين، الأول ألا يعرف هو لمن هي مرسلة، والثاني ألا يعرف المستفيدون منها من الذي تبرع بها

في بغداد أسس نعيم دنكور شركة “الصناعات الشرقية المحدودة” بالتشارك مع صديقه وزميل تدريباته العسكرية أحمد صفوت. ليبدأ مغامرته الثانية في مجال التجارة والصناعة، وخلال سنوات قليلة، سيلتقي نعيم الشاب برينيه، الفتاة التي توّجت ملكة لجمال للعراق، في العام 1947. ليتزوجا ويكملا معاً رحلة ستمتد طويلاً، لكنّ خطاهما ستأخذانهما بعيداً عن العراق بعد سنوات.

العلم و الأعمال

كانت البلاد بلاد خير، والتنمية كانت هدف الجميع، لكن الاضطرابات السياسية لا تترك أثراً لأيّ محاولة أو بناء. تحمّل نعيم دنكور أحداث الفرهود، التي أجبرت اليهود العراقيين على الرحيل عن أرضهم التي تعلقوا بها. وبقي في بلاده منتقلاً من نجاح إلى آخر في الصناعة والتجارة. لكن ذلك كله لم يكن ليستمر مع التضييع الذي تعرض له اليهود في الستينات مع ارتفاع ما عرف بالمد القومي في العالم العربي واشتداد أتون الصراع العربي الإسرائيلي.

غادر نعيم دنكور العراق في العام 1964، إلى لندن، مضحياً بكل ما يملك من ثروات ومعامل ومنشآت، لتقوم الحكومة بعد فترة بمصادرتها والاستيلاء عليها. بينما بدأ هو من جديد في الاستثمار في مجال العقارات.

لكن الحنين إلى العراق، لم يكن لتتوقف جذوته في صدر البغدادي نعيم دنكور، إذ سرعان ما افتتح مجلته “سكرايب” الموجهة إلى يهود بابل، في العام 1971. وترأس تحريرها لثلاثة عقود متواصلة، وألحقها بمؤسسة “المنفيون” الخيرية التي تهدف إلى مدّ اليد إلى طلاب العلم في بريطانيا والعالم.
بداية التسعينات، وبعد فرض الحصار على الشعب العراقي، حرص كثير من معارضي نظام صدام حسين على الإطباق على الشعب وتجويعه، قام نعيم دنكور بمساعدة العراقيين في الداخل، وقدّم أكثر من مليون جنيه إسترليني بعيداً عن الإعلام للأسر المحتاجة. واللافت وقتها أن دنكور اشترط شرطين، الأول ألاّ يعرف هو لمن هي مرسلة، والثاني ألا يعرف المستفيدون منها من الذي تبرع بها.

الملكة إليزابيث تمنح البروفيسور نعيم دنكور رتبة “سير” إكراما لنشاطه ومشاريعه الخيرية والثقافية

تعتبر الأوساط العلمية البريطانية نعيم دنكور، واحداً من أكبر المؤرخين السياسيين في بريطانيا، من خلال مواكبته المستمرة ومقالاته التي درس فيها تحولات العالم والعالم العربي على وجه الخصوص.

المؤرخ السياسي

حرص نعيم دنكور على الظهور من موقع الباحث أكثر من حضوره كرجل أعمال، وقدم الكثير في سبيل إنهاء الصراعات في الشرق الأوسط. لم يكن أولها وآخرها رعايته ورئاسته لمبادرة القسيس أندرو وايت (رئيس مؤسسة الإغاثة والمصالحة في الشرق الأوسط)، والتي تمثلت في عقد مؤتمر يجمع القيادات الفكرية للأديان الإبراهيمية الثلاثة، تحت رعاية “برنامج الدكتور نعيم دنكور للتوحيد العالمي”، وتحت شعار “إله واحد وعالَم واحد. نعمل سوية من أجل تحقيق السلام”.

وخلال حياته التي استمرت مئة وعاماً واحداً، قدّم دنكور الكثير من أجل التنمية الفكرية في العالم، لا سيما العالم العربي والإسلامي، فتبرع في عام 2005 بمنحة تقدر بمليون جنيه إسترليني لطلاب الجامعات البريطانية.

وفي العام 2006 حصل على أعلى وسام في بريطانيا من الملكة إليزابيث الثانية في عيدها الثمانين، عندما منحته وسام الإمبراطورية البريطانية على أعماله الخيرية في دعم مجال التعليم، ومساعدة المدارس المتضررة من الهدم، ومشروع الأرز في القدس، إضافة إلى إرسال عشرة آلاف من الأكياس أسبوعياً للمدن الفقيرة.
ووثقت صحيفة التايمز أن العراقي نعيم دنكور كان قد تبرع بثلاثة ملايين جنيه، كمنح لزمالات علمية للتلاميذ العراقيين الفقراء في الجامعات البريطانية وغيرها، أما رابطة الجامعيين العراقيين اليهود النازحين من العراق، فقد انتخبت نعيم دنكور بدعوة من العالم اللغوي والمؤرخ سامي موره، ليكون رئيساً فخرياً لها. ويعتبر دنكور أحد مؤسسي صندوق رأس الجالوت الذي يرأسه في لندن.

ومن أعماله الخيرية تأسيسه لمركز اجتماعي غرب كنسنغتون للمهاجرين الجدد، وتقديم الخدمات المختلفة لهم، هذا المركز الخيري يعد صرحاً علمياً كبيراً ومشروعاً ثقافياً اجتماعياً عظيماً، حيث النسبة العظمى من الطلاب فيه من ذوي اللاجئين الذين لا يجيدون الإنكليزية، وتكون الإنكليزية اللغة الثانية لهم، فيساعدهم المركز ليتخطوا الحواجز اللغوية من المرحلة السابقة إلى المستوى “أ”.

قلب الهوية

لم يكن العراق، ومثله الكثير من دول العالم العربي، محظوظاً بالتطورات التي طرأت على هويته الوطنية، فالحياة المدنية المتعددة التي شهدتها مدينة مثل بغداد، لم تكن تعكس منظوراً دينياً واحداً أو عرقياً متعصباً أو طائفياً متشدداً، بقدر ما كانت مكاناً لبناء الإنسان وتألقه المعرفي والعمراني والفني.

الإعلامية العراقية أمل الجبوري كتبت ذات يوم، قبل وفاة نعيم دنكور، مستنكرة صبغ بغداد بهوية دينية وطائفية دون غيرها، وقالت إن “أول بيت من الطابوق بني في بغداد هو بيت شماس والد فايلوت أم البغداديين، القصر الذي هدم ظلما وبني فوق أطلال اغتصابه فندق بابل او بروي، وأول وزير نزيه فضّل مصلحة العراق على مصلحته، وأغضب أقوى مملكة عظمى هي بريطانيا من أجل صون مال العراق، ابن بغداد الذي لم يسرق أو يمد يده على مال حرام، هو البغدادي ساسون حسقيل”.

تواصل الجبوري تعداد الأوائل من صناع الحداثة من غير المسلمين في العراق “أول نادٍ اجتماعي حضاري في بغداد كان لجدتنا لورا خضوري. وأول قصر استضاف أول ملك للعراق هو قصر شعشوع البغدادي. وأول قصر استضاف الملك العراقي في نكبة فيضان دجلة، هو العين مناحيم دانييل صاحب اليد البيضاء. وأول ملجأ للأيتام المسلمين، أسسه وصرف عليه من ماله الخاص لإعانة المسلمين وغيرهم كان لمناحيم دانيال ابن بغداد الذي تحلم حفيدته اليوم ولو بصورة لبيته الذي ولدت فيه، وهو اليوم منتدى المسرح في شارع الرشيد المهجور.

وأول ملكة للجمال كانت رينيه دنكور ابنة بغداد الجميلة وزوجة البروفيسور نعيم دنكور ابن بغداد، الذي حتى هذه الساعة التي وصل عمره فيها مائة عام، وهو يعين الأرامل والطلبة وغيرهم من أبناء العراق والمسلمين حتى استحق أعلى الأوسمة العام الماضي من ملكة بريطانيا وكان راعي احتفالات بغداد في لندن”.

إن ما خسره العرب واليهود معاً بالصراعات المضلّلة، لا يقف عند خسارة الأشخاص، بل يتعداهم إلى الفكرة، التي مثّلت معنى عروبتهم الأًصيل، وهي القبة الحضارية التي ينضوي تحتها الجميع، في نهر الحضارة الكبير.

إبراهيم الجبين

About سرسبيندار السندي

مواطن يعيش على رحيق الحقيقة والحرية ؟
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.