مثلما لا يمكن لأحد أن ينكر أن أكبر رؤوس الأموال في العالم تتركز بيد اليهود , كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر فضل ( العلمانيين ) اليهود في بناء حياة العالم المعاصرة , في الفلسفة والأدب والفن والتجارة وعلم النفس والسياسة , وفي مختلف مناحي الحياة , وهذا ليس عائد الى كونهم ( شعب الله المختار ) كما يدعون .. ولكن الى جهد الغالبية منهم ومثابرتهم في مختلف مناحي الحياة أكثر من غيرهم من بقية البشر .
الكتاب الذي سأعرضه لكم اليوم عمره 70 عاماً , لأنه صدر عام 1939 مؤلف الكتاب هو عالم النفس الجليل ( سيگموند فرويد ) ويقع الكتاب في 130 صفحة من قطع المتوسط الصغير , وبسببه عانى فرويد من مختلف أنواع الإنتقادات التي كادت أن تحط من شأن نظريته الرائدة في التحليل النفسي .
قبل أن ندخل الى عالم الكتاب دعونا أولاً نتعرف على من هو سيگموند فرويد , وقد يبدو من السخف الحديث عن رجل هو أشهر من نار على علم … ولكن لا بأس من التعريف به لمن لا يعرفه .
ولد سيگموند فرويد يوم 6 مايس 1856 لعائلة يهودية أشكنازية نمساوية يعود أصلها الى المنطقة المحصورة بين غرب أوكرانيا وجنوب شرق بولندا . وكان الإبن البكر لتاجر صوف أنجب عداه سبعة أبناء آخرين . كان يبدو عليه الذكاء منذ طفولته ولهذا عامله والداه معاملة مختلفة عن جميع أشقائه الآخرين , ورغم فقرهما إلا أنهما ضحيا بأشياء كثيرة من أجل تعليمه تعليماً جيداً .
بسبب الأزمة الإقتصادية التي وقعت خلال عام 1857 خسر الوالد تجارته , فإضطرت العائلة الى الرحيل الى لايبزگ وبعدها إستقرت في ڤيننا .
إنتسب فرويد الى الدراسة عام 1865 كطالب خارجي وتخرج منها عام 1873 يإمتياز مع مرتبة شرف . ثم إلتحق بجامعة ڤيننا لدراسة الطب وتخرج منها عام 1881 وفي العام 1885 سافر الى پاريس للدراسة على يد المتخصص بالأعصاب ( جان مارتن چاركوت ) .
كان چاركوت متخصصا في دراسة الهستريا ومدى قابلية المصاب بها للعلاج بالتنويم المغناطيسي .
بعد إفتتاح عيادته المتخصصة في الطب العصبي تزوج فرويد من ( مارتا بارنيز ) حفيدة حاخام هامبورگ الأعظم عام 1886 . ثم بدأت مؤلفاته المهمة بالظهور تباعاً لتلفت النظر الى دراساته القيمة .
في آذار 1938 قامت ألمانيا النازية بضم النمسا إليها مما أضطر فرويد للرحيل مع عائلته الى لندن وكان عمره 82 سنة .
هذا الإضطهاد النازي لليهود جعل فرويد يتفكر في معنى اليهودية , ومعنى ديانة التوحيد التي دعا إليها النبي موسى عليه السلام , فكان من نتيجة ذلك أنه أصدر في العام 1939 مقالة عنوانها ( موسى والتوحيد ) التي تحولت الى هذا الكتاب أو ( الكتيب ) الذي نحن بصدد عرضه لكم اليوم .
بدأ فرويد بكتابة ( موسى والتوحيد ) عام 1934 ، وأعاد صياغته عام 1936 ، كتب المقالين الأولين منه بشكل موجز ، ثم نشرت النسخة النهائية عام 1939. وأعيد نشرها معدلة في الإصدار الذي أعده البروفيسور جيمس ستراچي 1964 .
يحتوي الكتاب على الكثير من التكرار في الكتابة ويعكس حالة فرويد الفكرية وشكوكه وتردده وقلقه إزاء المعلومات ذات الطابع العلمي التي يقدمها ، ومخاوفه بشأن إستقبال أهل ڤيننا الكاثوليك أو الجالية اليهودية لهذه المعلومات .
الكتاب يحتوي على 3 مقالات غير متكافئة الطول : ( موسى كان مصرياً ) و ( إذا كان موسى مصرياً ) و ( موسى ، شعبه ، وديانة التوحيد ) المقال الأخير يتضمن ملاحظات مكتوبة في أوقات مختلفة ، واحدة في ڤيننا قبل مغادرة فرويد الى بريطانيا ، والأخرى في لندن ، والتي تتناقض مع الأولى جزئيا , أما الجزء الثاني من المقال الثالث فيسبقه تلخيص يتضمن الكثير من المعلومات الواردة في المقالات الأولى .
في المقالة الأولى ( موسى كان مصرياً ) يبحث فرويد في الأدلة المتفقة والمتعارضة مع فرضية كون موسى مصرياً من عدمه من خلال إسمه , فهو باللغة الهيروغليفية إسمه ( رعموس ) وبعد العبور زالت عن إسمه ( رع ) المصرية التي تعني رب , وتحول إسمه الى ( موسى ) بالعربية و( موشيه ) بالعبرية .
بدأت المجتمعات القديمة بتجسيد حكايات أبطالها وملوكها وقادتها من مؤسسي الأديان والسلالات والإمبراطوريات والمدن , بحكايات وأساطير شعرية , أما ولاداتهم فتكون عادة لآباء وأمهات من أصل أرستقراطي , ولكن تلك الولادات تكون مسبوقة بصعوبات , وقد تأتي نبؤة تحذير من قدوم ذلك الطفل بفأل سيء على والديه , لذلك غالبا ما يضعان الطفل في نعش ويلقيانه في الماء , بعد ذلك يجد الطفل من يربيه سواء كان المربي حيوانا ً أم إنسان , وحين يصبح الطفل شاباً فإن أول ما يقوم به هو الإنتقام من والديه , ودون أن يدري . تختلف هذه الحكاية قليلا ً أو كثيراً ما بين شخصية وأخرى , ولدينا من الأمثلة عليها حكايات رومولوس , وسرجون الأكدي , ولدينا شبيه لها في عالم الأدب مسرحية ( أوديب ملكاً ) لسوفوكليس .
الأمر مع موسى كان مختلفاً , فقد كان هو وأهله طبقة متواضعة من ( اللاويين اليهود ) لكن العائلة التي تبنته كانت عائلة ملكية , ويرى فرويد هذا الإنحراف الكبير في القصة الأصلية هو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها جعل موسى ينتمي قلباً وقالباً الى اليهود , وليس الى الفرعون , بينما حسب رأي فرويد فإن موسى ينتمي الى الطبقة الأرستقراطية والفرعون , وهذا ما سيؤدي الى فهم الدوافع التي كانت الأساس الى عدد من القوانين التي قننها موسى فيما بعد للشعب اليهودي .
في المقالة الثانية ( إذا كان موسى مصرياً ) يعالج فرويد مشكلة : مالذي يجعل كاهناً أو مسؤولاً أو شخصاً رفيع المستوى يقود جمعاً من المتخلفين إجتماعياً الناوين على الهجرة الى خارج مصر , ثم ننسب إليه كل حكمة المصريين .. وبعد ذلك لا نعده مصرياً ؟
الإحتمال الآخر هو أن موسى أعطى اليهود ديانة أخناتون ( فرعون التوحيد ) الذي فرض على المصريين ديانة توحيد صارمة لكن حكمه إستمر منذ عام 1375 قبل الميلاد الى عام 1358 قبل الميلاد فقط , إنتهت بقتله وإجبار الناس على التراجع عن دين التوحيد الذي كان قد أمرهم أخناتون به . ومن المحتمل أن موسى علَّم اليهود ديانة أخناتون التوحيدية من جديد .
ثم يذكر فرويد أن موسى إذا كان مصرياً , ويعلِّم ديانته لليهود , فهي بلا شك , ديانة أخناتون , وليست ديانة الشعب المصري , وهذا ما سيتطلب منه أن ينظر في ديانة الشعب المصري ويؤكد على كل ما يعارضها , آخذا ً بنظر الإعتبار أن ديانة أخناتون هي عبادة إله الشمس ( أتون ) التي تحولت في العبرية الى عبادة الرب ( أدوناي ) الذي ليست له علاقة بتقديس الشمس .
شبه آخر بين ديانة أخناتون التوحيدية , والديانة اليهودية هو موقفهما المتشابه من الموت وحياة ما بعد الموت , وهذه أيضا إعتبرها فرويد نقطة جوهرية للتشابه بين الديانتين .
من العلامات التي تؤكد أن موسى كان قد أعطى لليهود ديانة مصرية فرضه عليهم ( الختان ) فالدلائل تشير الى أن اليهود لم يحصلوا على ذلك إلا من مكان محدد واحد هو مصر . فمن بين جميع الأقوام التي سكنت شرق المتوسط , كان المصريون وحدهم هم الذين يزاولون الختان تمييزأً لأنفسهم عن بقية الأقوام ( الغرباء ) .
يناقش فرويد بعد ذلك أن موسى كان قد أعطى تعاليمه لليهود بعد قرن أو قرنين من موت أخناتون , وهي لا تشبه تعاليم أخناتون بالكامل , وسبب ذلك أن ديانة التوحيد الأخناتونية حين قُتل أخناتون , وأُمر الناس بالإرتداد عنها .. ما كانت ديانة مكتملة بعد , بل كانت في طور التشكيل , ولهذا فإن موسى وبعد حوالي قرنين من ذلك ( القرن 13 قبل الميلاد ) كان قد أعطى ديانة التوحيد الى اليهود بعد أن أتم تشكيلها .
في بداية المقالة الثالثة ( موسى , شعبه , وديانة التوحيد ) يكتب فرويد مذكرتين تمهيديتين لهذا المقال النهائي , المذكرة الأولى كتبها في ڤيننا / آذار / 1938 يتحدث فيها عن مشكلة إنحسار الدين في روسيا السوفييتية بمقولة ( الدين أفيون الشعوب ) أو الإستعاضة عن الدين بالإنضباط والإحساس بالواجب في إيطاليا , ويقرر أنه يواجه عقبات مختلفة من أجل إكمال كتابه وشعوره بالخوف والتهديد بسبب التحليل النفسي الذي يمارسه إزاء الكنيسة الكاثوليكية .
المذكرة الثانية كتبها في لندن / حزيران / 1938 أكد فيها على أن العقبات الخارجية بعد مغادرة النمسا لم تعد موجودة , لكن صراعاته الداخلية كانت متنامية , فهو يشعر بمزيد من الشك في مسيرة عمله , لكنه يختتم المذكرة بعزمه على المواصلة الى حيث تقوده أفكاره .
سرعان ما يعود فرويد الى سرد الحقائق التاريخية : الفرعون أمينوفيس الرابع طور ديانة توحيدية قوية , وغير إسمه ليتبع إسم إله الشمس أتون , فتغير إسمه الى أخناتون , إنهار دينه بمقتله عام 1350 قبل الميلاد , حدوث فوضى وإرتداد عن ديانة التوحيد . والفترة منذ هذا التاريخ وحتى الإحتلال الكامل لأرض الكنعانيين يعتريها الغموض .
هناك حكايات عن أن اليهود كانوا قوماً عنيدين قتلوا موسى الذي منحهم الدين , وأن هؤلاء اليهود إتحدوا مع قبائل غيرهم في المنطقة الواقعة بين فلسطين وسيناء والحجاز , وقاموا بعبادة رب جديد هو ( يهوه ) إله البركان في قادش . ثم خروج الفرعون ( مرنبتاح ) لمحاربتهم في حدود 1215 قبل الميلاد , وفي سياق إعداده لحملات على سوريا وفلسطين تم العثور على إسم إسرائيل بين أسماء الجيوش التي هزمها .
يتوصل فرويد في النهاية الى أن قبول فكرة وجود رب واحد , وإقصاء فكرة وجود أرباب متعددة , كانت تحتاج الى وقت طويل قبل أن تبرهن على وجودها الدائم في العالم . وهي في ذلك تشبه نظرية داروين في النشوء والإرتقاء التي جوبهت بالرفض الجامح وتمت معارضتها بعنف , قبل أن تقبل بعد قياسها بالعقل , ويكرَّم داروين بسببها . تماماً مثل من يتعرض الى حادث سيارة ويصاب بإرتجاج فإنه يكون بحاجة الى عدة أسابيع لتفهم الموقف والعودة الى وضعه الطبيعي .. وهذا ما ندعوه ب ( فترة الحضانة ) .
وجهت الإنتقادات الى عمل فرويد بانه عمل ضعيف وليست به مصداقية تاريخية عالية تتفق مع ( البايبل ) وأنه شوه قصة ولادة موسى وحقيقة الختان من أجل أن تتفقا مع رؤيته هو .
في الكتاب الثاني من البايبل / سفر الخروج , هناك وصف لإضطهاد اليهود الذين يعيشون في مصر منذ 400 سنة وهم من نسل يوسف وأخوته , ومنهم ولد موسى في عائلة يهودية لكنه تربى في كنف الفرعون , لكن المصريين ماكانوا يثقون به . حيث يعتبر اليهود قصة خروج هؤلاء اليهود من مصر برعاية إله العبرانيين هو مقدمة لتوحيدهم بإسم ( شعب الله المختار ) فدحضوا كل التفسيرات التي جاء بها فرويد جملة وتفصيلاً .
أعترف بأن موت فرويد كان حقيقة صادمة لي .. ليس لأنه مات , فالموت حق علينا جميعاً ولا يستثني أحدا ً .. ولكن للطريقة التي مات بها .
# في العام 1939 كان فرويد قد غير سكنه من ڤيننا الى لندن للهرب بنفسه وعائلته من الألمان , وبالتأكيد في حياته الجديدة يفقتد الكثير من العادات والممارسات الصغيرة التي كان قد درج عليها في حياته السابقة التي إمتدت 82 عاماً .
# بعد نشر كتابه في العام 1939 ( موسى والتوحيد ) تعرض الى نقد قاسٍ من مجتمعه اليهودي .
# وكان فرويد يعاني من سرطان الرأس والعنق بسبب إفراطه في تدخين السيگار الذي يكاد يرافقه في جميع صوره المنشورة .
تجمعت عليه كل هذه الأسباب , ورغم أنه أستاذ رغبات الحياة ( الآيروسات ) وخير من يُعرِّف رغبات الموت ( الثاناتوسات ) , ورغم أنه أبدع لنا نظرية التحليل النفسي التي تشرح النفس بفرضية مرسومة على الورق .. أعانت باحثي الفن والأدب على فهم وتحليل ورسم شخصياتهم الفنية والأدبية .. ورغم أنه رب ( ميكانزمات الدفاع النفسي ) .. لكنه رغم هذا قرر وهو في 83 من العمر أن ينتحر .
قرأ رواية بلزاك ( سحر على الجلد ) التي كتبت عام 1831 وتتحدث عن شاب يبحث عن قطعة من جلد ظهر الحصان يستطيع أن يمارس السحر عليها لتتحقق كل رغباته , لكنه بعد عثوره عليها يكتشف أنها إنكمشت ولم تعد طرية , في نفس الوقت الذي إستهلكت جزءاً من طاقته الجسدية . ومن المؤكد أن فرويد كان يمارس ميكانزم إسقاطها على حياته وصحته وكتاباته , لذلك قرر بعدها الإنتحار , وطلب العون على ذلك من صديق طبيب .
يوم 23 أيلول قام هذا الصديق بحقن فرويد 3 جرعات من المورفين أدت الى موته خلال عدة ساعات .
بعد 3 أيام من موته تم إحراق جسده في مراسيم تجمع فيها اللاجئون النمساويون في لندن .. ثم حفظ رماده في قارورة كانت قد أهدتها له الأميرة ( ماريا بونابرت ) الحفيدة الصغرى للإمبراطور نابليون , وهي باحثة نفسية وكاتبة , يعود الى ثرائها الفضل في إشتهار علم النفس , وكانت هي التي ساعدت فرويد على الهرب من ڤيننا والوصول الى لندن . ميسون البياتي – مفكر حر؟