(1318-1976)
القسم الثالث والأخير
د. رياض السندي
المبحث الرابع
الكنيسة الشرقية … البيت المنقسم على ذاته
– طريق الوراثة المعبد بالدم
نظام الوراثة سواء أكان في الحكم أو في الكنيسة، فهو نظام سلطوي، أي أن موضوعه هو السلطة، لإنه ينصَّبُ عليها تحديداً. لذا فمن البديهي أن يكون الصراع على السلطة شديداً ودموياً. فتاريخ الصراع على أي سلطة هو بلا شك تاريخ دموي قاسٍ.
ولا يشُّذ تاريخ الصراع على سلطة الكنيسة الشرقية عن ذلك. فقد تخلل تاريخها عدد من الصراعات الدموية، نوجز أهمها بما يلي: –
أولا. الإنشقاق الأول على النظام – صراع يوحنا سولاقا 1552
لم تكد تمر مئة وخمسون عاما على تطبيق هذا النظام الوراثي في الكنيسة حتى ظهر التصدع في جداره، وقاد ذلك إلى أول إنشقاق تشهده هذه الكنيسة في تاريخها الطويل الذي يمتد لأكثر من 1500 سنة، منذ القرن الأول الميلادي وحتى القرن السادس عشر الميلادي.
وأدّى هذا الإجراء إلى انقسام بين صفوف المؤمنين لا سيّما عندما كان يتولى الكرسي صبيّ صغير. ففي عام 1539 إضطر البطريرك شمعون السابع برماما (1538-1558) إلى رسامة ابن أخيه الذي لم يكد يبلغ الثانية عشرة ميترابوليتًا لعدم وجود شخص غيره في العائلة الأبوية. وللأسباب عينها، شغرت عدة أبرشيات. وبعد بضع سنين رسم فتى أخر عمره خمسة عشر عامًا، فتفاقم التذمر بين أبناء الكنيسة لا سيّما في مناطق آمد (ديار بكر) وسعرد، فالتقى المعارضون للتوريث في الجزيرة ثم في الموصل في شباط 1552 وحضر هذا اللقاء الموسَّع فضلاً عن وجهاء الموصل وعدد من الكهنة والرهبان، أسقف أربيل وأسقف سلماس وأسقف أذربيجان، واختاروا بالإجماع يوحنا سولاقا، من عائلة بلّو، رئيس دير الربّان هرمزد في جبل ألقوش بطريركًا. ولعدم وجود رئيس أساقفة يقوم برسامته، أوفدوه إلى روما للرسامة ولنيل اعتراف الكرسي ألرسولي. ولقد رافقه وفد من أشراف الشعب، وتوجهوا أولاً إلى فلسطين لزيارة العتبات المقدسة، ثم تابعوا سفرهم الى روما، وكان البابا آنذاك يوليوس الثالث. هناك أعلن إيمانه الكاثوليكي في عشرين شباط 1553، وحصلت رسامته أسقفا في نيسان من نفس السنة. وانتشر في روما خبر بوفاة البطريرك برماما، وعلى إثره قام الكرسي ألرسولي بتثبيت سولاقا “بطريرك الموصل” في مرسوم مؤرخ في 28 نيسان 1553 “وألبس الدرع المقدس
divina disponente clementia”
باسم “شمعون الثامن سولاقا”.
على الأرجح تّم هذا التحوّل بتأثير المرسلين الغربيين.
وفي عودته، رافقه بعض الرهبان الدومنيكان للمساعدة في نشر الكثلكة. وصل يوحنا سولاقا آمد في 12/11/1553 وجعل فيها كرسيّه وقوّى موقفه ورسم متروبوليتين وثلاثة أساقفة: لآمد والجزيرة وماردين وسعرد. وحصل عام 1553 على اعتراف الباب العالي (السلطان العثماني). لكن البطريرك برماما، الذي كان لا يزال في قيد الحياة، مارس على باشا العمادية تأثيرًا، فدعا سولاقا إليه، فلما وصلها، قام باعتقاله وتعذيبه. وأخيرا مات في 12 كانون الثاني من عام 1555. وقد عدّته الكنيسة الكلدانية شهيد الاتحاد. واجتمع الاساقفة الخمسة الذين كرّسهم سولاقا، واختاروا خلفًا له عبديشوع، مطران الجزيرة الذي كان في السابق راهبًا (1555-1570). سافر الى روما ونال التثبيت من البابا بيوس الرابع عام 1562 وجعل مقرَه في دير بقرب سعرد حيث عاش حتى وفاته. وبسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة وبغية تقديم خدمة رعوية أفضل، سكن خلفاؤه في سعرد ثم في سلماس وخسراوا وأورميا. وبقوا في الشركة مع روما إلى القرن السابع عشر، ولكن لم يسافر أحدهم إلى روما لنيل التثبيت من الكرسي ألرسولي. وأن بعضهم لم ينل الاعتراف الرسمي، وأن البعض الآخر أرسل صورة إيمانه وقامت روما بتثبيته، نذكر على سبيل المثال البطريرك شمعون التاسع دنحا (1580-1600)، وقد حمل رسالة تثبيته المبعوث البابوي ليونارد هابيل عن طريق حلب، وسلمت عام 1585. وعند نقل البطريرك شمعون الثالث عشر دنحا (1662-1700) كرسيّه الى قوذشانوس في جبال هكــــاري، عاد هذا الخط من البطاركة إلى العقيدة التقليدية (النسطورية)، وليس واضحًا إن كان قد أعاد معه التوريث.
وعلى أي حال يبدو أن بعض الرهبان والأساقفة تخاصموا مع البطريرك الجالس واتفق كل من أساقفة أربيل وأورميا وسلماس على اختيار يوحنا سولاقا أحد رهبان دير الربان هرمز بطريركًا على الكنيسة متخذاً اسم يوحنا الثامن. في محاولة لتعزيز موقفه قام يوحنا بالاتصال بالرهبان الفرنسيسكان وارتحل إلى روما سنة 1552 حيث قبل الإيمان الكاثوليكي على يد البابا يوليوس الثالث ويبدو أن البابا قد أُعلِمَ بأن اختيار يوحنا سولاقا تم بطريقة شرعية بعد وفاة سلفه، فكُرِّس بطريركًا على الموصل لكنيسة المشرق في 28 نيسان 1553.
عاد سولاقا إلى المشرق برفقة راهبين من الدومنيكان غير أنه لم يحظى سوى باعتراف مسيحيي ماردين وآمد. فقرر تأسيس الكرسي الكلداني في آمد ونجح في الحصول على أعتراف عثماني رسمي به على رأس “الملة الكلدانية” في كانون الأول 1553. قام يوحنا سولاقا لاحقًا بتكريس مطارنة على جزرتا وحصنا دكيفا وأنشأ أبرشيات في آمد وماردين وسعرد، فرد خصمه شمعون السابع بتنصيب مطارنة على نصيبين وحصنا دكيفا. تمكن شمعون من استمالة حاكم العمادية فقام هذا بدعوة يوحنا سولاقا وسجنه لأربعة أشهر حتى وفاته مقتولا سنة 1555. كما توفي شمعون سنة 1558 فخلفه ابن أخيه إيليا السادس (1558-1591).”
وفي الواقع، فقد جرى إيهام بابا روما يوليوس الثالث بأن بطريرك كنيسة المشرق مار شمعون السابع برماما قد توفي في تلك الأيام، وأن خليفته يوحنا سولاقا يرغب بضَم كنيسته النسطورية إلى الكنيسة الكاثوليكية في روما، مما دفع البابا المذكور إلى رسامته وتقليده المنصب البطريركي في الوقت الذي ما زال فيه بطريرك الكنيسة الأصلي على قيد الحياة. “لقد اعتقدت روما، بناء على ما عرض عليها في حينه، أن رئيس الدير سولاقا إنما انُتخب لكي يخلف البطريرك شمعون برماما، على أساس إن هذا الأخير قد توفي. ونتيجة لذلك فقد ظنت روما انها أبرمت الإتحاد القانوني مع كنيسة المشرق قاطبة. وإذ ثبت لدى روما لاحقًا إن شمعون برماما كان يومئـذ لا يزال حيًا يرزق فقد وجدت نفسها أمام واقع جديد وهو انقسام كنيسة المشرق إلى مجموعتين: “المجموعة النسطورية” التي تترأسها عائلة “أبـونا” البطريركية ومقرها دير الربان هرمزد، والمجوعة الكاثوليكية برئاسة خلفاء سولاقا وقد تحوّل مقرهم من ديار بكر إلى سلاماس في إيران ثم إلى قوجانـس في تركيا.” ولهذا فقد لُقِّب يوحنا سولاقا ب (مار شمعون الثامن) إستمرارا لذات اللقب الشمعوني، وتواصلا مع ذات السلسلة في تسلسلها.
فتواجد بهذا الشكل للكنيسة المشرقية بطريركين في نفس الوقت بطريرك وراثي مقره القوش في سهل نينوى وبطريرك باباوي مقره في ديار بكر جنوب شرق تركيا، استمر هذا الوضع غير الطبيعي حتى عام 1662 م عندما قام البطريرك في ديار بكر مار شمعون الثالث عشر دنحا بالخروج عن سلطة بابا روما ونقل مقره إلى قرية قدشانيس في حكاري في تركيا، فكان رد الفاتيكان على ذلك بإقامة بطريرك جديد ليقود الكلدانيون الذين ظلوا موالين للعقيدة الكاثوليكية، هذه الجماعة عرفت بالكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. لم تكن شركتهم مع كنيسة روما كاملة حتى عام 1830 م عندما قام البابا بيوس الثامن بالتصديق والتأكيد على تسمية مار يوحنا الثامن هرمز رئيسا للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية حاملا لقب بطريرك بابل للكلدان، وصولا إلى لويس روفائيل ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية حالياً.
ثانيا. صراع إيشوعياب دنخا 1662
ويروي قصة هذا الانشقاق الأسقف مار إيليا بيت أبونا في كتابه غير المنشور (تاريخ بيت أبونا). وقعت جريمة قتل في بيت أبونا وكان سببها أنه في عهد مار إيليا الثامن (1617 – 1160) كان قبل نذر إثنان لولاية العهد البطريركي بموجب التقليد القديم الأول إيشوعياب بن دنخا والثاني حنانيشوع بن ابراهيم، وكان كل من دنخا وابراهيم أخوين للبطريرك مار إيليا الثامن. ولكون ايشوعياب بن دنخا هو ابن الأخ الأكبر لذا كانت الخلافة البطريركية من حقه. إلا أنه لم يكن متعلماً بما فيه الكفاية مثل حنانيشوع بن ابراهيم والجماعة كلها رشحت حنانيشوع للبطريركية ورفضت ايشوعياب رغم أحقيته فغضب والده دنخا لدى رفض ابنه ايشوعياب وفي أحد الأيام عمد إلى قتل حنانيشوع ابن أخيه أثناء الصلاة في الكنيسة وهرب مع عائلته إلى اورميا في بلاد العجم. وهناك اتصل بالمرسلين الدومنيكان الكاثوليك ورسموا ولده ايشوعياب بطريركاً باسم مار شمعون دنخا ومن هناك نزح مع عائلته إلى منطقة حكاري والتجأ إلى العشائر الآشورية. إلا أن أمير جولميرك الكردي الذي كان يحكم المنطقة آنذاك منعه من السكن بين العشائر الآشورية كي لا يؤثر على أفكارهم إذ انهم لا يفهمون غير لغة السيف وباسم الأمير. لذا سكن قرية قوذشانوس بعيداً عن العشائر الآشورية وحمل لقب مار شمعون، وكانت العائلة الشمعونية النازحة من القوش تضم ثلاثة إخوة بنيامين واسحق وناثان وكان اتفاقهم أن تتناوب البطريركية بينهم. إلا أن خلافات عميقة نشبت بينهم أدت إلى حدوث اغتيالات أخرى.
ثالثا. إنشقاق عائلي – صراع نمرود 1903
لقد كُتِب الكثير عن هذه الحادثة. ودار الجدل حول دور عائلة البطريرك بنيامين في مقتل عائلة نمرود بأسرها، فمنهم من نسبها إلى تحريض وتخطيط عائلة البطريرك، ومنهم من برأها منها. وبعد الإطلاع على العديد من المصادر التاريخية وباللغات العربية والإنكليزية والسريانية، وشهادات بعض شهود العيان لهذه الحادثة المأساوية، يمكن إستخلاص ما يلي: –
أولا. إنها إحدى حلقات الصراع على الكرسي البطريركي.
ثانيا. إن تمرد نمرود على حرمانه من منصب البطريرك قاده إلى تغيير مذهبه من النسطرة إلى الكثلكة عام 1903، وهو أسلوب طالما كرره المعارضون للوراثة البطريركية منذ 1552.
ثالثا. إن الخلاف بين البطريرك الشاب بنيامين ونمرود قد إنتقل من الولاء المذهبي إلى الولاء السياسي، فإنصب على البقاء إلى جانب تركيا كرعايا أتراك أو الإنضمام إلى جانب الحلفاء كعملاء لروسيا أبتداءا وبريطانيا لاحقا.
رابعا. إن دور البطريرك وعائلته في هذه المأساة لا يمكن إخفاؤه رغم عدم ظهوره بشكل مباشر، ويدل على ذلك، القصد من هذه الجريمة التي يمكن وصفها بالجريمة السياسية لتعارض المصالح السياسية بين طرفيها، لا سيما في ظروف الحرب الكونية، وهو القضاء على أي معارضة لإنضمام الأثوريين إلى جانب الحلفاء والذي أعلنه البطريرك ذاته رسميا بالحرب على الدولة العثمانية في 10 أيار 1915 في إندفاع مبالغ فيه، بحيث ضحى بأخيه هرمز الذي كان يدرس في إسطنبول وألقيَّ القبض في الموصل بأمر من واليها وأعدم علنا بعد أن ردَّ البطريرك على رسالة الوالي رداً يدل على التضحية والإندفاع معاً بقوله: ” إني قائد شــعبي وهم أولادي كثــار فكيف أستطيع أن أسلم شعبي من أجل أخي هرمز فهو شخص واحد فقط فلتكن حياته قرباناً لأمتــه “. بينما إستطاع الشريف حسين شريف مكة أن ينقذ ولديه علي وفيصل اللذان كان يدرسان في إسطنبول أيضا، وكان جمال باشا وزير البحرية العثماني ينوي القبض عليهما في ذات العام. ومهما يكن من أمر، فإن مصير الشريف حسين لم يكن بأفضل من البطريرك.
والحقيقة التي لا جدال فيها، أن القتل أو التصفية الجسدية أو الإغتيال السياسي كانت إحدى أبرز وسائل تصفية الخصوم آنذاك، فالأمر لم يقف عند قتل نمرود وعائلته، فبعد 3 سنوات قتل البطريرك بنيامين على يد سمكو في 3/3/1918، وقتل سمكو بدوره على يد القوات الإيرانية في أيلول – سبتمبر من سنة 1930.
وتفصيل الحادث كما يلي: –
“كان البطريرك مار شمعون روئيل قد سقط من على ظهر فرسه في شهر تشرين الثاني 1902. وأصابه الشلل النصفي نتيجة النزف الدموي الذي أصابه. ولم يشفى البطريرك من هذه الإصابة بالرغم من جلب الدكتور أوشانا في ربيع 1903 من أورميا إلى قوذشانوس لمعالجته. لكن البطريرك مار روئيل شمعون توفي متأثراً بإصابته يوم 29 آذار 1903. كان البطريرك في يوم 15 آذار 1903 قد قام برسامة بنيامين إلى درجة المطران فوليط، رافعاً إياه من هيبذياقنا (الشماس الرسائلي) إلى مطران في يوم واحد. كان الهدف من هذه الرسامة السريعة ليؤمن ويؤهل البطريرك أحد أفراد العائلة للدرجة ناطر كرسي خوفاً من حدوث فراغ، لأن مار أوراها ميطرافوليط القلاية البطريرك كان في الموصل آنذاك مع بقية أفراد آل نمرود ومار يهبألاها أسقف برواري لبحث إمكانية الاتحاد مع الكنيسة الكلدانية.
بدأت الترتيبات اللازمة لرسامة بطريرك جديد ليحل محل البطريرك مار روئيل المتوفى، كانت الأحقية لهذا المنصب، للمطران مار أوراها ابن أخ نمرود أو ابن عمهم الثاني القس يوسف لكن لسوء حظهما كانا في هذه الأثناء في الموصل. كان موقف مار بنيامين ضعيفاً حيث لم يكن يؤيده أحد من العشائر الآشورية الكبرى. لذلك وحسب مشورة المستر براون مسؤول إرسالية الكنتربوري في قوذشانوس تم عقد قرآن رومي الأخت الكبرى لمار بنيامين إلى شليمون ابن ملك اسماعيل (التياري العليا) وبذلك ضمن مستر براون تأييد هؤلاء على الأقل. بعث المستر براون برسالة مستعجلة إلى الشيخ صادق (آغا نيري) طالباً سرعة إرسال مار اسحق خنانيشوع مطران روستاقا لغرض رسامة بنيامين إلى الدرجة البطريركية.
وصل المطران خنانيشوع إلى قوذشانوس يوم 10 نيسان 1903. في مساء يوم قبل الرسامة ظهرت مجموعة من الرجال المسلحين على قمم الجبال المغطاة بالثلوج مقابل قوذشانوس وظن الناس أنهم رجال من تياري السفلى مرسلين من قبل نمرود لمنع رسامة البطريرك. وتم على وجه السرعة إرسال بعض المسلحين لتحري الأمر ولكن ظهر أنهم رجال من قبيلة ديز قادمين لمساندة ودعم رسامة بنيامين.
تمت رسامة مار بنيامين إلى السدة البطريركية لكنيسة المشرق النسطورية في كنيسة مار شليطا في قوذشانوس صباح يوم الأحد 12 نيسان 1903، من قبل مار اسحق خنانيشوع ميطرافوليط روستاقا يعاونه بعض الكهنة والشمامسة بدون حضور أي من رؤساء العشائر الآشورية المستقلة في تياري وحكاري عدا تياري العليا وذلك نتيجة المصاهرة كما مر ذكره.
عاد آل نمرود من الموصل إلى قريتهم قوذشانوس لكن العلاقة بينهم وبين البطريرك الصغير ذو الستة عشر ربيعاً ظلت متوترة. وعلى أعتاب نشوب الحرب الكونية العظمى، ازداد تردد ضباط استخبارات الدول الأجنبية إلى البطريركية في قوذشانوس وتوددهم إلى البطريرك الشاب … وهكذا أصبحت نوايا المار شمعون وعائلته وسكان قرية قوذشانوس مكشوفة وواضحة فتركوا قريتهم ملتجئين إلى عشيرة ديز ولم يبقى فيها إلا نمرود ابن عم المار شمعون وعائلته والذي رفع العلم التركي على داره لأنه أعلن ولائه للحكومة التركية.
و “في 19 أيار سنة 1915 قتل نمرود وابنه شليطا وابن أخته يوناثان وستة من أولاد إخوته في قرية قوجانس على يد زمرة من عشائر تخوما وباز وديز وبإيعاز من البطريرك مار بنيامين وبتحريض من سرمة خانم، ولقد كان مار شمعون بنيامين قد غادر قوجانس إلى ديز حيث أوعز من هناك إلى أربعين رجلا من العشائر المذكورة وبقيادة نفر من الذين يعتمد عليهم في تنفيذ أوامره الخاصة بالذهاب إلى قوجانس وقتل جميع الذكور من عائلة أل نمرود أولاد عمومته بحجة أن نمرود رفض الانصياع إلى أوامره بمعاداة الدولة العثمانية ولم يترك قريته قوجانس رافعا العلم التركي على داره كمواطن تركي . ويعتقد انه اراد القضاء على نمرود قبل أن تنتشر أفكاره تلك بين العشائر الأثورية فتبقى على ولاءها للحكومة. في الوقت الذي كانت رسالة المارشمعون بنيامين إلى الروس قد ضبطت من قبل الأتراك مما يجعله يتحمل المسؤولية لوحده أمام الدولة العثمانية من جهة ويخفق أمام أصدقائه الروس والإنكليز إذا لم ينجح في تنفيذ تعهده في تحريض الأثوريين على الوقوف ضد الدولة التركية من جهة أخرى. فتحرك هؤلاء الأشخاص من ديز إلى قوجانس وعند وصولهم إلى دار نمرود قالوا له بأنهم جاءوا ليأخذوهم إلى عشيرة ديز لمصالحتهم مع ابن عمه المار شمعون بنيامين. فأجاب نمرود الذي كان مريضا وطريح الفراش بانه سيلبي طلبهم بكل ترحاب وامر بإعداد الطعام والفراش لهم حتى اليوم التالي لكي يتسنى لأفراد عائلته تهيئة أنفسهم للسفر. وفي اليوم الثاني طلب هؤلاء الرجال الاجتماع بال نمرود في دار المار شمعون المتروكة قبل مغادرتهم قوجانس. وعند دخولهم تلك الدار ألقيَّ القبض عليهم وشدَّت أيديهم وأرجلهم بالحبال وجرى تعذيبهم بوحشية. فقال لهم أل نمرود؛ (إذا كان هذا هو شكل المصالحة التي تنوون إجراءها نسترحمكم أن تسمحوا لنا بثلاثة دقائق فقط لنؤدي فيها صلاتنا الأخيرة) إلا أن هؤلاء الرجال القساة فتحوا نيران بنادقهم على أولئك الشبان المغلوبين على أمرهم واردوهم قتلى يتخبطون في دمائهم في نفس الغرفة التي كان المار شمعون يجلس فيها سابقا. ثم عادوا إلى دار نمرود وقتلوه في فراشه كما قتلوا يوناثان ابن شقيقته على السلم أثناء نزوله من الطابق الثاني بسبب سماعه صوت البنادق. وبعد ذلك ربطوا كل شخصين من الباقين معا بالحبال بحجة أخذهم إلى عشيرة ديز بما فيهم شليطا ابن نمرود الذي كان شابا وسيما وقويا ومثقفا. وفي الطريق أطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعا ما عدا شليطا الذي تمكن من الهروب والاختفاء خلف شجرة في الغابة بعد إصابته بجرح بليغ في معدته. كان شليطا يضمد جرحه بقطع من ثيابه وهو يسير في الليل حتى وصل قرية ترفونس حيث كانت تسكنها خالته المسماة نابط التي سهرت عليه وحاولت إسعافه دون جدوى حيث توفي متأثرا بجراحه. وكذلك مات 28 نفرا من أفراد تلك العائلة المنكوبة من النساء والأطفال من جراء الجوع والبرد وعدم وجود من يقدم العون لهم خوفا من انهم قد يلاقون نفس المصير. وكان ضمن من هلكوا المطران أوراهم ابن أخ نمرود والذي كان المرشح الأول ليكون بطريركا بدلا من المار شمعون بنيامين إلا أن عائلة بنيامين (اسم العائلة وليس اسم قداسة البطريرك) كانت اقوى نفوذا من عائلة نمرود التي كان لها الحق الشرعي في الحصول على البطريركية حسب عُرف العشائر الأثورية لذا استحوذت عائلة بنيامين على هذا الكرسي لنفسها. فمات المطران أوراهم جوعا وعطشا حيث كان يصرخ ويطلب كاسا من اللبن مقابل ختمه الديني الذهبي الذي كان يقدر ب 14 ليرة تركية. إلا أن أحدا لم يجرؤ على مساعدته بالرغم من مرضه فمات في قرية مار أوراها على نهر الزاب، وهكذا كانت نهاية هذه العائلة المنكوبة. وبعد خمسة أيام من مقتل نمرود وأفراد عائلته جاء إلى قوجانس المار شمعون بنيامين ومعه ثلة من جنود قوزاق الروس وعدد من اتباعه فاخذوا يطلقون رصاص الفرح في الهواء ابتهاجا في الوقت الذي كانت جثث أولئك المنكوبين من أفراد عائلة نمرود منتشرة في أروقة قوجانس تنهش بها الطيور الضواري. انتهزت امرأة من أل نمرود بقيت على قيد الحياة هذه الفرصة فأخذت تهاجم المار شمعون وتشتمه بغية استفزازه ليأمر بقتلها لأنها فضلت الموت على الحياة بعد مشاهدتها لتلك الجريمة البشعة التي ارتكبت على مرأى منها. فإبادة هذه العائلة يعتقد أنها حدثت للأسباب التالية:
1. للتخلص من المنافسين على الكرسي البطريركي.
2. لإزاحة المعارضين لسياسة إقحام الأثوريين في الحرب العظمى الأولى قبل أن تسري فكرة الرفض بين العشائر.”
رابعا. – الإنشقاق الثاني – صراع توما درمو 1964-1968
في عام 1968 نشب نزاع آخر حول وراثة الخلافة لمنصب البطريرك مجدداً، وبسبب قرار البطريرك بإتباع التقويم الجديد في الكنيسة، وتغيير التقويم اليولياني إلى التقويم الغريغوري بتاريخ 28 آذار 1964، مما أدى إلى إعلان مار توما درمو متروبوليت (أسقف) كنيسة الهند التابعة لكنيسة المشرق القديمة الإنفصال عن الكنيسة الأصلية ووقف واجباته فيها، وعيّن بطريركاً على كرسي سلوقية-قطيسفون لكنيسة المشرق القديمة في بغداد بإسم البطريرك مار أدي الثاني كيوركيس، بعد خلافات كبيرة مع البطريرك مار شمعون إيشاي المنفي خارج الوطن، والمقيم في سان فرانسيسكو.
ويعود السبب الرئيسي لهذا الإنشقاق الثاني، بعد الإنشقاق الأول ليوحنا سولاقا عام 1553، إلى خبر نشرته إحدى المجلات البريطانية عن ترشيح طفل عمره يوم واحد لوراثة المنصب البطريركي، وتفصيل ذلك كما نشره موقع الكنيسة الشرقية القديمة المنشقة، كما يلي: –
” القشة التي قصمت ظهر الجمل:
في شهر آب من عام 1955 كان البطريرك مار إيشاي شمعون في زيارة إلى لندن لتفقد عائلة أخيه سرجون باشا، وكانت زوجة سرجون باشا على وشك أن تضع مولودها البكر، أجرى الصحفي الإنكليزي كانون دوغلس والذي كان صديق البطريرك مقابلة معه في مجلة (
Church Times)
ونشرت المقابلة يوم 17 آب 1955 وجاء في الفقرة الثانية من المقابلة وعلى لسان البطريرك: –
[بأنه هنا في لندن ينتظر زوجة أخيه سرجون باشا لتضع مولودها البكر لكي يعمده ويضع عليه اليد ليكون البطريرك المقبل لهذه الكنيسة حسب الموروث، لأن البطريركية في كنيسة المشرق النسطورية قد أصبحت وراثية في عائلة المار شمعون لقرون خلت].
وجاء في الفقرة التي تلتها بأن زوجة سرجون باشا وضعت مولودها البكر أنثى وليس ذكراً كما كان متوقعاً. وضع أحد الآشوريون المقيمون في لندن نسخة من هذا العدد لمجلة
(Church Times)
في مظروف وقام بإرسالها إلى مار توما درمو مطران الهند، وصلت المجلة إلى الهند يوم 26 آب 1955 ولدى قراءتها انفجر المطران غضباً كالبركان الهائج وكتب مقالة ضد رسامة طفل عمره يوم واحد ليكون بطريركاً للكنيسة تحت عنوان “بطريرك من بطن أمه” نشرنا صورة المقال في الحلقة الماضية. قام شخص بإرسال نسخة من المجلة مرفقة مع رد المطران مار توما درمو يتساءل فيه [هل تعتقد قداستكم بأن كنيسة المشرق تسمح رسامة طفل عمره يوم واحد بطريركاً لها؟ هل هناك قانون يسمح بهذا الإجراء؟ كلا، لا يوجد هكذا قانون ولن تسمح الكنيسة به أبداً، وخاصة نحن نعيش في القرن العشرين الميلادي].
وصلت نسخة من المجلة مع رد المطران مار توما درمو إلى يد البطريرك يوم 5 أيار 1960 وشعر البطريرك بأن هذا الرد هو إهانة كبرى له واستمرت الحرب الإعلامية بين المطران والبطريرك. قرر البطريرك مفاتحة مؤمني كنيسة الهند بجميع هذه المراسلات بضمنها رسالة القس مانو أوشانا المار ذكرها.”
خامسا. إغتيال البطريرك مار إيشاي 1975
أشرنا -فيما سبق- إلى أن نظام التوارث الكنسي البطريركي قد بدأ بحادثة قتل، والغريب إنه قد إنتهى بحادثة قتل كذلك.
فآخر بطاركة عائلة مار شمعون التي تولت منصب بطريرك الكنيسة الشرقية النسطورية (الأشورية لاحقاً) وهو مار شمعون إيشاي الثالث والعشرين والآخير في هذه العائلة، قد أغتيل بشكل مأساوي حزين على يد أحد أتباعه المدعو ديفيد (داود) ملك ياقو ملك إسماعيل مساء يوم 6 تشرين الثاني من عام 1975 أمام منزله في مدينة سان هوزيه بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
وكان أيشاي الذي أنتخب بطريركا في مخيم بعقوبة للاجئين الأثوريين عام 1920 وهو بعمر 11 سنة، قد نفته الحكومة العراقية وأسقطت عنه جنسيته زمن الحكم الملكي أواخر عام 1933 بعد أحداث سميل المأساوية والتي راح ضحيتها مئات الأثوريين بعد تمردهم على الحكومة وإنتقالهم إلى سوريا بشكل غير شرعي وعودتهم إلى العراق ثانية بعد أيام قلائل.
وبعد أن أمضى مار شمعون إيشاي 53 عاما في خدمة الكنيسة الشرقية الأثورية (النسطورية) كان قد سبق وإن قدم إستقالته من منصب البطريركية إلى المجمع الكنسي (السنهودس) عام 1972، وتزوج من إحدى قريباته عام 1973، وإنعزل في بيته الجديد على ضفاف المحيط الهادىء في الولايات المتحدة. إلا أن أتباعه رأوا في ذلك خروجا على النظام الكنسي الذي إستمر لأكثر من 650 عاماً، فجرى إغتياله بإطلاق النار عليه، وقد حكمت محكمة أمريكية على القاتل عام 1976 بالسجن مدى الحياة، فيما أطلق سراحه بعد عدة سنوات ليقيم في كندا في الوقت الحاضر.
المبحث الخامس
نهاية نظام ناطر كرسيا
لقد قاد التزمت بهذا النظام غير المقدس، والذي لا يُعَد من قبيل العقائد المقدسة داخل الكنيسة، وإنما من قواعد الإدارة فيها، والتي هي في جوهرها قواعد تنظيمية لتسير شؤون الكنيسة مؤقتا، والتي يجوز الاتفاق على مخالفتها أو تعديلها أو حتى إلغاءها، إلى حوادث مؤلمة. وهذا النظام أملته ظروف سياسية معينة، وكان من المفروض أن يلغي العمل به بمجرد زوال تلك الظروف، إلاَّ أن التدخلات الخارجية، وفي مقدمتها التدخل البريطاني نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ونظرا لما يحققه هذا النظام من مصالح شخصية للبطريرك وعائلته التي إستقرت أخيراً في أميركا وبريطانيا فقد جرى التشبث بهذا النظام رغم كل الإنتقادات والإنقسامات التي شهدتها هذه الكنيسة. وكان للتمسك الأعمى بهذا النظام نتائج مأساوية منذ البداية وحتى النهاية.
وقد ذهب المطران يوسف بابانا إلى أن نظام التوارث البطريركي هذا قد إنتهى عام 1803 بوفاة آخر البطاركة الشمعونيين بالوراثة وهو إيليا الثالث عشر إيشوعياب (1804-1778). وكتب بهذا الصدد يقول:
“وهكذا إنطوت الصفحة الأخيرة لعشيرة بني عمون أي عائلة بيت الأب التي برز منها عشرون بطريركاً، أولهم طيماثاوس الأول سنة 1318م وأخيرهم يوحنان هرمز 1760-1837م.”
والواقع أن يوحنان هرمز هو شقيق البطريرك إيليا الحادي عشر الذي توفى في 1778م، وتنافس على الكرسي البطريركي يوحنان وإبن عمه مار إيشوعياب الذي كان ناطر كرسيا الذي إنتزع المنصب لنفسه عام 1804. مما حدا بيوحنان أن ينتقل إلى الكثلكة في كنيسة القديسة مسكنته بالموصل عام 1826، فجرى تعيينه مطرانا على الموصل، ثم معاونا بطريركيا، وأخيرا أصبح بطريركا للكلدان عام 1829حتى تاريخ وفاته في 1837.
وللتاريخ فإن نظام ناطر كرسيا قد توقف منذ وفاة البطريرك مار شمعون روئيل في 29 آذار 1903، حيث لم يكن قد رشح شخص لهذا اللقب إلى قبل وفاته ب 14 يوما فقط. ففي 15 من ذلك الشهر كان قد رسم بنيامين مطراناً.
وحتى تنصيب بولص شقيق بنيامين بطريركا بعد مقتل أخوه عام 1918 في أورميا قد تم إختياره وهو لم يكن حاملا للقب ناطر كرسي (إي المرشح لحفظ الكرسي البطريركي) والذي يعلن منذ صغره او قبل فترة مناسبة على الأقل، ولكن ظروف الأثوريين في الحرب العالمية الأولى أرغمتهم على ذلك.
وأخيراً، فإن إيشاي قد أختير بطريركا وهو لم يكن ناطراً للكرسي البطريركي أيضا، وجرى تنصيبه في مخيم بعقوبة للاجئين عام 1920 بعد وفاة بولص. ولم يكن هناك إجماع على هذا التنصيب طيلة 53 عاما، حتى مقتله.
وجاء حادث إغتيال البطريرك مار شمعون إيشاي بمثابة الضربة القاصمة التي أصابت نظام الوراثة البطريركية المشرقية في مقتل، بحيث لم يجري أي توريث بعدها. وجرى الحديث ثانية حول عدَّة مسائل، هي: –
1. جدوى هذا النظام في ظل الأوضاع الجديدة وتشتت أتباع الكنيسة الأثورية في بقاع المعمورة، وغدا من الصعوبة على البطريرك إدامة التواصل بينهم كما في السابق، أثناء وجودهم مجتمعين في جبال حكاري بتركيا، يوم كانت القرية الأثورية لا تبعد عن الأخرى سوى مرمى حجر، والناس تتواصل فيما بينها عدة مرات يوميا. أما الأن، فقد إنعزل البطريرك الأخير في ولاية كاليفورنيا بأمريكا، في حين توزع اتباعه في ولايات أخرى مثل شيكاغو ومشيغان، وتناثروا في دول أخرى مثل إيران وسوريا ولبنان وروسيا وكندا وأستراليا وغيرها.
2. بمغادرة الأثوريين لمعاقلهم في حكاري ونزوحهم إلى أورميا في إيران، إنفرط عقدهم، وإنطلق كل رئيس عشيرة (ملك) يقيم علاقاته الخاصة مع أي طرف أجنبي يختاره ويقدم ولائه هو وعشيرته له، على غرار ما فعله البطريرك وأسرته. وهكذا فقد إنضم بعضهم للروس وآخرون لبريطانيا، ومثلهم لفرنسا، وغيرهم لأمريكا. وهكذا تعددت الولاءات وصارعت فيما بينها بحيث فقد البطريرك بريقه وسحره وتأثيره السابق على أتباعه، وتلاشت شيئا فشيئا الكاريزما الدينية للبطريرك.
3. يضاف إلى ذلك، أن إتخاذ الكنيسة صفة كنيسة محاربة (مقاتلة) منذ إعلانها الإنضمام إلى جانب دول الحلفاء في الحرب الكونية (العالمية الأولى) عام 1915، قد خلق لها أعداءً كثيرين، وجلب لها مآسي لا تعد ولا توصف، وقدم تضحيات كثيرة على أمل تحقيق وعد بريطانيا لها بإقامة دولتها المنشودة. فقد وضعت الكنيسة نفسها في موضع مقاتلة العثمانيين والأكراد والعرب، وقاد تحركاتها وكان في مقدمة جحافلها هذه بطريركها الشاب آنذاك مار شمعون بنيامين (1903-1918) الذي أغتيل غدراً على يد إسماعيل آغا المعروف ب (سمكو) زعيم قبيلة الشكاك الكردية.
4. وأخيرا، فإن هذه الكنيسة التي إنعزلت منذ القرن الرابع عشر، شعرت أن الوقت قد حان لإنفتاحها على العالم أولا، وعلى الكنائس الأخرى ثانياً، وفي مقدمتها الكنيسة الكاثوليكية وغيرها. وقد جرت محاولات تقارب عديدة لاحقاً إلا إنها لم تكلل بالنجاح تماما. وقد قام خلفاء مار شمعون بذلك التقارب، فقد “بدأ البطريرك دنخا الرابع خننيا بالحوار الكنسي مع الكنيسة الكاثوليكية أوائل الثمانينات من القرن العشرين على أمل إزالة الخلاف اللاهوتي التاريخي بين الكنيستين فأبدى البابا يوحنا بولس الثاني موقفا منفتحا بالنسبة لكنيسة المشرق، والتقى رأسي الكنيستين عدة مرات نتج عنها بدء حوار بينهما سنة 1984 توج بتوقيع وثيقة الإيمان المسيحي المشترك بين يوحنا بولس الثاني ودنخا خننيا في 11 تشرين الثاني 1994 والذي نص على الاعتراف المتبادل بصحة إيمان الكنيستين. تلا هذا الإعلان جملة من الاجتماعات سعت للوصول إلى صيغة موحدة للاهوت السوتريولوجيا.” وأعقبتها زيارة خلفه البطريرك الحالي للأشوريين مار كيوركيس الثالث، الذي إلتقى البابا فرانسيس في الفاتيكان بتاريخ 17/11/2016.
وهكذا فقد أنتخب أول بطريرك خليفة لهذه الكنيسة من خارج عائلة أبونا عام 1976 وهو المطران دنخا خننيا، مطران طهران لكنيسة المشرق الأثورية، الذي أصبح بطريركاً لها باسم مار دنخا الرابع في عام 1976. وجرت مراسيم تنصيبه في غرب لندن في كنيسة القديس برنابا ليصبح قداسته الخليفة 120 لكرسي ساليق وقطيسفون، ويبدو من ظروف التنصيب أن بريطانيا كان لها دور في إضفاء الإسم الأشوري على هذه الكنيسة، لا سيّما وأن بريطانيا كانت أول من نشر هذا الإسم على هذه الكنيسة وشعبها ، وإستخدمتهم كمقاتلين باسم
(الحليف الأصغر The smallest ally )
لتحقيق غاياتها وتنفيذ مخططاتها بداية القرن الماضي، ثم تركتهم وتنكرت لوعودها لهم في الاستقلال وتكوين دولتهم، وأفقدتهم معقلهم الحصين في جبال هكاري، وخسروا أراضيهم ومزارعهم ومقتنياتهم وكل مدّخراتهم، وفقدوا أكثر من ثلثي شعبهم، ومن مجموع 200 الف شخص، وصل إلى مخيم بعقوبة للاجئين 50 الف فقط. وظّل الأشوريون يصرخون ب “الخيانة البريطانية للأشوريين” طيلة قرن كامل. ويبدو أنهم هذه المرة وجدوا في بريطانيا الحليف القديم خير نصير لهويتهم القومية مجدداً.
ولأول مرة منذ أكثر من ستة قرون من تاريخ هذه الكنيسة يغيب إسم مار شمعون كلقب مرادف لصيق بإسم بطريرك هذه الكنيسة. كما إضطرت الكنيسة تحت ضغط أتباعها المتطرفين في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير إسمها الرسمي من (كنيسة المشرق القديمة) إلى (كنيسة المشرق الأشورية).
– خاتمة وإستنتاجات
إن تاريخ كنيسة المشرق يضم في طياته أحداثاً أليمة وصراعات دموية وإنشقاقات عديدة، رغم إن العديد من تلك الأحداث والقصص ظلت مخفية عن أعين العامة، وبقت طي الكتمان، ولم يعرف بها غالبية المسلمين المنشغلين بصراعاتهم الكثيرة منذ وفاة محمد سنة 11 للهجرة حتى يومنا هذا، بعد 1428 سنة من ذلك التاريخ.
ويمكن إستخلاص بعض الإستنتاجات من جراء تطبيق هذا النظام الوراثي الكنسي طيلة ستة قرون، وهي: –
1. إن هذا النظام أملته الحروب التي سادت المنطقة طيلة تلك الفترة.
2. إن هذا النظام قد أثر تأثيراً سلبياً على روحية هذ الكنيسة العريقة، وحولها إلى مؤسسة تهتم بمصالح شخصية وفئوية ضيقة.
3. كثرة التدخلات الأجنبية التي تعرضت لها الكنيسة بعد توافد بعثات تبشيرية متصارعة فيما بينها منذ منتصف القرن التاسع عشر، مما قاد إلى تنامي الصراعات داخل تلك العائلة وأقطابها. فمنهم من سعى لتقويض النظام ومنهم من بل كل جهد لإبقائه.
4. لعبت المصالح الشخصية دورا في التنقل من النسطرة (المذهب النسطوري) إلى الكثلكة (المذهب الكاثوليكي)، مما عجل بنهاية هذا النظام.
5. لعبت المصالح السياسية للدول العظمى آنذاك على جلب المآسي والويلات على هذه الكنيسة التي سرعان ما وجدت نفسها تتعامل مع قضايا سياسية خطيرة. أدت إلى خسائر مادية وبشرية كبيرة، ودفع العديد من البطاركة حياتهم ثمناً لها.
وقد إنطبعت الطوائف المسيحية الشرقية على إختلاف مذاهبها وكنائسها التاريخية بطابع بيئتها الإسلامية، وهذا ما أدركه الغرب منذ زمن بعيد، فإستثمروا قدراتهم القتالية المجانية مقابل وعود كاذبة. وعلى الرغم من مظاهر التودد والمحبة الزائفة التي يتبادلها رؤساء تلك الطوائف، إلا أن خلافاتهم ظلَّت عميقة، لكنها لا تكاد تذكر بسبب إنعدام طابع العنف في معظمها، وهي في كل الأحوال تخلف آثاراً نفسيةً عميقة الآثر، وإنقساماً لانهاية له. وهذا ما حدا بأحد أوائل المبشرين الأمريكان في العراق (روجر كريغ كامبرلاند) إلى وصف ذلك في مذكراته غير المنشورة عام 1930 بقوله: “الطوائف المسيحية المختلفة، هي من بقايا الكنيسة القديمة، وأحدهم يودِّع الآخر إلى الجحيم بحفاوة بالغة، ونحن كغرباء، إذا ما إرتبطنا بصداقة خاصة مع أي فئة منهم، فإن ذلك يعني بأننا لسنا أصدقاء للبقية أجمع. ففكرة الوقوف على الحق، بغض النظر عن أية فئة أو مجموعة، هي مسألة فوق إدراك العقل المحلي لأية ملَّة”.
د. رياض السندي
كاليفورنيا في 15 آذار 2018