الفصل التاسع
نسخ الإسلام المكي وعواقبه
المصلحة العامة، عند المعتزلة،هي الخيط الهادي للتشريع في الإسلام.هذه المصلحة متغيرة بتغير الزمان والمكان،إذن على التشريع أن يواكب حركة التغير والتطور،التي من دونها تضيع مصالح الناس. وهكذا ينتصر اللاهوت على الناسوت،أي العقل الإلهي على العقل البشري.اعتبار المعتزلة للقرآن مخلوقاً وليس قديماً؛ يعني ضمناً أنه ليس كلام الله،بل هو مجرد إلهام،وأن الوحي مجرد إيحاء أو إيحاء ذاتي،كحالة الشاعر مع الشعر.لا وجود لشيطان الشعر الذي يلهمه،بل ما يلهمه هو التخييلات وأحلام اليقظة التي تفرض نفسها عليه.
تحكيم العقل البشري،بالتأويل،في العقل الإلهي،أي الشريعة،الذي نادي به المعتزلة والفلاسفة كان تدشيناً للثورة الفلسفية الإنسانية في تاريخ الإسلام.هذه الثورة التي ُأُجهضت، أفسح فشلها المجال لتدشين عصر الإنحطاط في القرن 12 في المشرق والقرن الـ 15 في المغرب،كما أكد المؤرخ التونسي هشام جعيط.
فقهاء عصر الانحطاط تجمعوا في حزب الحديث والفقه الحنبلي،الذي كتب على رايته:الإنغلاق الديني،والذي تسلم اليوم الراية منه أقصى اليمين الإسلامي التقليدي والسياسي.
تنزيل القرآن في التاريخ،أي في الزمان والمكان،في كل عصر ومصر،هو الهدف الأول من إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان المعاصرة،وتنزيله في الزمان والمكان يتطلب بالضرورة فصله عن الدولة، على غرار الكتابات المقدسة الأخرى،التوحيدية والوثنية؛ويعني أيضاً أن يغدو مرجعية رمزية للمؤمنين به، وليس للمؤسسات العامة،المطالبة بالحياد إزاء جميع أديان مواطنيها.
رفضَ حزب المحدثين والحنابلة بالأمس، تبني المصلحة العامة كرائد للتشريع،المتكيف مع ضرورات وحقائق كل حقبة تاريخية دونما اعتبار للنص.ورفض أقصى اليمين الإسلامي اليوم تبني ضرورة فصل الشريعة عن التشريع الوضعي العقلاني، ليكون هو المرجعية الوحيدة.هذا الرفض الذهاني العنيد أدخلهم جميعاً، ومعهم مجتمعاتهم،في مأزق تاريخي مزدوج:ديني وعملي.ديني:كيف يجوز على الله العليم أن يغير أحكامه بين فترة وأخرى، وأحياناً بين لحظة وأخرى،خلال 23 سنة هـ.ثم يتوقف بعدها إلى الأبد الأبيد؟ عملي:تطبيق أحكام الله وحقوقه تعني بكل بساطة أهدار مصالح غالبية الناس وجميع حقوق الإنسان، التي لا تعترف بها الشريعة وحسب، بل تعتبر انتهاكها عملاً مشروعاً وواجباً، لا يصح إسلام مسلم إلا به، إذا استطاع إليه سبيلا.هنا ينبغي أن نرى المصدر الأساسي للضمير الإسلامي الشقي المعاصر:عجز حتى الشلل عن تطبيق الشريعة عملياً، وعجز حتى الشلل عن تبني أو تطبيق القانون الوضعي. فبقي حائراً، ممزقاً ويهذي،ساقطاً بين كرسيي (بسكون الياء) القدامة والحداثة!.
النسخ ضرورة اجتماعية لإلغاء القديم، الذي غدا غير متكيف مع حقائق العصر، مثل تحريم تدريس الفلسفة وبعض العلوم الإنسانية،في كثير من البلدان الإسلامية،أو بما هو تصحيح وتطوير أفكار وسلوكيات قديمة،لتكييفها مع حقائق العلم والحياة،وبما هو تقدم روحي وعلمي واجتماعي، على حساب معتقدات وذهنيات سحرية، خرافية وظلامية،كعداء الحداثة،والمرأة وغير المسلم والأقليات وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام، الداخلي والعالمي،والإصلاح الدائم للشأن الديني والدنيوي.هذا النسخ هو ضرورة إجتماعية لا بديل لها غير السقوط في الجمود والإنحطاط . بل أن النسخ،بهذا المفهوم،هو قانون تاريخي،تجاهُلُه أو معارضته،عقاب ذاتي لكل مجموعة بشرية تتجرأ على ذلك.
النسخ،بهذا المفهوم التقدمي والتطوري،هو فكرة مركزية ضابطة لتقدم المجتمعات و لتوازنها، وجدير إذن بأن يكون مثالاً أعلى للعقل البشري، الطموح إلى الوصول إلى المجتمع المفتوح ،والأخلاق المفتوحة والتدين المفتوح،أي العقلانية الدينية المتصالحة مع حقائق العالم الذي نعيش فيه.
متى يمكن تشخيص النسخ بأنه أصبح هاذياً؟
عندما يأخذ الاتجاه المضاد لحركة التاريخ؛عندما يكون نكوصاً إلى الوراء،حتى عن المكاسب والانجازات التي تحققت، كما هو الحال عند نبي الإسلام في المدينة:عندما تحول من نبي،اعترف بديانات عصره المعروفة، في مكة، إلى ناسخ للآديان التي اعترف بها،في المدينة؛وإلى محارب،ضداً على المسالمة التي التزم بها في مكة،وقاتل للشعراء والأسرى واليهود في المدينة،هو الذي التزم في مكة الدعوة لدينيه”بالحكمة والموعظة الحسنة”(125،النحل).
هذيان التراجع عن المكاسب والانجازات، التي حققها نبي الإسلام في القرآن المكي،وفي السنتين الأوليتين من الإسلام المدني، قبل أن يُشّرع للجهاد:وصايا بالعدل والإحسان والرحمة ومكارم الأخلاق، والاعتراف بالديانات المعروفة في عصره،كاليهودية والمسيحية والمجوسية والصابئة، بما هن طريق ممكن للخلاص الروحي للمؤمنين بهن،والاعتراف بالحريات الدينية، بل وحتى بحرية الضمير، أي عدم الأخذ بأي دين:”لا إكراه في الدين”(256،البقرة)و”لكم دينكم ولي ديني”(6 الكافرون)و”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”(29 الكهف)و”إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”(69،المائدة)،ويعترف لمشركي قريش:”(…)وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”(24،سبأ)؛قال نبي الإسلام:يا معشر قريش، نحن المسلمين وأنتم المشركين، قد نكون معاً على هدى، إذن دين كل منا يصلح طريقاً للخلاص الروحي،أو قد نكون نحن وأنتم في ضلال مبين،أي ان ديننا ودينكم لا يصلح أن يكون طريقاً للخلاص الروحي. وهكذا يقدم نبي الإسلام اعترافاً نادراً وثميناً،أسّس للإيمان كرِهان على أنقاض الإيمان كيقين أعمى،حتى أن الطبري لما وقف أمام هذا الإعتراف عند تفسيره، أصيب بالإرتباك وانغمس في تأويلات لا طائل منها؛أو “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”(117،هود)،أي أن ربك لن يكتب أبداً الهلاك ظلماً على أي بلاد، والحال ان سكانها مصلحون جيدون؛فسرها الرازي في رواية ابن عباس:”إن الله لا يعذب على الشرك بل على الظلم”،أو”إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة”(117،الحج).وهكذا فوض نبي الإسلام إلى الله الفصل بين الديانات،الصالحة والطالحة،إلى يوم القيامة.
لم يرى السيوطي مصلحة في إعادة رواية رواية ابن عباس،رغم أن تفسيره هو تفسير بالمأثور! مقدماً لها تفسيرين إشكاليين:عن عكرمة:”إنا،نحن لعلى هدى،وانتم في ضلال مبين”أي فسرها بعكس معناها!وعن قتادة:”قد قال أصحاب محمد للمشركين:والله ما نحن وأنتم على أمر واحد؛إما أحد الفريقين مهتد”ووضع في جيبه أو:”في ضلال مبين”!الروياتان زورتا تفسير الآية كلياً،كالأولى أو جزئياً كالثانية!الرق النفسي لعبادة الأسلاف يجعل المصاب به هاذياً.ذلك هو حال كثير من النخب الإسلامية قديماً وحديثاً.
وهكذا فالإسلام المكي،اعترف بجميع الديانات بما فيها الشرك،تاركاً الفصل بين هذه الديانات جميعاً إلى يوم الحساب.هذه المكاسب وغيرها، نسخها الإسلام المدني. مثلاً كيف نُسخت هذه الآية ؟ :”عن قتادة:الأديان 6 ف 5 للشيطان، ودين لله (…)” أي الإسلام وحده! وعن عكرمة:”قالت اليهود:ُعزير ابن الله،وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئة:نحن نعبد الملائكة من دون الله، وقالت المجوس:نحن نعبد الشمس والقمر من دون الله،وقال المشركون:نحن نعبد الأوثان من دون الله؛فأوحى الله لنبيه ليكذب قولهم:قل هو الله أحد (انظر السيوطي في تفسير هذه الآية)؛هذا ليس تفسيراً للآية بل تزوير لها:”الله يفصل بينهم يوم القيامة وليس في الدنيا”!في الدنيا من حق كل مؤمن بدين ممارسة شعائره من دون أن يُقدّم على ذلك حساباً لأي مسلم !.
الآيات المكية،في المسألة الدينية،في انسجام مع مبادئ الحريات الدينية.أما الآيات المدنية الناسخة لهن،ففي حالة حرب معلنة على مواثيق حقوق الإنسان. والحال أن عقائد وشعائر أي دين، تفقد شرعيتها الأخلاقية،لمجرد أن تنتهك حقوق الإنسان الأساسية،منتكصة إلى مراحل تخطاها تطور الفكر البشري!.
حسب منطق النسخ الّلامعقول،نسخت آية واحدة من الإسلام المدني:”فإذا انسلخ الأشهر الحُرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(…)” (165،التوبة)123 آية، أسست للتسامح الديني؛كما أن آية النرجسية الدينية:”إن الدين عند الله الإسلام”(19،آل عمران)نسخت جميع آيات الاعتراف بالحريات الدينية وبالديانات السابقة.ووسّع حكمها فقهاء النرجسية الدينية، مدعين بأن الديانات السابقة، كاليهودية والمسيحية،لم تكن ديانات، بل كانت مجرد شرائع، نسختها الشريعة الإسلامية!وهكذا نُسخت جميع الأديان والشرائع سواء منها التوحيدية أو الوثنية وباتت البشرية، حسب فقه جهاد الطلب،أي غزو البلدان الأخرى، واقعة تحت تهديد: جيوش الجهاد:إما الدخول في الإسلام، وإما الجزية وإما الحرب!ونسخت آية تشريع القتال في المدينة:”أُذن للذين يُقاتلون[بفتح التاء] بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”(39، الحج) حوالي 70 آية من آيات التسامح والمسالمة،ودخل النبي، المشرّع و المسلح، في جدال عقيم مع اليهود والنصارى، مازال الجميع يكابد عواقبه الوخيمة حتى الساعة:”(…)هل أنبئكم بشرّ من ذلك(…)عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير”(60،المائدة) و:”لتجدن أكثر الناس عداوة للذين آمنوا، اليهود والذين أشركوا،ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصارى (…)”(82،المائدة)لكن سرعان ما سيتدخل هذيان النسخ لنسخ آخر الآية محولاً اليهود والنصارى معاً إلى أعداء ألّداء للمسلمين:”يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء،بعضهم أولياء بعض،ومن يتولاهم منكم،فإنه منهم”(51،المائدة)،أي خرج من الإسلام ودخل، من حيث يدري او لا يدري، في اليهودية والمسيحية!وهذه الآية أسست لفقه الولاء والبراء الإرهابي، الذي هو اليوم دليل “القاعدة”في إدارتها للإرهاب المعولم؛ودليل أقصى اليمن الإسلامي،في اغتيال أو لإيعاز باغتيال، الحداثيين والديمقراطيين بـ”جريمة”تبنيهم للحضارة الغربية،أي انحيازهم لحضارة”دار الكفر”!
باختصار، الإسلام المدني،نسخ الإسلام المكي بما هو:”إسلام فترة الإستضعاف”حيث كان نبي الإسلام ،كما يقول ورثاء الإسلام المدني،ضمناً على الأقل،قد تكتّم عن جزء من رسالته، لأن الظروف الموضوعية لم تكن تسمح له بالإصداع بها، حتى إذا هاجر إلى المدينة، وجد الفرصة سانحة للتعبير عن كل أحكام دينه، حتى ولو كانت في تناقض مع مبادئ دينه التي بشر بها في مكة .وهكذا فالإسلام المكي الذي تجسد في 4663 آية نسخه الإسلام المدني الذي تجسد في 1573 آية!.
تمسك المتصوفة بالإسلام المكي، وفي المقابل، تمسك أقصى اليمين الإسلامي،التقليدي والسياسي، بالإسلام المدني، المستخدم اليوم على أوسع نطاق، في أرض الإسلام وفي العالم،لإنتهاك حقوق الإنسان وسفك الدماء:دماء المسلمين وغير المسلمين. بالعنف والإرهاب!.
فما العمل اليوم لإزاحة عائق آيات الإسلام المدني،الذي ُيعيق أكثر من مليار مسلم على الزواج،بلا عقد ولا شعور بالذنب،بحقبتهم ومؤسساتها وعلومها، وقيمها وحقائقها الاقتصادية والدبلوماسية، وعلى رأسها ضرورة حوار الأديان،كبديل عن حرب الأديان؛كيف يستطيع مسلم أو مسلمة محاورة ممثلي ديانات لا يعترف بوجودها ويوجه، مراراً في اليوم ،في صلواته للمؤمنين بها الشتائم؟
لا أرى إلا قرارين عاجلين ومهمين واقعيين:عملياً،فصل الدين عن السياسة كما يفعل معاصرونا في العالم؛ودينياً،نسخ النسخ،أي نسخ جميع الآيات المدنية،التي نسخت آيات التسامح المكي ورد الاعتبار الديني لهذه الأخيرة؛وتالياً تبني،في التعليم والإعلام،الإسلام الصوفي المسالم ضداً على إسلام أقصى اليمين الإسلامي المدني الشرعي، والجهادي والإستشهادي.
الإدعاء بأن نسخ القرآن والحديث توقف بعد موت محمد غير مقبول لا نظرياً ولا تاريخياً.نظرياً:لأنه يتعارض مع قانون التطور،الذي هو اقوى من جميع النصوص الدينية أو الدنيوية؛التسمر في تقاليد ومعارف مرحلة من مراحل التاريخ، لم يحدث في التاريخ،لأنه يفترض وجود جوهر جامد للظواهر الفكرية والاجتماعية.والحال أن التاريخ يحكمه قانون تطور الأفكار والظواهر، وقانون تجاوز المراحل التاريخية.التاريخ ذاته لا يعود تاريخ، إذا توقف عن توليد الجديد من رحم القديم،ونسخ ما تقادم، ليفسح المجال لما سيولد على أنقاضه.تاريخياً:تاريخ القرآن والحديث بعد موت نبي الإسلام، ينهض شاهداً على هذه الحقيقة:بعد أسابيع من موت محمد،نسخ أبو بكر حق المؤلفة قلوبهم في آية الصدقات،كما يؤكد الطبري في تفسيره لها، راوياً عن عامر،راعي إبل أبي بكر،الذي علق على نسخها :”كانت الرّشى في عهد النبي،فلما ولي أبو بكر انقطعت الرشّى”،أي أن النبي كان يقدم رشوة لغير المسلمين لتأليف قلوبهم وإدخالهم في الإسلام،لكن أبو بكر قطع هذه الرشوة. ومن الجائز الإفتراض بأن الراعي قد سمع هذا التقييم الدقيق من أبو بكر نفسه؛ونسخ عمر وعلي ومعاذ آية الفيء:”واعلموا أنما غنمتم من شيء،فإن لله خمسه وللرسول(…)والمؤلفة قلوبهم (…)”(41،الأنفال)تم النسخ، بعد فتح العراق ومصر.ومذ ذاك التاريخ أصبحت الأراضي المفتوحة لا تُقسم كفيئ على الفاتحين، بل تعود ملكيتها للدولة، التي أممتها وقررت إعطاء الجنود الفاتحين أجوراً، بدل الغنائم التي أسسها القرآن والسنة معاً؛ونسخ الفقهاء آية وجوب العقد في الدين:”وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه”(282،البقرة)،محتجين بأن سكان الأمصار لا يعرفون العربية، لغة العقد.إذن اشتراط العقد سيؤدي إلى ضياع المصالح.المصلحة،أي حاجة الناس اليومية، تغلبت على النص القرآني؛ونسخ الفقيه المغربي الونشريسي في كتابه”المُغرب في فتاوى إفريقيا والمغرب “حديث النبي،الذي حرم الصدقة على آل البيت لأنها مُذلة لكرامتهم قائلاً نظماً:
والوقت قاض بجواز إعطا / آل الرسول من مال الزكاة قسطا
في لحظات إزدهارالحضارة العربية الإسلامية في بغداد العباسية،والقاهرة الفاطمية،والأندلس الإسلامية،نسخ الخلفاء فقه” الولاء والبراء” واتخذوا اليهود والنصارى وزراء،ومستشارين،وأطباء ومترجمين.لكن في قرون انحطاط الحضارة العربية الإسلامية اضطهدوهم،كما اضطهدوا المجددين والمبدعين بين المسلمين انفسهم.
صحيح،أن معظم الفقهاء،الذين سكنتهم روح الانحطاط،توقفوا عن النسخ.لكن حركة التاريخ لم تتوقف عن نسخ النصوص، التي أحجموا عن نسخها،باعتراف مفتي مصر:”لم تُطبق الشريعة في مصر منذ 1000 عام،أي قبل دخول الإستعمار إليها بـ 8 قرون!تكذيباً لأقصى اليمين الإسلامي،الذي اتهم الإستعمار بـ “جريمة”إيقاف تطبيق الشريعة،التي يطالب بالعودة إليها،انتهاكاً صارخاً لمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي!.
في القرن الـ 20 نسخ قاسم أمين آية الحجاب، ونسخ الشيخ الطاهر الحداد آيتي تعدد الزوجات والتفاوت في الإرث والشهادة بين الذكر والأنثى؛وفي القرن الـ21 ،نسخ حسن الترابي عدة آيات، منها آية التفاوت في الإرث والشهادة بين الرجل والمرأة، وآية تحريم زواج المرأة المسلمة من غير المسلم. معترفاً هكذا للمرأة المسلمة بحقها في الزواج ممن تحب، مهما كان دينه:اليهودية أو المسيحية أو الوثنية… ونسخ محمد الطالبي، وجمال البنا وغالب بن شيخ آية ضرب الزوجات: “واضربوهن”(34،النساء).
فيما يخصني،اقترحت،بدلاً من النسخ بالقطّارة، آية بعد آية،اعتماد مبدأ فقهي ناسخ، يؤسس لنسخ كل نص ديني يتعارض مع مصلحة المواطنين،أو مصلحة البشرية، أو مصلحة السلام الداخلي أو العالمي، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والوثائق المكملة له،أو مع مؤسسات وعلوم وحقائق العالم الذي نعيش فيه.وهكذا نصل عملياً إلى نسخ معظم القرآن المدني الذي غدا في اشتباك يومي مع العصر.وهكذا نضع لأول مرة حداً لهذيان النسخ،بالانتقال إلى التشريع الوضعي العقلاني، على حساب شريعة الإسلام المدني.
عواقب نسخ الإسلام المكي
من وجهة نظر تاريخ الأفكار الدينية،يمكن التأريخ لنهاية الأساسي من الإسلام المكي،ببداية الإسلام المدني في السنة الثانية للهجرة.هذا النسخ دشن بداية الإسلام المدني،الذي شكل قطيعة رديكالية دينية وعملية ـ قرآناً وسنة ـ مع جوهر الإسلام المكي،الذي قام على أساسين،الاعتراف بجميع الأديان واللاعنف:لا شريعة ولا جهاد.بما أن الصراعات بين الأديان كانت ومازالت أهم أسباب العنف.اعتراف الإسلام المكي بجميع الأديان،قطع الطريق على العنف الديني. كان الإسلام المدني أيضاً قطيعة مع اللاعنف،الذي كان قوام الإسلام المكي؛اللاعنف في تبليغ الدعوة،واللاعنف في الدفاع عنها،الذي حصره نبي الإسلام في مكة في:”الحكمة والموعظة الحسنة”(125 النحل).وأقر أيضاً،وهي سابقة غير مسبوقة،بالإيمان كرهان،مجرد رهان،بآية الشك على أنقاض اليقين الديني الأعمى عادة:”وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”(24 سبأ) .
اعتمد الإسلام المدني على العنف في جميع المجالات؛خاصة العنف الشرعي والجهادي.الإسلام المدني كان بالنسبة للإسلام المكي،ما ستكونه،بعد الإسلام المدني بـ 7 قرون،مسيحية محاكم التفتيش بالنسبة لمسيحية المسيح وحوارييه.
الدولة الدينية الكاثلوليكية التفتيشية،عرّفت نفسها بما هي عدو” للزندقة”.والدولة الدينية الإسلامية المدنية عرّفت نفسها بما هي عدو لجميع الأديان الأخرى الباطلة التي نسخها:”الدين الحق”؛فلم يعد في نظر الله من دين آخر سوى الإسلام:”إن الدين عند الله الإسلام” (19 آل عمران)،وبما هي عدو للمؤمنين بالأديان”الباطلة”،أي لبشرية عصرها!هكذا ولدت الدولة الإسلامية في المدينة،وهكذا مازالت حتى الآن،عند ورثة الإسلام المدني:أقصى اليمين الإسلامي.
تجسد الإسلام المدني في الشريعة والجهاد؛ الشريعة اليوم هي تمييز ضد المرأة،وضد غير المسلمين،وانتهاك لحقوق الإنسان الأساسية بما فيها الحق في السلامة البدنية والحق في الحياة؛ والجهاد بما هو إرهاب معولم، يهدد أمن سكان العالم بمن فيهم المسلمين، الذين تجاوز عدد ضحاياهم ضحياه في العالم.
رأينا كيف مارس محمد في مكة السادية ضد الذات،بمحاولات الانتحار وبتعذيب نفسه بالعبادة الطويلة والشاقة،وبالإتهام الذاتي الهاذي لنفسه.
في المدينة اختفت السادية ضد الذات واختفت محاولات الانتحار؛واختفى”التسامي”بغرائزه الجنسية المتفجرة في الانتاج القرآني، وفي الدعوة اليومية لدينه وفي العبادة الطويلة والشاقة.لكن حضرت السادية ضد الآخر، التي كبتها الإسلام المكي المسالم.فأصبح محمد النبي والشاعر في مكة، مشرّعاً،محارباً وقاتلاً للأسرى واليهود والشعراءفي المدينة.وهكذا انطلقت جميع غرائزه العدوانية المكبوتة من عقالها لتصول وتجول.كان يحاول إعطاء الموت الفعلي لنفسه بالإنتحار،أو الرمزي، بالتأنيب والتذنيب وتعذيب نفسه بالعبادة. فأصبح يعطي الموت،الفعلي والرمزي للآخرين.
ذهنية محمد،تحولت من النقيض إلى النقيض؛في مكة كان نبياً حقاً،يدعو لدينه لوجه الله دونما غرض مادي للإتجار به؛فلم يكن يسأل المؤمنين به عن دعوته أجراً،كما تشهد بذلك الآية:”وما أسألكم عليه أجراً، إن هو إلا ذكرى للمؤمنين”(109،الأنعام)؛أكد نبي الإسلام معنى هذه الآية سواء على لسانه أو على لسان أنبياء آخرين مراراً.لكن بانقلابه على نفسه في المدينة،أصبح الغرض المادي حاضراً ناظراً:سواء بحصته،الخمس،في الغنيمة تقليداً لشيوخ القبائل في الجاهلية، الذين كانوا يخصون أنفسهم بربع الغنيمة،أو اختصاص نفسه بإقطاعية فدك الغنية،أو بسؤال مستفتييه أجراً على فتاواه،أي بالحديث والقرآن.وهذا ما تشهد به آية:”يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة،ذلك خير لكم وأطهر.فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم”(13، المجادلة).
“عن ابن عباس قال:إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله(ص)حتى أشفقوا عليه،فأراد الله أن يخفف عنه.فلما قال ذلك:امتنع كثير من الناس وكفوا عن المسألة.فأنزل بعدها الآية التالية لها، (13،المجادلة)،وعن علي ابن أبي طالب:قال لي النبي:ما ترى ديناراً؟قلت:لا يطيقونه،قال:فنصف دينار؟ قلت:لا يطيقونه.قال:فكم[إذن]؟قلت:شعيرة.قال:إنك لزهيد[=تقنع بالقليل أو بخيل].قال [=علي]:فنزلت آية” أاشفقتم”…وعن علي[في رواية أخرى]:ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت.(…)وعن علي أيضاً:إن في كتاب الله لآية ما عمل به أحد قبلي،ولم يعمل أحد بها بعدي:آية النجوى.كان عندي دينار،فبعته بـ 10 دراهم،فكنت كلما ناجيت النبي(ص)قدمت بين يدي درهماً،ثم نُسخت فلم يعمل بها أحد بعدي.وعن مجاهد:نهوا[الصحابة]عن مناجاة النبي.”(انظر تفسير السيوطي للآيتين)؛ واضح أن المسلمين أضربوا عن مناجاة النبي،مقابل أجر،فنسخت الآية. حقاً إننا أمام مساومة تجارية عنيدة،أمام الاتجار بالدين!
نسخت الاية 12 بالآية 13 من نفس السورة: “أاشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم،فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله”.لا رابط منطقي بين هذه التأكيدات،شأن القرآن غالباً!.معنى الآية:هل خفتم أن تفتقروا بتقديمكم شيئاً من الصدقات،قبل أن تسألوا النبي عن فتوى،و بما أنكم رفضتم أن تفعلوا ما أمرتكم به الآية،وإذا تاب الله عليكم … فأقيموا الصلاة إذن،و لا تنسوا أن تطيعوا الله ورسوله.
عواقب الإسلام المدني، مقروءة في واقع كل بلد تقريباً في أرض الإسلام.طريقة محمد المدني في التفكير والتدبير في المدينة تعود لشل تفكير وتدبير النخب والجمهور،حتى لا يتشجعوا على التقدم إلى الحداثة؛بما هي انفتاح على الآخر وعلى العالم الذي نعيش فيه.ومازال قطاع من النخب والجمهور،خاصة الإسلامي،يتخذ من إسلام المدينة نموذجاً له معتبراً النكوص إليه في السياسة الداخلية والخارجية واجباً دينياً.فـ”تقليد”،ميميتيزم، النبي في حركاته وسكناته،من أوجب واجبات المسلم.
المهم ليس فهم المظاهر، التي يتجلى فيها الإرهاب،بل فهم الميكانيزمات،أي آلياته وروافعه الدينية ـ النفسية،الكامنة وراء تجليات الإرهاب ومآسيه.أحد هذه الميكانزيمات،هو الرغبة الهاذية في”تقليد” النبي،تقليد كل ما قاله أو فعله،المتأصلة في نفسية قطاع من المسلمين،خاصة السلفيين والوهابيين الجهاديين،والتي تدفعهم إلى إعادة تمثيل ما قاله أو فعله النبي منذ 14 قرناً.أفعال النبي، هن كلقطات التلفيزيون لمن يسجلون ضربة ناجحة في كرة القدم.مثلاً قادة الحركات الإسلامية، يبدأون كتاباتهم بـ:”نعوذ بالله من شرور أنفسنا،وسيئات أعمالنا”،التي افتتح بها النبي”الصحيفة”، ويرسلون لحاهم مثلما أرسل،ويستاكون بعود الآراك مثلما استاك،ويفطرون في رمضان بـ 4 تمرات وكأس حليب كما كان يفطر،ويقتلون المدنيين اليهود ـ أو يتوعدونهم بالقتل ـ كما فعل هو مع يهود بني قريظة.
المظهر الأول لرواسب إسلام المدينة في واقع المسلمين اليوم،هو أنهم،عكساً للأمم الأخرى بما فيها الأقل تقدماً،مازالوا متسمرين في حاكمية القرون الوسطى:حاكمية العقل الإلهي؛ولم ينتقلوا بعد إلى حاكمية العصور الحديثة:حاكمية العقل البشري،الذي حل محل العقل الإلهي في كل شيء: في السياسة والاقتصاد والعلم والفن والأدب وحتى في الدين المصلَح والمعقلن أيضاً …إلخ.كل تطور، مهما كان جزئياً،نحو الانتقال إلى حاكمية العقل البشري يثير هلع قيادات أقصى اليمين الإسلامي فتسميه”السقوط في جاهلة القرن العشرين”،أو ترجمتها التونسية:”التصحر الديني”!.عجزت هذه النخب عن تكييف الإسلام مع الحداثة، وهي مهمة ضرورية وممكنة بإصلاح الإسلام،فاستبدلتها بمهمة ليست ضرورية ولا ممكنة:أسلمة الحداثة.
ومازال قطاعاً من النخب والجمهور متسمراً في الولاء والبراء، الذي أسس له الإسلام المدني:”يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء،بعضهم أولياء بعض.ومن يتولاهم منكم فإنه منهم”(51 المائدة):الولاء للمسلمين حصراً،وعداء اليهود والنصارى و”الكفار”عامة،أي عداء أشخاصهم، ومعبوداتهم، ومؤسساتهم، وعلومهم وقيمهم، وأنماط تفكيرهم وتدبيرهم.وهذا ما شكل حتى الآن عائقاً دينياً وذهنياً لتكيف المسلمين،مع ضرورات العالم الذي يعيشون فيه.
في مكة كان يدعم شرعيته بما ُأُنزل على أهل الكتاب ويوصي أصحابه:”ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن”(46،العنكبوت).أما في المدينة فجادلهم هو نفسه وأصحابه بالتي هي أخشن قولاً وفعلاً.والأدهى،أنه جعل ولاءهم،أي صداقتهم والتعاون معهم مُخرجاً من الملة،مؤسساً بذلك فقه الولاء والبراء الإنطوائي والإرهابي،الذي مازال عائقاً دينياً وذهنياً يردع المسلمين عن الإندماج في حضارة عصرهم،التي أنتجها”أهل الكتاب”!ويردع شعورياً ولا شعورياً،المسلمين في مهاجرهم عن الاندماج في مجتمعاتهم.هذا الاندماج الذي من دونه لا مستقبل لهم :لا عمل،ولا سكن،ولا أسرة. بل تهميش وضياع،وتعاطي وبيع المخدرات،وجنوح وإرهاب!
عملا بفقه الولاء والبراء، الذي مازال شيوخ الإسلام حتى الآن،يكفرون من يحمل جنسيات بلدان غير إسلامية، وخاصة بلدان”دار الحرب”باسم هذه الآية؛من يأخذ جنسية بلد غير مسلم،يخرج من الإسلام ويدخل في دينها حسب فتاواهم!.
تساءل الكاتب والمصرفي الفرنسي من أصل تونسي،محمد القروي:عن شكوى الكتاب الفرنسيين، من أصل مغاربي،دائماً في كتاباتهم من فرنسا وخصّهِا ببعض الشتائم.في نظري،ذلك لا شعورياً ، محاولة للتكفير عن خطيئة الهجرة إلى فرنسا،التي تمثل في الوعي الجمعي الإسلامي”دار الحرب”، وحمل جنسيتها بما هي ،لا شعورياً على الأقل، قطيعة مع الوطن الأم،و الدين الأم اللغة الأم … شأن محمد ديب،روائي فرنسي معروف من أصل جزائري،الذي يشتم اللغة الفرنسية،التي لا يكتب إلا بها،لأنها”قطعت لسانه”فلم يعد قادراً على الحديث والكتابة بلغة الأم!.
طالما استشهدت بكتاب مدرسي سعودي، يوصي التلميذ في الإعدادي:إذا حدث وسافر إلى”ديار الكفر”:”للتطبب او للتعلم أو للتجارة:فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم”! فكيف سيندمج في مجتمعاتهم،وقد برمجت المدرسة عداوتهن في فصوص دماغه منذ نعومة أظفاره؟!.
كتاب اين تيمية:”اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم”الذي،قلّ من لم يقرأه من مناضلي الحركات الإسلامية،حشا أدمغة المسلمين منذ 8 قرون بفقه الولاء والبراء.هذا الفقه الذي يحرم تقليد “أصحاب الجحيم”حتى فيما فيه مصلحة للمسلمين! يقول الكتاب: “لا نقلدهم حتى فيما فيه مصلحة لنا،لأن الله إما أن يعيطنا خيراً منها أو مثلها في الدنيا،وإما أن يعوّضنا عنها في الآخرة”!
الولاء والبراء، حول غير المسلمين إلى”فرقة شريرة”متآمرة على الإسلام،زرع في الوعي الجمعي الإسلامي رؤيا باراونوياك للعالم الذي نعيش فيه،قائمة على الاعتقاد بأن هذه الفرقة الشريرة”اليهودية ـ الصليبية ـ الماسونية”تتآمر على المسلمين.فهي المسؤولة عن انهاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 في تركيا؛وعلى ايقاف العمل بالشريعة،وتعويضها بالعلمانية والقانون الوضعي؛وعلى استصدار مواثيق حقوق الإنسان والزام الدول الإسلامية بها.باختصار،فهي المسؤولة عن اختراع الحضارة الغربية المادية والملحدة،وعن فرضها على المسلمين كبديل لحضارتهم الروحية المؤمنة.
لهذا السبب ألححت دائماً على ترياقين ممتازين مضادين للإنغلاق الديني في الإسلام:هما حوار الأديان التوحيدية والوثنية،أي الاعتراف بهذه الأديان جميعاً ،كطريق للخلاص الروحي للمؤمنين بهن فضلاً عن تبني حقوق الإنسان الكونية،وضرورة اندماج المسلمين في العالم الذي يعيشون فيه، وفي المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها،والمشاركة الايجابية في رفع التحديات الكونية:نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني،حماية البيئة،وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل،مكافحة الأوبئة العالمية،والفقر والمجاعة من أجل”قرية كونية”أكثر تكاملاً وتضامناً.
من الضروري إعداد خارطة طريق،بالتعاون مع الإخصائيين الأوربيين والأمريكيين،لتعويض ثقافة الولاء والبراء،ثقافة الكراهية والإنغلاق، بثقافة الإنفتاح والحوار.
كيف يقوم حوار حقيقي بين الأديان،ورجال ونساء الدين الإسلامي يعتقدون أن هذا مخالف للشرع؟
أحد رؤساء لجنة الفتوى بالأزهر،صرح في 2001 ،عندما تناولت وسائل الإعلام الحوار بين الأديان بعد مأساة 11 سبيتمبر:”لا معنى للحوار مع البابا إلا بدعوته إلى الدخول في الإسلام”،كما تفرض الشريعة ذلك !ربما لهذا السبب، أفتتح حسن الترابي محادثاته مع البابا،جان بول 2 ،عندما زار الخرطوم،بدعوته للدخول في الإسلام.واعتبر أحد قادة أقصى اليمين الإسلامي التونسي زيارة هذا البابا لتونس في نفس الفترة”غزواً صليبياً”!
حروب محمد على يهود المدينة، والتنديد بهم وبالنصارى،في آيات القرآن المدني أسست لهذه الإنعزالية الإنتحارية.حتى أقل واجبات المجاملة الإنسانية واللياقة الدبلوماسية نهى القرآن عنها. كواجب العزاء في جار أو رئيس دولة غير مسلم:”فلا تأسى على القوم الكافرين”(68 المائدة).فضلاً عن آيات التحريض على مقاطعة “الكفار” وقتلهم:”واقتلوهم[=الكفار]حيث وجدتموهم”…لغسل دماغ المسلم لجعله يستسهل سياسياً ويستحل دينياً وأخلاقياً قتل”الكفار”خبط عشواء.وهو ما يجري أمام عيوننا.
رأينا ذلك في 11 سبتمبر 2001 ،وفي الإنتفاضة الثانية حيث كان استشهاديو حماس ينحرون وينتحرون في الإسرائيليين سواء أكانوا واقفين أمام محطة باص،أو مصطفين في الطابور للدخول إلى مرقص أو في مكدونالد…إلخ؛ورأينا ذلك أيضاً في يهود المغرب سنة 2003 ، وبعد ذلك في كنيس الغريبة في جزيرة جربه التونسية؛وفي مسلمي الجزائر”المرتدين”.
إستئصال قبائل يهود المدينة،بإجلائهم أو قتلهم،ومصادرة املاكهم،وقتل جميع ذكور يهود بني قريظة البالغين،بين700 و 900،الذين ظلوا يُقتلون بحد السيف على مدى يوم ونصف.ثم تم بيع نسائهم وأطفالهم في الحبشة!.إنها لمأساة حقاً،مثلاً كيف تم التمييز بين الأطفال البالغين وغير البالغين؟
بتعريتهم لمعرفة ما إذا كان شعر العانة قد نبت أم لا.وكل من نبتت شعر عانتهم سيقوا إلى المذبحة. لنتصور الآلام النفسية التي كابدها هؤلاء الأطفال وذووهم خلال عملية التفتيش التي لا تسعفني المعاجم بكلمة لوصفها.
هذ الإستئصال أسس للعقاب الجماعي،الذي ألغاه القرآن المكي:”ولا تزر وازة وزر أخرى”(15، الإسراء)،بإقراره فردية المسؤولية الجزائية،التي هي اليوم مبدأ في التشريع الجزائي العالمي؛ كما أسس لإضطهاد الأقليات في أرض الإسلام.وقد لا يكون قتل مليون أرمني في تركيا سنة 1915 إلا مجرد ريامك،إعادة تمثيل لفيلم قتل بني قريظة.مازال جمهور أقصى اليمين الإسلامي في العالم العربي يهدد اليهود المعاصرين بتكرار مذبحة يهود بني قرظة.
الشعار المركزي في مظاهرات الإخوان المسلمين في الأردن،لمساندة حماس:”خيبر، خيبر، يا يهود، جيش محمد سيعود”.وعندما زار اسماعيل هنية تونس أستقبله جمهور الإسلاميين بنفس الشعار. حذرت نائبة اسلامية في المجلس التأسيسي،من أن:”مصير جزيرة جربا التونسية سيكون كمصير فلسطين”،أي سيشتري أرضها اليهود.عدد الأقلية اليهودية في تونس أقل من 2000 !.
حتى التخييل الإكتئابي جعل الفقيه عمران حسين،يستلهم مذبحة ذكور يهود بني قريظة،فيعيد صياغة حديث البخاري الشهير،عن قتل المسلم لآخر يهودي قبل نهاية العالم،في سيناريو نهاية وشيكة للعالم اليوم تكون آخر وأقسى عقوبة لليهود الذين،يقول عمران حسين:عاقب الله اليهود أول مرة بالسبي البابلي؛وعاقبهم مرة ثانية بالغزو الروماني وتدمير الهيكل و سيعاقبهم الآن للمرة الثالثة والأخيرة بقضاء جيش الإسلام عليهم حتى آخر يهودي!وتقوم القيامة.
أهل الذمة ،اليهود والنصارى،أوصت آية من القرآن المدني بضرورة إذلالهم:”حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”(29 التوبة)،إذلال أهل الذمة مسطور فيما سمي بـ”عهد عمر”:أن لا تعلو دورهم وكنائسهم، عن دور المسلمين وجوامعهم،وأن يركبوا الحمار إذا ركب المسلمون الحصان،وأن يرتدوا الثياب من لون خاص حتى يعرفهم المسلم،وليس على المسلم ان يبادرهم بالتحية ولا حق لهم في بناء كنائس جديدة أو ترميم ما تهدم منها…سجل إسماعيل مظهر في السنوات 1930 صيغة كانت تكتب في عقود البيع بين المسلم والمسيحي:”باع الهالك ابن الهالك،جرجس مثلاً،لإبني ساكن الجنان،محمد مثلاً…”.
تحريم القانون الوضعي وحرية التعبير، اللذين أسس لهما القرآن المدني،مازالت عواقبهما الوخيمة حاضرة في حياة المسلمين اليوم:”والذين لا يحكمون بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”(44 المائدة). معنى ذلك أن القانون الوضعي لا شرعية له، وتطبيقه يؤدي إلى الكفر.
قتْل النبي،أحياناً شر قتل،الشعراء الذين انتقدوه أو شتموه،حوله أقصى اليمين الإسلامي إلى تشريع،في البلدان التي يحكمها، يحرم نقد الدين،أي البحث النقدي في الله،في الأنبياء،في نبي الإسلام أو في زوجاته أو في أصحابه.حرية التعبير والتفكير والبحث العلمي أصبحن انتهاكاً للمقدس. المادة 40 من الدستور المصري الإسلامي تحرم نقد الأديان.اقترح أقصى اليمين الإسلامي في تونس، إدخال تحريم نقد المقدس في الدستور.أعلنت الصحافة مؤخراً أن نصف الدستور الإسلامي الجديد منقول من الدستور الإيراني الحالي!.
تحريم نقد الأديان،يحكم بالإعدام على تدريس الإديان الحديثة أو استخدامها.علوم الأديان قائمة على تمرير التأكيدات والأساطير الدينية على غربال النقد.وهكذا تصبح حرية التعبير،أم الحريات جميعاً، بين قوسين.تجريم النقاش الحر والنقد، يسد الباب أمام الحياة الفكرية والديمقراطية وحرية الإعلام.أقصى اليمين الإسلامي في تونس، يسمي الإعلام الحر:”إعلام العار” ،لأنه ينتقد الحكومة الإسلامية؛في مصر الإعلاميون يقدمون إلى القضاء كمجرمين بتهمة نقد الدين أو الرئيس.
كي يعي القارئ عواقب اسلام المدينة في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليوم؛ أقدم له عيّنة من مشروع دستور الإخوان المسلمين، بعد نجاحهم في الانتحابات،وهكذا فنموذج الدولة الدينية،دولة الولاء والبراء،التي أسس لها القرآن في المدينة،مازالت،بعد أكثر من 14 قرناً،بوصلة ذهنية توجه الوعي الجمعي الإسلامي، خاصة عند أقصى اليمين الإسلامي.
إليكم بعض المواد المسطورة في”مشروع الدستور،الذي نشرته جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 2012 كشاهد على تحويل الهمجية، بما هي حكم الفرد الذي لا يعزله إلا الموت،والتمييز ضد المرأة وغير المسلم واحتقار حقوق الإنسان والقانون الدولي وحقائق العالم الذي نعيش فيه،إلى عقيدة دينية!
نظام الحكم: المادة 20:”يقوم نظام الحكم على أربع قواعد:السيادة للشرع لا للشعب،تنصيب رئيس الدولة فرض على المسلمين، لرئيس الدولة حق سن الأحكام الشرعية.فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين؛المادة 26 : “الشورى حق للمسلمين فحسب،ولا حق لغير المسلمين في الشورى؛المادة 31:”لكل مسلم بالغ،عاقل رجلا كان أو امرأة الحق في انتخاب رئيس الدولة،وفي بيعته.ولا حق لغير المسلمين في ذلك؛المادة 43:”ليس لرئيس الدولة مدة محدودة،مادام محافظاً على الشرع، منفذا لأحكامه(…)؛المحافظون؛المادة 62:يشترط في الولاة [المحافظين]ما يشترط في المساعدين لرئيس الدولة:ان يكونوا رجالاً أحراراً ومسلمين(…)ويُتخيرون من أهل التقوى والقوة؛القضاء:المادة 71:يُشترط في من يتولى القضاء أن يكون مسلماً(…)؛المادو 78:لا توجد محاكم استئناف ولا محاكم تمييز فالقضاء (…) درجة واحدة؛الجيش:المادة 90:الجهاد فرض على المسلمين، والتدريب على الجندية إجباري، فكل رجل مسلم بلغ الـ 15 سنة مفروض أن يتدرب على الجندية استعداداً للجهاد؛النظام الإجتماعي: الأصل في المرأة أنها ربة بيت،المادة 101:الأصل أن ينفصل الرجال عن النساء ولا يجتمعون إلا لحاجة يقرها الشرع(…)كالحج.المادة 104:لا يجوز للمراة أن تتولى الحكم،فلاتكون رئيس دولة ولا قاضياً ولا والياً ولا تباشر أي عمل يعتبر من الحكم؛التعليم:المادة 108: يجب أن يكون المنهج الذي يقوم عليه التعليم هو العقيدة الإسلامية(…)،المادة 116:الغاية من التعليم هي تكوين العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية.توضع مواد الدراسة على أساس هذه الغاية؛السياسة الخارجية: المادة 117:لا يجوز لأي فرد أو حزب أو جماعة، أن تكون لها علاقة بأي دولة أجنبية؛المادة 173: المناورات السياسية ضرورية في السياسة الخارجية،والقوة فيها تكمن في إعلان الأعمال وإخفاء الأهداف،المادة 177: الإسلام هو المحور الذي تدور حوله السياسة الخارجية،وعلى أساسه تُبنى علاقة الدولة بجميع الدول،المادة 178:(…)الدول التي ليس بيننا وبينها معاهدات، والدول الإستعمارية فعلاً كإنجلترا وأمريكا وفرنسا، والدول التي تطمح في بلادنا كروسيا،تعتبر دولاً محاربة(…)ولا يصح أن تنشأ معها علاقات دبلوماسية(…)الدول المحاربة فعلاً كإسرائيل مثلاُ،يجب أن تتخذ معها حالة الحرب أساساً لكافة التصرفات،ويمنع جميع رعاياها من دخول البلاد،وتستباح دماء غير المسلمين منهم.”
وهكذا فصدى مذبحة يهود بني قريظة مازال يتردد بقوة!.
الدولة الدينية كما عرّفها مشروع الدستور الإخواني هي دولة ليست من العالم الذي نعيش فيه. الدولة الوحيدة المقبولة والقابلة للحياة،في هذا العالم هي الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها حصراً من الشعب السيد،عبر انتخابات ديمقراطية شفافة،وليس من الدين،ولا ينبغي لدستورها أن يحدد دين الدولة،ولا ينبغي أن توجد فيها محاكم شرعية.
هذه الدولة الديمقراطية العلمانية تقوم على 3 ركائز:المؤسسات المكينة،المتمايزة عن بعضها: التشريعية،التنفيذية والقضائية، المسؤولون عن هذه المؤسسات هم مجرد ارقام قابلة للإستبدال، من دون تأثير يذكر على طبيعة أو مصير المؤسسة،المفروض فيها أنها تعمل كطائرة بدون طيار،كما هي المؤسسات الحديثة في الدول الحديثة؛دولة القانون:القانون الوضعي العقلاني،الذي يعتبر جميع المواطنين متساوين أمامه؛دولة لكل مواطنيها،بصرف النظر عن جميع خصوصياتهم الأخرى كالدين والجنس واللغة مثلاً.
هذه الدولة الحديثة هي الوحيدة الجديرة باسم الدولة،لأن مؤسساتها مكينة،لا تعرف أزمة النظام،أي تلك التي تؤدي إلى سقوط النظام؛بل لا تعرف،كجميع الدول الديمقراطية الحديثة،إلا الأزمات الإجتماعية والمجتمعية والاقتصادية القابلة للحل،أو في اقصى الحالات تُحل بإجراء انتخابات مسبقه للإحتكام إلى صناديق الإقتراع.وهذا ما يجعل البلد مستقراً ومفتوحاً أمام السياحة والاستثمار الداخلي والخارجي.لا يعرف”الفوضى الخلاقة للفوضى”،الانتفاضات،بل يعرف فقط اعادة التأسيس بعد كل ازمة،أو حتى قبلها،إذا كان القرار يصنعه العلم وليس صلاة الاستخارة!
قادة أقصى اليمين الإسلامي،مؤلفوا مشروع الدستور،لم يكتشفوا بعد وقد لا يكتشفون إلا بعد فوات الأوان، حقيقة درس التاريخ،الذي تصارعت فيه طواله غريزة الموت،الحرب والعنف والتحاريم الغبية الدينية والدنيوية،مع غرائز الحياة،الحب والسلام،انتصرت فيه دائماً حتى الآن غرائز الحياة على غريزة الموت.كما لم يكتشفوا بعد،الحقيقة الثانية المريرة،هي أنهم يعيشون في الماضي السحيق.في ماض مضى وانقضى.
لقد استثمروا كل طاقاتهم، وآمالهم، منذ 80 عاماً،في الدولة الدينية الإسلامية، لإدارة مجتمع مغلق النوافذ والأبواب،دون تيارات الحداثة المعولمة،التي حكمت على جميع المجتمعات بأن تكون مفتوحة أو لا تكون.هذه الدولة الدينية الإسلامية لم تعد من هذا العالم الذي نعيش فيه.
إنها مأساة من يعيشون ذهنياً ودينياً، بمؤسسات وعلوم، وقيم وأنماط تدين وتفكير وتدبير،أنتجتها حقب سلفت،لحقبة جديدة ـ كلياً جديدة ـ ؛من يعيشون بقيم انتجتها سرعة الجمل،يريدون منها أن تنافس قيماً انتجتها سرعة الكمبيوتر؛
الحقبة الجديدة كلياً هي حقبة الثورة العلمية والإعلامية المعولمة،الحاملة لقيم غير مسبوقة في التاريخ،قلبت رأساً على عقب القيم التي سبقتها.وتستمد قيمها شرعيتها حصراً من سيادة العقل البشري،تعارض بل تصادم قيماً عتيقة وعنيفة،تقليدية ودينية،استمدت شرعيتها من العقل الإلهي، عقل القرون الوسطى الذي هو اليوم مجرد ذكرى.
المؤسسات والقيم لم تعد،في عصر التجديد العلمي والتكنولولجي والفلسفي والأخلاقي وأيضاً الديني،شأن المؤسسات والقيم السابقة لها،تستمد شرعيتها من قدمها،بل تستمد شرعيتها من تطابقها مع قيم حقوق الإنسان،مؤسسات وقيم الفرد السيد، التي لا تنافسها أية مؤسسات وأية قيم أخرى دينية او تقليدية.
قادة أقصى اليمين الإسلامي،قد يساعدهم على فهم لحظتهم التاريخية،أن يتعلموا الدرس من عمق انقلاب القيم في إيران الإسلامية:كل شيء تقريباً محرم فيها.لكن جميع محرماتها مستباحة في 9 على 10 من مساكن سكانها؛دولة من القرن السابع، تفرض نفسها بالحديد والنار على شعب من القرن الحادي والعشرين؛دولة جميع حكامها يصلون،لشعب لم يعد يصلى فيه إلا أقل من 15 % من مسلميه؛دولة جميع حكامها يصومون،لشعب لم يعد يصوم فيه إلا 2 % من مسلميه؛دولة جميع حكامها مؤمنون، إيمان العجائز، بالإسلام المدني، لشعب أكثر من ثلثه ملحد!.
حاضر إيران الإسلامية هو على الأرجح مستقبل مصر الإسلامية ،وتونس الإسلامية، وكل بلد قد تحكمه مومياءات الماضي:مومياءات تنظر ولكنها لا ترى،وتسمع ولكنها لا تعي.عماها وصممها دفعاها، في كل مرة،إلى الرد على قوة حجة عصرها بحجة القوة،التي لا تملك رداً سواه.نتيجة ذلك معروفة: الخروج ليس من السلطة وحسب بل ومن التاريخ أيضاً.