من هو العقل الجمعي الذي ساهم بافراز هذا المكان؟

wafasultannewyorkهبطت طائرتنا في أحد مطارات نيويورك…
خلال دقائق وجدت نفسي في التاكسي التي تنتظرني أمام البوابة، يقودني رجل صومالي لم يتوقف لحظة واحدة عن الثرثرة، وبين الكلمة والكلمة كان يردد عبارة “الحمد لله” عشر مرات!
لما سألته عن وضعه شكى لي مرارة العيش كمهاجر جديد وأب لستة أطفال، لم يمض على وجوده في أمريكا أكثر من عامين، ثم تابع يقول:
الحمد لله على كل شيء، لله حكمته!

غريبٌ!!!!
لم أسأل فقيرا يوما عن وضعه إلا وحمد الله على كل شيء مدّعيا أن لله حكمة في فقره!
ولم أسأل غنيا يوما عن وضعه إلا وثقب طبلة اُذني بالحديث عن أحلامه وقصص نجاحاته!
رحت أتساءل: لماذا لا تتجسد حكمة الله إلا في وضع الفقراء؟؟؟
وغرقت في تساؤلاتي حتى توقفت بنا السيارة على بوابة المنتجع، فرأيت صديقتي والمسؤولة عن إقامتي خلال الرحلة تنتظرني بالقرب من مربط الحرس!
المكان يفرض هيبته منذ اللحظة الأولى التي تتفاعل فيها حواسك مع محيطها…
كنت ولم أزل اؤمن بأن المكان الذي تجد نفسك فيه هو إفراز طبيعي للعقل الجمعي الذي يشغل ذلك المكان….
…….
قادتني السيدة إلى شقتي في مبنى معد لزوار المنتجع من خارج سكانه وتمنت لي إقامة ممتعة، ثم غادرت!
الساعة أشارت إلى التاسعة مساءا، شعرت ببعض الإرهاق ولكن هذا لا يكفي لأجبر نفسي على النوم قبل الموعد الذي اعتدت عليه..
الفرق في الزمن بين كالفورنيا ونيويورك ثلاث ساعات…
التاسعة مساءا في نيويورك تعني السادسة مساءا في كالفورنيا…
فكيف سأنام قبل موعد نومي بثلاثة ساعات وأنا أعرف أن ساعتي البيولوجية أدق من أدق ساعة سويسرية…
ليس لدي خيار، إذ يترتب عليّ أن أستيقظ في السادسة صباحا لبدء برنامج عملي، والسادسة صباحا في نيويورك تعني الثالثة فجرا في كالفورنيا…
تلك هي أكبر المعضلات التي اواجهها عندما أسافر من كالفورنيا إلى نيويورك…
وعندما قررت عن سابق قصد وتصميم أن استمتع برحلتي تلك، حاولت أن اُسقط من حساباتي تلك المعضلة…
لكن المشكلة التي تتغاضى عنها لا يعني أنها ستحل تلقائيا….
النوم أقدس طقوسي، وعدم الحصول على ثمان ساعات من النوم يسلخني عن نفسي!
القيت حقائبي ونبشت بعض محتوياتها، ثم قررت أن أستمتع بحمام دافئ علّه يهدأ من روعي ويخفف من حدّة أرقي..
……
كالفورنيا ولاية ذهبية، وليست مائية….
نحن في كالفورنيا كما هو ذلك الإعرابي الذي كاد يموت عطشا في الربع الخالي فراح يبحث عن ساقية ماء يروي منها عطشه..
لمح من بعيد شيئا يلمع كالماء فراح قلبه يدق من وهج فرحه…
وصل إلى ذلك الشيء فوجده كنزامن الذهب، استلقى بجانبه ولفظ أنفاسه الأخيرة…
ما نفع الذهب عندما نموت عطشا؟
هنا يكمن الفرق بين الثمن والقيمة، الذهب أعلى ثمنا من الماء، لكن الماء أكثر قيمة من الذهب!

نعم، اسمها الولاية الذهبية وهي ذهبية بكل ما تعني الكلمة، ولكنها تعاني من شح مائي شديد، وخصوصا في السنوات الثلاث الأخيرة.
صدر قانون في بداية هذا الصيف يحذر المواطنين من استخدام أكثر من كمية معينة من الماء…
وصرنا عندما نملئ كأسا نخشى أن يطوف الكأس ونخسر بعضا من الماء…
رشاش الماء في الحمامات في كالفورنيا مصمم ليستهلك أقل كمية ممكنة من الماء في ثلاث دقائق، وهي المعدل المتوسط للحمام الواحد!
لذلك، لم أكد أدير رشاش الماء في شقتي إلا واجتاحتني نوبة رعب إذ أحسست بأنني سقطت سهوا في شلالات نياغرا المجاورة…
ورحت أتلمس فروة رأسي خوفا من أن تنزف تحت سوط المياه الغاضبة…
وبلمح البصر خففت من حدة الرشاش رحمة برأسي، وخلال ثلاث دقائق كنت خارجه…
…..
كنت ولم أزل مهتمة جدا بموضوع الشح المائي في كالفورنيا…
فالأمر يؤثر سلبا على حجم فاتورة الماء، والتي تصل إلى ألفين وخمسمائة دولارا في الشهر الواحد، الأمر الذي يكفي ليرهقني…
طبعا دخل المزرعة لا يرد إلا غيضا من فيض، إذ كانت الغاية منها أولا وأخيرا استمتاعية وليس ربحية، ولكن؟!!
لو أمطرت لمدة ساعتين تنخفض تلك الفاتورة ٢٠٠ دولارا…
لذلك، أتابع بشغف أخبار تلك المشكلة ومحاولة المسؤولين لحلّها، يحدوني أمل كبير أن الحل قاب قوسين أو أدنى!
جرت اشاعات أنهم سيحاولون جرّ المياه إلى الولاية الذهبية من ولاية كولورادو الغزيرة بمياهها، ولكن لم نر شيئا بعد.
مؤخرا، قرأت تقريرا علميّا يطرح أحد حلين، ويؤكد أن كلا الحلين قيد الدراسة ومحتمل التحقيق!
الحل الأول، باعتبار أن ٧٠٪ من مياه الأمطار تسقط في المحيطات دون أية فائدة، تجري دراسات على محاولة دفش الغيوم من فوق المحيطات باتجاه اليابسة..
الحل الثاني، تمّ اختراع جهاز ذي خاصية انتقائية عالية جدا، عندما تمرّ الماء منه لا يسمح إلا لجزيء الماء بالمرور ويقوم بعزل مادونه، الأمر الذي يساعد على تصفية المياة وإعادة استعمالها بما في ذلك مياه المجارير!
…..
في كالفورنيا نعيش مشكلة لم نر في حياتنا آثارها الضارة، فلقد مضى على وجودي فيها أكثر من ربع قرن، لم أعانِ خلالها يوما من انقطاع الماء، ولم أشعر يوما بالزامية التقنين، إلا ما يفرضه ضمير المواطن!
كل ماهناك أن سعر فاتورة الماء أعلى منها في ولايات أخرى، وترتفع بعد أن تصرف حدا معينا من الماء!
….
بعيدا عن مشكلة الشح المائي، التي نسمع عنها ولا نعيشها، وجدت نفسي في مكان يطهّرك من كل أثر للطاقة السلبية ويشحنك بقوة تحلق بك في عنان السماء بلا أدنى جهد!
استقيظت في السادسة وماكدت ألقي بنظري من النافذة حتى تلاشى كل إحساس بالتعب وقلة النوم…
لبست حذاء المشي وخرجت لا أعرف إلى أين….
ساعتان قبل بدء برنامجي اليومي كفيلان أن تعيدا إليّ صفائي النفسي وتوزاني العقلي…
رحت ألف المنتجع بدون أية رغبة في أن أعود إلى شقتي، متمنية أن أضلّ طريق العودة فأدور في “طور سيناء” أربعين عاما آخر….
تشدني الزهور والورود والفراشات إلى عالم ساحر، فتتلاشى حدود الزمن من ساحة وعي، وتتلاشى حدود المكان…

أقف في منتصف الطريق، وأتساءل: من هو العقل الجمعي الذي ساهم بافراز هذا المكان؟؟؟
هل هو الحاصل الجمعي لعقول العامة؟
هل هو الصدفة التي جمعت عقلا مبدعا مع عقل مبدع آخر؟؟
إن كان الصدفة فلماذا تتواجد تلك الصدفة في بقعة ما من العالم دون غيرها؟؟؟
هل هي الطبيعة التي تستقطب الإبداع أيا كان؟ أم هو الإبداع الذي يقولب الطبيعة بناءا على قرار؟
يعود بي السؤال إلى منطقة صحراوية في شرق لوس أنجلوس لا تختلف بطبيعتها القاسية كثيرا عن الربع الخالي، فأرضها رملية قاسية ومياهها تكاد تكون معدومة، لكن الأصابع الأمريكية أحالتها إلى واحة تضم أنواعا من الزهور تتفوق على الزهور الإصطناعية بأشكالها وألوانها…
إنها مدينة بالم السبرينغ التي تربطني بها علاقة عشق قاتل…..
بل عشق يُحي العظام وهي رميم!
تسرقني من تساؤلاتي صور المتصارعين على سطل ماء في مدينة حلب السورية فأذرف دمعة ثم أتابع المشوار!
…..
يعتبر المنتجع نقطة علامة لها أهميتها التاريخية والوطنية
National Historic landmark،
وكان قد تأسس في أواخر القرن الثامن عشر من قبل قس أمريكي كمدرسة دينية )والأزهر اُنشئ ليكون مدرسة دينية أيضا!!!)

لكنه تحول مع الزمن إلى منتجع ومركز ثقافي كبير، يضم دارا للاوبرا، ومدارس للفن، للموسيقا، للفلسفة، لتاريخ الأديان..
كم ويضم البيوت الصيفية لأغنى أغنياء أمريكا، وبعض الفنادق أهمها وأشهرها أول فندق دخلت إليه الكهرباء في تاريخ أمريكا!
…..
عدت إلى شقتي بعد أن تركت روحي هائمة في ضلالها لا تعرف للهداية سبيلا….
فالروح عندما تضل الطريق تصل إلى مبتغاها…
تركت روحي هناك بعد أن وعدتها بأن أعود إليها عندما أنتهي من المهام المسجلة فوق رزنامتي لذلك اليوم…

وفعلا عدت…
عدت في السادسة مساءا لآخذ مشوارا آخر مصطحبة معي ابنة صديقتي كدليل سياحي….
سلبتني تلك الشابة العشرينية دهشتي بجمال المنتجع لتدهشني بطريقة أخرى…
************************************
تابعوني لكي تدهشكم معي…
ألم أقل لكم بأن القادم دوما أجمل؟؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

One Response to من هو العقل الجمعي الذي ساهم بافراز هذا المكان؟

  1. attahir yosif says:

    بقدر جمال تفاصيل الاشياء الصغيرة في القصة .. و عظمة الابداع .. يبقى السؤال عنوان القصة.. خنجرا في خاصرتنا .. لانه يذكرنا بوعينا الجمعي والى اين اوصلنا والى اين يقودنا !!! مؤلم بالفعل

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.