زمان يا جماعة الخير كانت شقتنا كلها عبارة عن غرفة واحدة,والمرافق الصحية كانت بعيدة جدا عن بعضها أي ما يزيد على خمسة وعشرين مترا بين الغرفة وبين المرحاض, وخمسةٍ وعشرين مترا آخر بين الغرفة وبين المطبخ,وكنا نمارس كل طقوسنا اليومية في نفس الغرفة, ففيها ولدنا وفيها ترعرعنا وفيها تمدد أبي ونام نومته الأخيرة والزبد يخرج من فمه, وكنا نأكل فيها ونشرب, ونستحم من غبار الشوارع,وننام فيها, ويأتي إلينا أولاد الجيران ويلعبوا معنا فيها , كنا نركض وكنا نلف وندور حتى ندوخ من كثرة اللف والدوران, وكنا نعقدُ فيها كل اجتماعاتنا السنوية والأسبوعية واليومية وكنا نرسم فيها الخطط اليومية والمستقبلية لنا جميعا أنا وأخواتي الأربع وأخي الوحيد, فأنا ما زلت أذكر كيف كنت أتمدد وأنام في الشباك(النافذة) الغربية وأغفو وأنا أحلمُ بأن أصبح رجلا له زوجة وأولاد ويرضي أمه على حساب زوجته ويلبي لها كل متطلباتها ويعوضها عن الأيام السوداء,وكنا نمارس في نفس الغرفة طقوسنا الدينية اليومية, ولكن اليوم الوضع قد اختلف جدا, فالأحلام التي حلمت فيها لم أعد أنا مصدقا لها أو أنني انقلبت على نفسي وعلى طفولتي وخططي الجهنمية, فبدل أن أرضي أمي على حساب زوجتي تجدونني اليوم في كل لحظة وفي كل مناسبة أرضي زوجتي على حساب أمي, وأسمع كلام زوجتي بدل أن أستمع لكلام أمي, وأعتبر كلام زوجتي أوامر يجب تنفيذها بالحرف الواحد وأعتبر كلام أمي مجرد كلمات تنطق فيها عجوز ليست من العصر الحاضر وليس لديها خبرة زوجتي في الحياة, أنا صريح جدا ولا أجامل, وصحيح أنني مستمسك بأمي وكأنها العروة الوثقى التي لا انفصام لها وحين أدخل إلى البيت أسأل عنها قبل أن أسأل عن أولادي وأقبل يدها قبل أن أجلس مع أولادي, ولكن الحياة داخل الغرفة الواحدة كانت جميلة جدا,وكانت أمي لا تصدق ما أقوله لها وكانت تقول لي(الله يحييني ويوريني يا ميمتي),كنت أقسم لها بالعلي العظيم أنني سأقتل زوجتي بالسكين إذا رفضت لي أمرا, كنت أقول-حين أشاهد أمي وهي تتعب في الطبخ والغسيل والكناسة وشطف الغرفة-والله غير أطلقها إذا ما باست كندرتك وطبخت وغسلت وشالتك على (راسها) رأسها, وفعلا شو بدكوا بطولة السولافه ! صدقت توقعات أمي ولم أصدق أنا مع توقعاتي.
وكانت تتسع الغرفة لكل أبناء الجيران والأقارب, وكنا نتعلم في تلك الغرفة المسقوفة من الطين والرماح,كنا نتعلم القراءة والكتابة وسقف الغرفة في الشتاء يغمرنا ب(الدلف) أي حبيبات المطر التي تسقط من تشققات القُصيب, أما اليوم فالوضع مختلفٌ جدا,أولادنا أحيانا لا يدرسون بحجة المزاج السيئ للبيت, كنا نلعب في الغرفة وعددنا يزيد على خمسة عشرا ولدا وبنتاً, ولكن اليوم لدينا بيت كبير جدا بمساحة هائلة ومع ذلك نشعر به وكأننا في قبر, فهو لا يتسع ولا حتى لأربعة أولاد, فأولادي اليوم مرة نطردهم من البيت طوال النهار ونحن متضايقون جدا منهم ومن ألعابهم, ونجبرهم على اللعب خارج المنزل بحجة أن المنزل ضيق ولا يتسع لهم علما أنه مكون من أربعة غُرف وصالونات عدد2 ومطبخ وحمام ومرة يطردوننا هم من البيت كوننا مزعجون ولا تساعدهم أحاديثنا على مشاهدة أفلام الكرتون أو متابعة الدراسة, كنا أيام كانت شقتنا غرفة واحدة نذهب إلى المرحاض ونسير مسافة خمسة وعشرين مترا,واليوم المرحاض داخل المنزل ويشعر الأولاد بمسافة بعيدة بينهم وبينه, وينهضون بصعوبة من فراشهم للذهاب إلى المرحاض بحجة أن المرحاض بعيدٌ عنهم,إنهم يرون المسافة بين المرحاض وغرفة الجلوس أطول من المسافة بين الأرض وكوكب المريخ ,وإذا كلفنا أحدا منهم بأن يحضر صحنا من المطبخ أو خاشوقة أو كيسا من الخبز,فورا ينظر في وجه أخيه ووجه الذي قال وكأنه يقول: لتذهب أنت أنا متعبٌ جدا,ولم تكن عندنا غسالة وكانت أمي تغسل على يديها الملابس والأغطية و(الخِرق) أي الفوط ,ولا تقول أخ في وعاء يقال له(لَجن أو لَقن) مصنوع من الحديد أو من البلاستيك, واليوم لدينا غسالة فُل أُتوماتيك تقوم وحدها بأخذ المساحيق وتسخين الماء ,وبح الغسيل,وتصريف المياه ,ومع ذلك تتعب زوجتي جدا من الغسيل,وفي كل غسلة تنظر للأعلى وتقول:(آخ انكسر ظهري).
وكان أقرب هاتف يبعد عن منزلنا ما يقرب من 2000متر,أي 2 كيلو متر ,وكنا نذهب في سباق ماراثون ونعد الوقت ونحسبه بالدقائق حتى نصل إلى الهاتف لكي نتحدث مع أقربائنا في مدينة الزرقاء ومع عمي الوحيد في السعودية عليه رحمة الله, كنا نلهث ونتعرق حين نسمع بأن أحدا منهم مريض أو حزين أو كئيب ,نركض إلى سماعة الهاتف للاطمئنان على صحة ذوينا وكانوا هم فعلا يبادلوننا بنفس المشاعر والأحاسيس فإذا مرض أحد منا يتصلوا ليسألوا عن الصحة وعن كيف الحال؟ وعن كيف الأحوال؟,ويزيدون في الأسئلة مثل:شو طابخين؟ شو عاملين؟ كيف البرد عندكم هذي السنة؟من الذي مات ومن الذي طاب؟ ومن نجح في امتحان الشهادة الثانوية ومن الذي رسب؟وكم عصرتم من الزيتون زيتا؟ هذا ونصف أهل القرية لديهم ساعي بريد واحد ومقسم تلفون يدوي واحد ويا دوب يمكن عشرة خطوط هاتف لا أكثر ولا أقل لكل أهل البلد, وكنا في موسم قطاف العنب نقطفه من الدالية الكبيرة أمام اغرفة ونقوم بتوزيعه على الجيران مجاني, وحين نطبخ يمسك كل واحد منا بصحن ليذهب إلى بيت الجيران لكي نطعمهم مما طبخناه وكانوا هم يبادلوننا بنفس المشاعر, أما اليوم فأنا تمر عليّ عدة أيام ولا أملك في جيبي ثمن الخبز ومع ذلك لا أحد يسأل عني ولا أحد يطعمني ولو مت من شدة الجوع لقالوا:هذا نصيبه,ولن نعرف في حقيقة الأمر ما يجري اليوم في حارتنا ونشعر بأن المسافة بين كل بيت وبيت ما يقرب من 100 مائة كيلو متر على أقل تقدير, فكثيرون هم أمثالي ولا نعلم إن ناموا جياعا أو ممتلئة بطونهم بالطعام, انقطعت الأخبار بيننا وبين الجيران, وأذكر آخر مرة دخلت فيها على بيت جاري وأكلت من طعامه كانت هذه الحادثة تقريبا إن لم تخنِ الذاكرة قبل عشر سنوات, وآخر مرة دخلَ فيها جاري وأصابت يده ما أصابت من طعامي يمكن إن لم تخنِ الذاكرة قبل خمس سنوات مضين على مضض, واليوم لا أدخل بيت جاري لأتذوق طعم قهوته أو فنجان شايه, ولا أحد يعرف ما هو طعم القهوة في بيتي بسكر أو بدون سكر,الوضع اليوم اختلف جدا فلدينا في منزلنا أكثر من سبعة خطوط تلفون وأقاربنا الذين يسكنون في المدن المجاورة لنا لديهم نفس الكمية من الهواتف بل ويزيدون علينا بسبعة أخرى تضاف إليهم,ومع ذلك لا أحد يسأل عن أحد,لا أحد يتصل بنا ليسأل:مين مات ومين طاب؟مين مرضان ومين صحيح ومين عليل؟ومين خطبت ..ومين اللي تزوجت ومن هي التي طُلقت,اليوم أيضا يتخرج الأولاد والبنات من الجامعات ولا أحد يسأل عنهم, اليوم لا أحد يسأل عن أحد,ولا أحد يحزن لحزن أحد ولا أحد يطرب لحزن أحد, كانت شقتنا غرفة واحدة فيها جهاز راديو واحد وتلفزيون أبيض وأسود وكانت عدد المحطات ثلاث محطات وهن:عمان,إسرائيل,سوريا, وكنا ننتظر فيلم إسرائيل يوم الجمعة بفارغ الصبر, وكنا نجلس أمام الراديو في تمام الساعة السادسة والنصف لنستمع لأم كلثوم وهي تغني على المحطة الإسرائيلية,وكانت جدتي وأمي أيضا تمنعانا من مشاهدة التلفاز لمدة أربعين يوما إذا مات جارٌ لنا, وفي أصعب الظروف كانت أمي تسمح لنا في تلك الظروف من مشاهدة التلفاز ولكن مع احتياطات أمنية مشددة جدا وذات حساسة عالية, كانت تقوم بعد عشرين يوما من حالة الوفاة وتسمح لنا بمشاهدة التلفاز ولكن بتغطية الشبابيك تغطية كاملة وتطفئ أضواء الكهرباء وتنبهنا بأن لا نقول أمام الجيران بأننا شاهدنا التلفاز,فكان هذا يعتبر جُرما أخلاقيا تعاقب عليه معايير الأخلاق السائدة في نظامنا البيئي فإذا عرف الجيران أننا شاهدنا التلفاز قبل أن تمر أربعون ليلة على وفاة المتوفى,نعم,كانت النساء والأولاد في الحارة يرموننا بنظرات فيها كل الإهانة والاحتقار, أما اليوم شقتنا كبيرة ولا أحد يستحي من أحد ويموت جارنا والتلفاز شغال ليلا ونهارا,بل والعرس يكون بجانب بيت المتوفى والتهاليل والزغاريد وأصوات الموسيقى تصدح من مكبرات الصوت وإطلاق الألعاب النارية,ولا أحد يخجل من نفسه أو يراعي ظروف جيرانه,وكبار السن يأخذون نفسا عميقا وهم يقولون(اللي استحوا ماتوا).