نادين البدير: ابحث عن الملل

الراي

فيما مضى كتبت (احلم. احلم. احلم)

أجمل شيء بالوجود الانساني يتحول بالثكنات المتأخرة لفعل قاس، لأقسى ممارسات تعذيب النفس. في عرفنا: أن تحلم يعني أن ترفع راية الحرب وتصارع بقية حياتك بمحاولات نضالية لتحمل مسؤولية قرارك الأول: قرار الحلم.

يومها أرسلت لي سيرين تسألني:

هل فعلاً يجب الاختيار بين السعادة التقليدية أو أن أكون سعيدة بقدرتي على تحقيق الأحلام؟ هل هذا هو الواقع؟

وكنت كتبت بأن السعادة التقليدية أسهل. فلكي ترتاح، احلم كالبقية. اتبع وصفة السعادة الدارجة، وانس أن تتجاوز حدود المرسوم والمنصوص عليه. كن كما النص لا كما تريد أن تكون.

لنسأل الحالمين السابقين الذين تقاعسوا واتبعوا وصفة السعادة العربية الوهمية فقمعوا الذات: هل أنتم حقاً سعداء؟

أعرف كثيرين (كانت) لهم أحلام. لكن منطقيتهم فرضت عليهم الانضمام للقطيع والالتصاق أكثر فأكثر بالعجين. داخل العجينة المجتمعية الكبرى تمحى الشخصية مثلما يمحى الفكر الفردي، وتصبح الحياة مجرد حركات روتينية مكررة، أما الأحلام فليست أكثر من منام ليلي مزعج، تستيقظ فجراً فزعاً من حلم يتبعك من سنين. تتذكر أنك كما النص لا كما تريد أن تكون. تستعذ من الشيطان وتمارس فوراً طقسك اليومي قبل أن يغالبك جنونك القديم. تنغمس بالعجين الكبير كل صباح لئلا تسرح ولا تنسى أنك مسير ولست مخيراً.

في البدايات يظهر أمامك سؤال أحمق كبير:

معقول أني الوحيد الصح والبقية كلها خطأ؟

سيرين ما زالت في البدايات. فهل نقدم لها النصح. أم نترك بداياتها تتشكل كما يراها الكون لا كما يراها المجموع. هل أقول لها التصقي بالعجين، وكوني أحد مكونات الجهل. أو اسرحي واحلمي وتألمي واستمتعي بآلام الانجاز.

ذات مرة تسائل ميلان كونديرا: هل السعادة هي في الدوائر والتكرار أم في الخط المستقيم؟

الخط المستقيم يعني أن تسير قدماً للأمام دون الالتفات ودون تكرار الأشياء. الخط المستقيم يعني أنك بحالة جديدة كل يوم.

فاذا كنا ندور وندور ونتكرر لسنين طويلة فهل تتحقق سعادتنا؟ ألهذا يعيش الكلب بحالة أبدية من السعادة. لأنه يمارس الألعاب اليومية نفسها، يلاحق صاحبه بالطريقة ذاتها. لا يمل.

لكننا بشر ومنحنا هبة الملل، كي نسأم من الأشياء ونعلن حاجتنا المتواصلة للتغيير. هذه الحاجة هي المولد الأول للابداع. الملل برأيي يخلق الحضارة وان لم تكن موجودة. خاصة هنا. حيث ماتت كل حضارة مرت من هنا.

كله لن يتم حتى تسرحي يا سيرين وتحلمي ويصيبك الملل.

أمامك خياران أحدهما حياة الدوائر والتكرار بلا كلل مثل كارنينا كلبة تيريزا برواية كونديرا. والآخر طريق مستقيم يسأم من الدوران والروتين، لكي تنجو فيه عليك أن تحلم، فتبدع وتخلق أشكالاً جديدة وتكمل المشوار.

هل يعقل أنك الوحيد الصح والبقية كلها خطأ؟

نعم. لا تخاف فكلهم مخطئون. انظر من هذه الزاوية: لو كان المكان يعج بالفوضى والفساد وانعدام العدالة وتردي الفكر والأدب والفن والعلوم والأبحاث، وبحكم العالم أجمع لم يصل مجتمعك للطور الأول من النمو بعد. فهل ستعيد سؤالك الأحمق؟ أم ستسارع لانقاذ بلدك؟

لا تعتبر ثورتك بوجه السلطة معجزة. فالانجاز الأصعب هو ثورتك أمام مجتمع تبلد وانتفت منه صفة الملل.

أما الفرح الحيواني (أساس تأخر أي فرد) ففي رؤية الدنيا من منظار صغير ضيق العدسة. الكون وفقها لن يتجاوز المكتب الذي تجلس عليه وأحلامك لن تتجاوز زواجاً وأطفالاً وأين أقضي صيف العام. لكن الموجودين الحقيقيين على الأرض هم من تتمدد مناظيرهم مع الكون المتمدد. الأرض بالنسبة لهم صغيرة، وأسرار الكون عظيمة ومطلبهم حلها كلها. لذا فالانسانية تحتم علينا الملل والخلق والشقاء. ليس كلامي وحدي بل هو من الوحي الالهي أيضاً

«لقد خلقنا الانسان في كبد»

لكنه شقاء ممتع. متعته بشعور يراودك كلما حققت شيئاً يثبت أنك حر وأن وجودك يترتب عليه أثراً. ماذا يستفيد الكون من تكرارك لفعل يمارسه بقية الهالكين بالعجين. يمارسونه بنفس واحد وفكر واحد؟ ماذا يستفيد الوطن من بقائك داخل الدوائر؟ اخدم الكون. اخرج واسلك خطاً مستقيماً ولا تنس أن تبعث لي بآرائك الأولية.نادين البدير – مفكر حر؟‎

About نادين البدير

كاتبة صحفية سعودية , قناة الحرة
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.