الفصل السادس
هذيان الشعور بالذنب
“أفكار احتقار الذات وتبخيس الذات،والحط من قيمة النفس والخراب، هي مؤشر على الشعور بالذنب الإكتئابي أو الإنهيار العصبي الهاذي”.(طبيب نفسي).
*********
الشعور بالذنب صحي،عندما يكون رد فعل سوياً عن خطأ أو خطيئة، ارتكبها الإنسان ضد الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة. وقد عاش نبي الإسلام،ظاهرياً على الأقل، هذه الحالة السوية مع ابن أم مكتوم، في سورة” عبس وتولى إذ جاءه الأعمى”فقد أستهان به، وسرعان ما شعر بالذنب فاعتذر له عنه.في الشعور بالذنب السليم تكفي عادة محاولة جبر الضرر،المادي أو الرمزي، لتزيل أو تخفف الشعور بالذنب. لكن في الشعور السقيم بالذنب هيهات.
الشعور الساحق بالذنب هو غالباً لا مبرر موضوعي له.يتجلى ذلك في المازوشية الأخلاقية،أي تذنيب الأنا المزمن، مصداق ذلك ما جاء في بداية الصحيفة،أي الميثاق، التي أملاها نبي الإسلام، والتي وقعتها قبائل يثرب:”نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.”(1)؛وفي قتل الجسد، وتعذيبه، مثلاً بالعبادة المضنية، التي يحوّلها الشعور الهاذي بالذنب إلى تعذيب حقيقي للجسد. إلى درجة إلحاق الأذى به.وهذا ما حدث لنبي الإسلام. وهكذا غدت الشعائر مصدر شقاء نفسي له؛لقد كان مثقفوا قريش يقولون عنه أن قرآنه أشقاه. رد عليهم بـ:”طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى”(1،طه).
ما قيل عن أسباب نزول هذه الآية، يُلقي أضواء كاشفة عن شعور نبي الإسلام بالخطيئة أمام ضميره الأخلاقي الشديد العقاب،على صورة الله ـ الأب،الذي يعذبه ويشقيه:”إصرار الرغبات المحرّمة على تحقيق ذاتها[في مواجهة إصرار الضمير الأخلاقي الباغي على منعها من ذلك]يدفع المريض إلى عقاب ذاته”(فرويد). هذا العقاب الذاتي القاسي هو ما عاقب به نبي الإسلام نفسه:”عن ابن عباس أن النبي (ص)أول مانزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى فأنزل الله:”طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى؛وعن ابن عباس أيضاً أن خصومه من مشركي قريس قالوا:”لقد شقي هذا الرجل بربه”؛وفي رواية الضحاك:”ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى به”فأنزل الله طه (…)؛وعن ابن عباس أيضاً: “كان رسول الله إذا أقام الليل يربط نفسه بحبل كي لا ينام،فأنزل الله طه (…)؛وعن مجاهد:”كان النبي (ص) يربط نفسه،ويضع إحدى رجليه على الأخرى(…)؛وعن علي ابن أبي طالب:”لما نزل على النبي:”يا أيها المزمل قُم الليل إلا قليلاً[=واصل صلاتك الليل كله إلا قليلاً منه]:قام (ص)الليل كله حتى تورمت قدماه،فجعل يرفع رجلاً ويضع رجلاً(…).أذكّر من يساوره الشك في تفاصيل رواية الإمام، أنه كان شاهد عيان،إذ كان يقيم عند نبي الإسلام في بيت خديجة:”وعن أنس[خادم آل البيت]،كان النبي (ص)إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى(…)”.
نحن هنا أمام ما يسميه علم النفس العقاب الذاتي،تكفيراً عن جريمة قتل الأب الوهمية، بمحاولة المذنب قتل نفسه رمزياً أو فعلياً !.
هذه الألوان القاسية من تعذيب الجسد وإماتته، تكشف عن شعور عميق بالذنب، كان يغلي في نفس محمد المعذبة.وطأة هذا الشعور على نفسية نبي الإسلام لا تحتمل:”ورفعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك” (2،الشرح)ذنوبه كانت من الثقل حتى أنها قوضت ظهره.وهو لا يشقى بذنوبه التي تقدمت بل أيضاً من ذنوب لا يشك في أنه سيقترفها مستقبلاً:”ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر”(2 ، الفتح).
تأكيد رفع الوزر وغفران المتقدم والمتأخر من الذنوب، ليس إلا مجرد تطمين مؤقت قدمته له هلاووسة.وظيفة الهلاووس هي طمأنة المهلوس:تطمين محمد المذنب لمحمد النبي.لكن نبي الإسلام غير مطمئن لغفران”وزره الذي أنقض ظهره” ،فأمره ضميره المعذب بأن يطلب الغفران: “واستغفر لذنبك”(19،محمد).طُمّن نبي الإسلام،بأن ذنوبه السابقة غُفرت.وزيادة في تطمين شعوره بالذنب،تخبره هلاووسه بأن الله غفر له أيضاً ما سيقترفه من الذنوب. ولكن هيهات!الشعور الساحق بالذنب لا تنفع معه المسكنات.لعلّ نبي الإسلام وصف ضميره الأخلاقي الغاشم عندما وصف جهنم :”يوم نقول لجهنم هل إمتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد؟”.(30 ،سورة قاف).
ككل متعصب لدعوته،يبدو أن نبي الإسلام كان يحاول إكراه الناس على اعتناقها،فعاوده الشعور المزمن بالذنب،فوبخه ربه عن ذلك:”أفأنت تُكره الناس على أن يكونوا مؤمنين”؟(99 يونس).
لم يذكر المفسرون أسباب نزول هذه الآية، التي مروا بها مر الكرام كما فعلوا غالباً مع الآيات التي تحرجهم كمؤمنين، كوّنوا صورة مثالية عن نبي الإسلام وصدقوها، ضدّاً على صورته الحقيقة في القرآن! مثلاً السيوطي لم يفسرها أصلاً،مع أن الإستفهام الإنكاري فيها يشير إلى أن نبي الإسلام قد بالغ في إكراه الناس على الدخول في دينه،إلى درجة أن ضميره الأخلاقي وبّخه على ذلك.
السؤال هو:ما مصدر هذا الشعور القاسي بالذنب في حياة محمد وما هي تأثيراته على تصرفاته؟
يروي الزمخشري في تفسيره لـ:”وزرك الذي أنقض ظهرك”،بأن هذا الوزر هو”فرطات”،أي فلتات محمد الجاهلي.ربما يكون الزمخشري قد استلهم هذا التفسير من آية:”ووجدك ضالاً فهدى”،التي لا نجد لها لدى المفسرين تفسيراً؛ وأقل من ذلك سبباً للنزول؛شعورهم بالخجل من كون نبيهم كان ضالاً قبل إعلان النبوة،وهو ما يتعارض مع أسطورة العصمة من الخطأ والخطيئة،التي أحاطوه بها،ليجعلوا منه تجسيداً لنرجسيتهم الجمعية.جعلهم يتعاملون مع الآية وكأنها لم تكن.لأنها تشطب بجرة قلم جميع المعجزات التي نسبوها إليه، مذ كان في بطن أمه.والبعض الذي فسرها زوّرها:”ووجدك ضالاً فهدى، أي وجدك بين ضالين فاستنقذك من ضلالهم”.من الواضح أن هذا التفسير هو جرأة هاذية على اللغة؛الآية تفيد بأن محمد نفسه كان ضالاً:”ضل ضد اهتدى،أي حاد عن دين أو حق أو طريق” (المنجد).إذن فاعل الضلال هو محمد الذي أنقذه الله من ضلاله، وليس أستنقذه من بين ضالين آخرين، كان هو المهتدي الوحيد بينهم! .
هل يكون سبب شعور محمد بالذنب طرده أتباعه من المستضعفين، مفضلاً عليهم مجالسة سادة قريش بدلاً منهم؟:”ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي(…)فتطردهم فتكون من الظالمين” (52، الأنعام).
هذه الآية تعترف بالذنب وتطالب ضمناً بالصفح من ضحاياه، أي أنه كان خطأ تم تصحيحه، باعتذار النبي عنه، ومجالستهم مجدداً،فرضوا عنه ورضي عنهم.وهذا عادة يمحو أو يخفف الشعور بالذنب.
قهر نبي الإسلام لليتيم ونهره للسائل، الذي وبخه الله عنهما بأمر صارم:”وأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر”(9،الضحى). هذا الأمر كان موجهاً إلى نبي الإسلام شخصياً،فقد اعترف بالذنب وجبر ضرره على الأرجح، بالتوقف عن قهر اليتيم ونهر السائل.ومن تاب تاب الله عليه.فلا يمكن إذن أن تكون هذه الواقعة هي الأخرى، سبباً مباشراً لشعوره الطاغي بالذنب، وتعذيب ذاته بمنتهى القسوة!
فهل تكون شكوكه المتكررة في رسالته، وميله إلى المصالحة بين التوحيد الخالص، الذي يبشر به، والشرك المكي، كما في الآيات الشيطانية، هن ينبوع شعوره بالذنب؟.
مثلاً الآيات الـ 3 من سورة الإسراء، تشّخص بدقة اتهام نبي الإسلام الذاتي لنفسه:”وإن كادوا [=مثقفوا قريش]ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك،لتفتري علينا غيره[=لتختلق قرآناً آخر وتنسبه إلى الله كذباً]”إذن لأتخذوك خليلاً[=عنئذ كانوا سيتخذونك صديقاً صدوقاً لهم]؛ولولا أن ثبّتناك،لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً[=لولا أن الله تدخل في الوقت المناسب ليبقيك راسخ القدمين في قناعاتك التوحيدية ، لكان ميلك القليل إليهم، سيجعلك تفتري علينا قرآناً آخر، على غرار الآيات الشيطانية”، إذن لأذقناك ضعف [العذاب]في الحياة وضعف[العذاب] في الممات،ثم لاتجد لك علينا نصيرا”. (73،74،75 ،الإسراء).
رغبة نبي الإسلام في الوصول إلى تسوية دينية تاريخية مع مشركي قريش،تصالح دينه مع دينهم واضعة حداً للنزاع الناشب بينه وبينهم،عميقة،ما فتئت تعاوده بإلحاح؛لكن ضميره الديني التوحيدي الصارم، كان في كل مرة يردعه ردعاً عن المرور من القول إلى الفعل :لنستمع إلى ضمير نبي الإسلام المعذب، يتوعد نبي الإسلام بالقتل، لو أنه تشجع فمر من النية إلى الفعل. :”ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل [=لو افترى قرآناً آخر غير الذي أنزلناه]؛ لأخذنا منه باليمين[= لبطشنا به]؛ثم لقطعنا منه الوتين[=ثم ذبحناه من الوريد إلى الوريد]”(44 ،45 ،46 الحاقة).
يعدد السيوطي في تفسيره لهذه الآيات، المناسبات التي كاد فيها نبي الإسلام أن يقبل حلاً وسطاً بين الشرك والتوحيد،مع مثقي قريش: مثلاً طلبوا منه أن يُقبّل آلهتهم،كما يقبل الحجر الأسود،وأن يجالسهم بدلاً من مجالسته عبيدهم، وأن يعترف،جنباً لجنب مع الله،بآلهتهم الثلاث اللات والعزى ومناة.في كل مرة كان نبي الإسلام”يركن لذلك شيئاً قليلاً”،وأحياناً شيئاً كثيراً كالآيات الشيطانية: “اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى،تلك الغارنيق العلى وإن شفاعتهن لُترتجى.”
كاد الحل الوسط أن يتجسد في الآيات الشيطانية، التي كانت بمثابة التوقيع لهذا الحل.لكن ضميره الأخلاقي الصلب دفعه إلى سحب توقيعه، أي إلى سحب آياته متهماً، الشيطان، بانه المسؤول على دسها؛لو تمت هذه التسوية لما هاجر نبي الإسلام إلى المدينة، ولبقي الإسلام المكي المسالم، ولأستراح المسلمون والبشرية معهم من عنف الإسلام المدني،الشرعي الجهادي والمعادي لليهود والنصارى وحرية التعبير… لكن “لو” لا محل لها في التاريخ.
كيف يمكن أن نتأوّل اليوم، تفكير محمد في “إفتراء قرآن آخر” غير القرآن؟وفي”ضيق صدره بالوحي” (…)وفي ترك بعضه”في طي النسيان؟وإعراضه عن ابن أم مكتوم؟وتفضيله مجالسة مشركي قريش على مجالسة أتباعه من المستضعفين؟وحادث الآيات الشيطانية،الذي يبدو أن سكوته عنه طال كثيراً، ربما بضعة أشهر، إلى درجة أنه وصل إلى مهاجري الحبشة، وعاد بعضهم إلى مكة لما سمعوا أن قريش قد أسلمت عندما سجدت وسجد النبي معها لله و لبنات الله:اللات والعزة ومناة؟مدلول هذه المواقف تعبير عن رغبة محمد المكبوتة في المصالحة مع الشرك القرشي، بتسوية تاريخية ترضي الجميع:تشريك اللات والعزى ومناة مع الله،الذي كان يؤمن به مشركوا قريش؛ولكنهم يشركون معه هذا الثالوث، ربما محاكاة للتثليث المسيحي،كشفيع عند الله.
قد نتأول هذه المواقف على أن محمد[في مكة] ما كان يريد أن يكون ما كانه:نبياً. في صراع يومي مع”عشيرته الأقربين”، التي تسومه ألواناً من العذاب النفسي كالإستهزاء به:”ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) (الأنعام10) ،ومناداته بـ”أبو كبشة”،بدلاً من أبو القاسم، كلقب تكريم،ويقلدون مشيته المرضية الفصامية”كأنما بنحط من صبب”.لا شك أن شخصيته النرجسية البارانوياك، الحساسة لأدنى نقد،كانت تتعذب من ذلك عذاباً أليماً.قد تكون هجرته إلى المدينة،في الجزء اللا شعوري منها،بدافع النجاة من هذا التعذيب المعنوي اليومي.فضلاً عن مخاطر جدية على حياته وحياة أصحابه نجد صداها في القرآن،لكن ربما كان هذا الصدى يعكس هذيان اضطهاد،لا وجود له في الواقع!
واقع أن نبي الإسلام،السريع الشعور الساحق بالذنب واتهام الذات لأسباب واهية،يخفي الأسباب الحقيقية المطمورة في أعماق شخصيته النفسية “الإتهام الذاتي كما يقول طبيب نفسي:” هو اتهام الذات بأخطاء خيالية أو مبالغاً فيها بالقياس إلى الواقع.وهو مرتبط بشعور الذنب وبفقدان تقدير الذات، فهو عرض مألوف للإنهيار العصبي الإكتئابي”(ج.ب فالو)؛الذي أملى عليه اتهام ذاته المبالغ فيه، وتوعده بالقصاص القاسي منها،إذا هي مرت من النية الآثمة إلى الفعل الأثيم! .
واقعة ضبط حفصة لنبي الإسلام متلبساً بمجامعة جاريته، مارية القبطية، على فراش حفصة،كما يرويها أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول:”دخل رسول الله (ص)بأم ولده، مارية في بيت حفصه، فوجدته حفصة معها(…)فقالت:لما تدخلها بيتي؟ما صنعت بي هذا ـ بين نسائك ـ إلا من هواني عليك.فقال لها:لا تذكري هذا لعائشة،هي[مارية]علي حرام إن قربتها(…) فحلف لها ألا يقربها،وقال لها لا تذكريه لأحد،فذكرته لعائشة، فآل ألايدخل على نسائه شهراً واعتزلهن 29 ليلة، فأنزل الله:”يا أيها النبي لما تُحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك(…)(التحريم).
هذه الواقعة بليغة الدلالة على رعب نبي الإسلام من اخطائه وخطاياه،حتى الضئيلة جداً منها!فأي خطأ او خطيئة في أن يضاجع جاريته على فراش إحدى زوجاته؟لكن شخصية نبي الإسلام النفسية، الهلوعة من الخطأ والخطيئة جعلته:”يتصبب عرقاً أمام حفصة ويقسم لها أنه سيحرّم مارية على نفسه، طالباً من حفصة أن تكتم عنه”وأن لا تخبر عائشة بـ”الفضيحة”!كما تشهد لذلك رواية تاريخية لا شك فيها: “إن تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما،وإن تظّاهرا عليه،فإن الله هو مولاه، وجبريل،وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير”(4 التحريم)أي:يا عائشة وحفصة،إن تبتما إلى الله،فذلك لأن قلبيكما اهتديا إلى الحق، أما إذا تحالفتما ضد النبي،فاعلما جيداً إنه ليس فريسة سهلة لكما،ستجدان إلى جانبه الله وجبريل،ومعهما فضلاء المؤمنين،فضلاً عن الملائكة، سيهبون لنجدته منكما!
هل تتطلب حماية محمد من امرأتين،عائشة وحفصة،كل هؤلاء الحلفاء الأربعة لنبي الإسلام،بداية من الله نفسه إلى ملائكته؟.
هل من تفسير لذلك؟
بالشخصية النفسية الهلوعة و التهويلية البارانوياك،التي تحول الحبة إلى قبة، وتجند جميع قواها المتاحة للرد على المعتدي لسحقة سحقاً!.
هذا التهويل الصبياني، ملحوظ في الشخصية البارانواياك،المتميزة بخطأ التقدير والحكم وبالتأويل الهاذي للمواقف العادية التي تقرأها كمواقف معادية.
كما هو عائد إلى شخصية نبي الإسلام النفسية، التي ظلت متسمرة في الطور الصبياني، بسبب رضاعته حولين كاملين،عند حليمة السعدية فضلاً عن المدة التي أرضعته فيها مولاة أبي لهب، والمدة التي أرضعته فيها أمه قبل تسليمه للمرضعات:”الإبقاء على الطفل رضيعاً أكثر من العام الأول،يعرضه لخطر البقاء في موقف صبياني جداً طوال حياته.” كما يقول الطب النفسي(انظر:إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان:من التربية الجنسية الدينية إلى التربية الجنسية العلمية ص 46).
كما هو عائد أيضاً إلى علاقته بأمه،التي استبطنها رضيعاً بما هي أم مفترسة.
خوفه الهستيري من زوجاته هو نفسياً روماك[=إعادة تصوير فيلم قديم بممثلين جدد]لخوفه من أمه التي عاملته رضيعاً بـ”التوديع والقِلى”،اي بالهجر والكراهية.حالة محمد ليست الوحيدة،بل هي حالة قادة تاريخيين حكموا شعوبهم حكماً سلطوياً،لكنهم كانوا أمام نسائهم كفأر أمام قط:هارون الرشيد، كان أيضاً ذا شخصية نفسية صبيانية جعلته دمية في يد زبيدة،التي أوحت له على الأرجح بنكبة البرامكة، التي كانت عواقبها وخيمة على التحالف بين الأرستقراطيتين العربية والفارسية؛ربما مازالت فاعلة حتى الآن في الصراع الفارسي العربي.نابليون كان هو الآخر لعبة في يد جوزفين،التي كانت لا شعورياً رمز أمه:أمه التي كانت تحتقره،حتى أنها لم تعتقد قط أنه أصبح إمبراطور.كان دائماً في نظرها ذلك الطفل الحقير الذي كانه،فكان يقول لها إذا مرضت:”يا عجوز لا تموتي،فبعدك لن أسمع أمراً من أحد”!؛بورقيبة كان أيضاً خاتماً في أصبع” وسيلة”،التي كانت، لحسن الحظ، تشير عليه دائماً بالرأي الحسن. حتى أن وزيره الأول،الباهي الأدغم،كان يقول مستغرباً: “بمجرد أن تشير له بيدها يسكت”. وقد اعترف بورقيبة أن أمه احتقرته لأنه كان” ُقريد العش”،أي آخر مولود في عائلة كبيرة،وكانت تكلفه بطحن الحبوب بالرحى ـ كما كانت تفعل أمي معي ـ .
قسوة الأم على الإبن،فضلاً عن الرضاعة لأكثر من عام، توّرث ابنها قلة النضج العاطفي والخوف الرُهابي من الأم ورمزها الزوجة.وهذه حالة محمد.
يولد الشعور بالذنب من الصراع الداخلي بين الضمير الأخلاقي و”الهو”.الضمير الأخلاقي هو كل ما علمتنا التربية أن نفعله،أو نقوله أو أن نشعر به.أما الُهو، فهو المحكمة النفسية،أي المنطقة، النفسية،التي ينطلق منها،كشلّال، مدّ الغرائز، أي الأفعال والانفعالات خاصة الجنسية التي كبتتها التربية،والتي تصادم التقاليد الراسخة و”الأخلاق الحميدة”،أي الصورة التي تعودنا على إعطائها لأنفسنا.
اعتذار نبي الإسلام عن أخطاء وخطايا لم يرتكبها، أو هنّ تافهات،هو كما يشعر به في واقعه النفسي، اعتذار عن أخطاء وخطايا كان بإمكانه أن يرتكبها،أو تلك التي يرغب لا شعورياً في ارتكابها. الاعتذار غير المبرر موضوعياً، يأتي ليكبت مدّ الغرائز الراغبة في أن تتحقق.محمد،الخاضع لضمير أخلاقي غاشم،بسبب تربية قاسية وخاصية،يعتذر عن رغبته في ارتكاب المحظورات مستقبلاً!.
الأخطاء والخطايا البسيطة،التي حاسب نبي الإسلام نفسه عليها حساباً عسيرا،ليست في حد ذاتها باعثاُ على شعور ساحق بالذنب؛بل هي على الأرجح ملح يُصب على جرح لم يندمل.وهو أليم بقدر ما هو خفي لا يعيه محمد؛جرح يعود إلى الطفولة الباكرة.الطفل محمد كان كل شيء إلا طفلاً محبوباً؛الحب حيوي للطفل، لبناء شخصيته النفسية،لبناء تقديره لنفسه،لبناء ثقته في نفسه.الحب منذ الطفولة هو إذن ترياق الشعور الساحق بالذنب والمشاعر الكئيبة التى ترافقه.تتضافر المؤشرات على أن الطفل محمد افتقد ذلك، كما رأينا ذلك في طفولة محمد.
فماذا يكون الباعث المحتمل على هذا الشعور بالذنب،على هذا الاتهام الذاتي،الذي زلزل كينونة نبي الإسلام، تحت وطأة ضمير أخلاقي غاشم، تشكّل على صورة الله ـ الأب ،”الشديد العقاب”؟.
وُلد الشعور بالذنب يوم وُلد الضمير الأخلاقي،الذي يلعب مع البشر دور الشرطي القابع داخل النفوس وداخل الرؤوس،لحماية المحرمات الأبوية،أي الاجتماعية أو الإلهية،من الانتهاك.
شعور الإنسان بالذنب، مصدره ميول الطفل للعقاب الذاتي،الذي ينمّيه كقصاص ذاتي من رغبته في قتل الأبوين في طور الصراع الأوديبي(3 ـ 5 سنوات تقريباً)،الأبوان،نفسياً،الأب ـ أو الأم ـ ليس الوالد بل المربي؛إذن آباء محمد ليسوا آمنه وعبد الله وحسب، بل أيضاً وخصوصاً مرضعاته والرجال الذين ربوه،وهم كثيرون.لا شك أنه خُيل للطفل محمد، أن كل واحد من آبائه قد هدده بالخصاء.وهكذا كان قلق الخصاء، كعقاب على جريمة قتل الأب الوهمية،أضعافاً مضاعفة عنده.
الشعور بالذنب يحيل إلى فعل وقع فعلاً أوتخييلاً،إلى جريمة وهمية هي أكثر وقعاً على الضمير من جميع الجرائم الحقيقية.الفعل الآثم الفعلي أو الوهمي،ينشط التهديد الأبوي بالخصاء؛مازلت أذكر كيف أن فلاحاً كان يقول لي وأنا أتدفأ على الجمر مكشوفاً:”ييجي اليوم اللي نقصوا فيه غلاشتك [=قضيبك]بالفأس،يقصد طبعاً الختان.ومازلت أذكر كيف أن أبي،وكانت على رأسه عصابة مزركشة، أخذني من يد أمي التي عادت بي من محاولة فراري من الختان،ورفعني بين يديه وقدمني إلى مقص عم فرج الحلاق!
الضمير الأخلاقي هو إذن محصّلة استبطان الطفل،الذي تقمص شخصية الأبوين،تشبع بأوامرهما ونواهيهما؛واستبطن في الوقت ذاته أن انتهاكها لن يمر من دون عقاب: الخصاء الفعلي،الذي يرمز له في الثقافات البدائية،الختان؛ الخصاء الفعلي المخيف ليس اجتثاث الغلفة وحسب، بل القضيب كله، وكل القيم القضيبية، التي يجسدها القصيب رمزياً:من هيبة،وقوة، وثروة وشهرة.هذا الشعور الأليم بالذنب يتم كبته وكبت الأسباب التي ولّدته،غير تارك في الوعي إلا ضميراً أخلاقياً ينمو نمواً مشوهاً، ابتداء من سن 6 سنوات.
لكن الشعور بالذنب يعود متخفياً في أعراض مرضية،بمجرد تنشيطه بقناعة قوية بانتهاك المحرمات الأبوية،التي يسميها الدين المحرمات الإهية.يكون الشعور بالذنب ساحقاً بقدر ما يكون قلق الخصاء،الذي ولّده ساحقا ايضاً.
لا شك ان شعور نبي الإسلام الساحق بالذنب هو وليد لقلق الخصاء الساحق،الذي تشربه طفلاً ويافعاً من مربياته ومربيه.
يجوز أيضاً الإفتراض بأن الشعور بالذنب عند نبي الإسلام، يعود أيضاً إلى ما قبل الطور الأوديبي،إلى الطفولة الباكره، إلى العلاقة مع الأم ـ الأم الوالدة والأم المربية: مولاة عمه أبو لهب وحليمة السعدية، التي أعادته إلى أسرته خوفاً منه أو خوفاً عليه؛بعد “حادثة” شق الصدر.
الشعور بالذنب يولد مع ميلاد الضمير الأخلاقي.فهل يكون الطفل محمد،الذي تلقفته أيادي الأمهات ،غير الرحيمات على الأرجح،قد نمّى فيه ضميرا اخلاقيا مبكرا ،قبل نهاية السنة الأولى من عمره؟.
هذا الضمير الأخلاقي المبكر، كان في منتهى القسوة،التي تجلت في السادية ضد الذات في مكة، منذ التأنيب الذاتي، إلى محاولات الانتحار المتجددة ،التي حاولها محمد المكتئب. ستتحول السادية ضد الذات إلى سادية ضد الآخر في المدينة:ضد الشعراء الذين هجوه،وضد اليهود الذين لم يسّلموا بنبوته وطمع في ثرواتهم، وضد أسرى قريش الذين جادلوه واستهزأوا منه في مكة.
أهم من البحث عن أسباب الشعور بالذنب،هو البحث عن عواقبه عند محمد المكي والمدني.
تتجلى عواقب الشعور بالذنب العصابي والذهاني في جميع التصرفات والانحرافات العصابية والذهانية للمريض في:
* الاضطرابات الوسواسية القهرية،التي تتجسد في المجال الديني، في الشعائر بما هي سادية ضد الذات.تجسدت عند نبي الإسلام ـ وعند كثير من المتصوفة حتى اليوم ـ في شعائر دينية معقدة، كثيرة ومرهقة أكثر من أي دين آخر على حد علمي:5 صلوات في اليوم من الفجر إلى شطر من الليل، وقد تستغرق الليل كله إلا قليلا بالنوافل.:”وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً[= الثلث الأخير] من الليل”،”يا أيها المزمل [=محمد]قم الليل إلا قليلاً ،نصفه،أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا؛إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(…)واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا[=أذكر اسم ربك بلا كلل ولا ملل وكرس نفسك للعبادة ]”(7،4،3،2،1 ،المزمل)،
هذيان الشعور بالذنب، أملى على نبي الإسلام،خلال حلم الإسراء الهاذي 50 صلاة؛إلا أن الشطر السليم من نفسيتة ـ الذي تقمص شخصية أخيه موسى ـ تغلب هذه المرة نسبياً،على شطرها السقيم.فتفاوض الشطر السليم مع الله،مخفضاً لها إلى 5 صلوات بدل صلاة أسبوعية واحدة،الجمعة كما في المسيحة. وفي شعائر الطهارة للصلاة،و لقراءة القرآن أوحتى لمجرد مسه:”لا يمسه[القرآن] إلا المطهرون”،
(79 ،الواقعة) وللصلاة:الإغتسال الأكبر بعد الجماع،أو الإحتلام أو خروج المني بأية وسيلة كانت، الوضوء،أي غسل اليدين والرجلين والوجه والمسح على الرأس،بعد التبول،والتغوط،والظراط، والفساء وحتى مجرد مس الذكر سهواً…؛وشعيرة الحج الطويلة،المكلفة والخطرة؛وشعيرة رمضان المؤذية للصحة والاقتصاد…
كما كانت نتيجة الشعور بالذنب كارثية على صحة نبي الإسلام النفسية، مازالت أيضاً كارثية على صحة واقتصاد ومستقبل أمته! التي فاتها،أساساً بسبب الإسلام البدائي الذي لم يقع إصلاحه،قطار الحداثة منذ قرون؛
* فقدان تقدير الذات الآثمة،الذي عبر عنه نبي الإسلام في تلك الإستغاثة يوم أُهين في الطائف: “اللهم إني أشكو إليك قلة حيلتي وهواني على الناس (…)”،هذا الهوان المرير الذي حاول،عبر الهلاوس، تسكينه بهذيان العظمة البارانوياك:فهو نبي،شفيع أمته يوم القيامة،سيعطيه ربه كل ما يريد فيرضى…
* الشعور الإكتئابي المرير بالسأم من الحياة، وتمني الموت، الذي تجلى عند نبي الإسلام في محاولات الانتحار المتكررة: لكن في كل مرة كان الشطر السليم من نفسيته يتغلب على الشطر السقيم، متجسداً في جبريل الذي يهدئ روعه قائلاً له:يا محمد انك رسول الله(…):”الأبحاث الحديثة العهد،تتجه إلى البرهنة بأن هذه المحاولات الانتحارية،يمكن أن تكون جزئياً مسكونة باندفاعية عالية جداً عند مرضى الفصام.ويوجد عامل آخر خطير للتصرف الانتحاري، يقدمه مجيء نوبة انهيارية مصحوبة بمشاعر الفشل،واليأس والتحقير الذاتي.(…)كثافة الألم النفسي عالية، إلى درجة دفع المريض إلى البحث على القضاء على نفسه في فترات الهذيان والهلاوس مثلاً،وفي لحظات الشعور الأليم بالعزلة وضياع معالم الطريق”(2).
المحاولات الانتحارية هي عدوانية ضد الذات:”الأفعال الإجرامية نادرة.العدوانية،عندما تكون موجودة، هي غالباً موجهة ضد الذات ويمكن أن تؤدي إلى الانتحار.هؤلاء المرضى هم غالباً ضحايا العنف وليسوا فاعليه.(3).هذا التشحيص ينطبق على حالة محمد،الذي حاول الانتحار مرارا في مكة،والذي كان ضحية عنف المشركين الفعلي والرمزي ولم يكن فاعله.أما في المدينة،كما سنرى ،فقد كان المناخ مهيئاً لينتقل محمد من العنف ضد الذات إلى العنف ضد الآخر.لذلك لا تخبرنا السيرة عن محاولات انتحار في المدينة!.
* في الجنوح:”مفاجئتي،قال فرويد، كانت أن الشعور المتعاظم بالذنب قد يجعل من الإنسان مجرماً” (4) .كيف يعطي هذيان الشعور الساحق بالذنب الجنوح والإجرام؟
“الجنوح مرتبط ارتباطا وثيقاً بسوء تصرف الأم مع طفلها، طوال فترة رضاعته،خاصة إذا كان الوسط العائلي لا يقدم للطفل مساندة ضرورية،فإن هذا الشعور بالذنب يصبح عبئاً لا يطاق”،كما يؤكد النفساني ويسكونط؛”العبء الذي لا يطاق”عبر عنه اللاشعور العاري لنبي الإسلام تعبيراً دقيقاً:”وزرك الذي أنقض ظهرك”.(2،الشرح).
تجلى هذا الجنوح والإجرام خلال الفترة المدنية في قطع الطريق على تجارة قريش؛في قتال القبائل وتحويل مكاسبها إلى غنائم لنبي الإسلام والمقاتلين في جيشه،في اغتيال الشعراء الذين هجوه؛في إجلاء قبائل اليهود،ومصادرة ثرواتهم إما لحسابه الخاص كفدك،وإما لحساب المسلمين،وإما قتلهم كبني قريظة!.
الجنوح والإجرام يشكلان،كما يؤكد علم نفس الأعماق،”متنفّساً”لمشاعر الذنب اللاشعورية الساحقة؛لأنه يقدم لها مبرراً شعورياً لشعورها بالذنب اللاشعوري:”هذا العنف[ضد عائلة الفصامي] عند مريض الفصام يتميز غالباً بطابعه اللامتوقع:يمكن أن يحدث عندما لا ينتظر أحد حدوثه،بلا سبب واضح وفي حالة برود عاطفية”(5).وهذه حالة الفيلسوف الماركسي الفرنسي الفصامي لوي الطوسِير؛عندما أقدم في 1980 على ذبح زوجته.(6)
“التكفير عن الشعور بالذنب،قد يكون مصدر تصرفات إجرامية”.(7)
“الشعور الزائد بالذنب،كما لاحظ فرويد،يمكن أن يحول الإنسان إلى مجرم”.إقتراف جرائم، لتبرير الشعور بالذنب الذي لا مبرر موضوعي له،يريح ضمير المجرم الأخلاقي المعذب.يبدو كما لو أن الإجرام،خاصة الديني،يحول الضمير الأخلاقي الغاشم إلى ضمير أخلاقي غائب. فتاوى قتل اليهود والنصارى ومن والاهم من”المرتدين”المسلمين، ترجمة لهذه العملية النفسية المعقدة، التي تحول المذنب وهمياً إلى مذنب فعلياً، ومع ذلك مستريح الضمير،الذي غسلته الفتوى من الشعور بالذنب الصحي.الشعور اللاشعوري بالذنب،يحتاج إلى جريمة؛الفتوى تقدم له التبرير الديني لإرتكابها.قسوة الضمير على المذنب تتحول إلى قسوة على الأبرياء،على كل من يوجدون على الضفة الأخرى،دينياً أو سياسياً،مخالفين لنا أو مختلفين عنا!.
وهكذا فهذيان الشعور الساحق بالذنب هو المغذي النفسي الأول حتى الآن للتعصب الديني والمطالبة بالعنف الشرعي والإنغماس في ممارسة الإرهاب الداخلي والخارجي.
هذه النقطة الأساسية، لفهم بواعث الإرهاب الإسلامي، لم يدركها حتى الآن إخصائيوا الإرهاب في الغرب،الذين مازالوا يرددون أن الإرهابيين أناس أسوياء،مثلي ومثلك!الفتوى لا تبرر الجريمة وحسب بل أيضاً تحولها إلى مصدر اعتزاز،عند الإرهابي الذي يغتال “الكافر” والمرتد،أو المؤمن المسعور،الذي يرجم الزاني أو الزانية.كلاهما يرجوان عن جريمتهما مكافأة في الجنة.ولماذا يكون هذا الشعور بالذنب ساحقاً،خاصة عند المتعصبين أساساً لأن الله،رمز الأب، إذن رمز محرمات الضمير الأخلاقي، مخيف، مؤنب ومذنب في الإسلام فهو”العزيز الجبار المتكبر”(23، الحشر)،وهو”شديد العقاب”(25،الأنفال)و “القوي شديد العقاب”(6،الرعد)و”إني أرى ما لا ترون:إني أخاف الله شديد العقاب”و”شديد العقاب بالطول”و”إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم”.
رهان إصلاح الإسلام ،بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان،هو تلطيف هذا الشعور الساحق بالذنب،منذ نبي الإسلام إلى اقصى اليمين الإسلامي المعاصر، مما جعل قطاعاً من المسلمين اليوم هاذياً دينياً،15 % من مسلمي العالم،حسب الإحصائيات الأمريكية،متطرفون: يمارسون الإرهاب او مهيأون لممارسته . كيف يمكن تحقيق ذلك؟.
اجتماعيا،بالتنمية الشاملة، ونفسياً بتغيير صورة الله في اللاشعور الجمعي الإسلامي:من جلاد شديد العقاب،أي قاسي وخاصي،إلى أب حنون يفيض حباً لعياله وأبنائه المسلمين والناس أجمعين.هذا الانتقال كفيل بتصعيد الشعور الساحق بالذنب، من سديم اللاشعور إلى وضح الشعور.الشعور اللاشعوري بالذنب هو المسؤول النفسي الأول اليوم، عن التعصب والعنف والجريمة والإرهاب.وكلما تم تحويله تدريجياً إلى شعور واع بالذنب، من أخطاء وخطايا فعلية وجدية،لا من خطايا وهمية او تافهة،يهوّلها هذيان الشعور بالذنب، كما في حالة نبي الإسلام أو المتطرفين المعاصرين. كلما كفّ الشعور بالذنب عن كونه مصدراً للتعصب والعنف والجريمة، عند قطاع من المسلمين المعاصرين المطالبين بجلد شارب الخمر 80 جلدة،وقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية، ودق عنق المرتد والجهاد في “الكفار”لإدخالهم في الإسلام إكراهاً!.
ممارسة هذا الإرهاب الشرعي أو المطالبة بممارسته،هو اليوم الدافع الديني القوي للجهاد ـ الإرهاب المعولم!.
تغيير صورة الله من إلاه ـ أب سادي، يُعذب بعض أبنائه العاصين لأوامره ونواهيه بشوائهم في نار جهنم:” كلما نضجت جلودهم بّدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب(…)”(56،النساء)ليتلذذ بمواصلة تعذيبهم !.
إنه لذو دلالة على تغلغل عدوى هاذه السادية الدينية في قطاع من المسلمين المعاصرين،أن الإسلامي الطبيب التونسي،صلاح كشريد،مترجم القرآن، اعتبر هاذه الآية المخيفة، برهاناً عن الإعجاز العلمي في القرآن لأن:”الأعصاب الناقلة للإحساس بالألم توجد كلها في الجلد”!وتبارك الله أحسن الخالقين!أما التعذيب السادي الفظيع فهو عين العدل!.
لا ينبغي بعد اليوم،أن يكون الله هو هذا الأب الجبار،القاسي الخاصي،الذي يُحقننا بالشعور الساحق بالذنب، كشهادة قاطعة، على خوفنا منه وطاعته طاعه عمياء، وتكريس معظم وقتنا لأداء شعائره.هذه الصورة، الشبيهة بصورة الوالدين الغاشمين في العائلة الإسلامية التقليدية، جديرة بالتجاوز إلى نموذج إلاهي أرقّ وارحم.
حتى نتشجع على انجاز هذه الوثبة الضرورية إلى الأمام،الأمام الروحي والإنساني،يجب ان نوفر الشروط الضرورية،التي تجعل علاقتنا بالله تتغير من علاقة قائمة على الخوف والشعور بالذنب، إلى علاقة قوامها الشعور بالحب، بالأمان والإطمئنان.
لتصحيح الصورة التي نملكها عن انفسنا وعن الله،للإنتقال من الله الشديد العقاب إلى الله الرحيم، علينا أن نتوصل إلى خارطة طريق مرصودة لإصلاح الإسلام من الله ـ الأب الذي يشوينا في “نار حامية”،إلى الله ـ الأب الذي يحمينا من مخاوفنا الطفولية. هذه الخارطة تتحقق بـ:
* إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان من الإبتدائي إلى العالي؛
* التوقف عن تدريس الآيات التي تزرع في رؤوس الأجيال الطالعة بذور هذيان الشعور بالذنب،وعن استخدامها في الإعلام وتلاوتها في الصلاة خاصة الجماعية،وعن تدريس آيات الإيمان بالقدر،خيره وشره،أي الإيمان المازوشي بأن”المكتوب”على الجبين تراه العين،وتالياً الانتهاء من تدريس وترويج آيات التسيير، المخربة لثقة المسلمين في أنفسهم، وتقديرهم لها،وبدلاً منها ،تدريس آيات التخيير، التي تمسك بها المعتزلة،والتي تجعل من المسلم منذ نعومة أظفاره،يؤمن بأنه هو ـ وليس الله ـ خالق أفعاله،وصانع حاضره ومستقبله بالقرار الصائب الذي يصنعه العلم؛
*تدريس حقوق الإنسان،التي هي ترياق الشعور العصابي والذهاني،بالذنب:استبطان حقوق الإنسان،يحوّل ما اعتبره الدين ذنوباً،إلى حقوق يمارسها الفرد المسلم ببراءة واعتزاز.لا شيء كتدريس حقوق الإنسان للوصول إلى التحرر الذهني الضروري لتأسيس الحرية وميلاد الفرد المستقل عن روح القطيع؛
* تشجيع وتعميم زواج الحب، على أنقاض زواج الإكراه التقليدي السائد؛فقد أكدت الدراسات النفسية، أن أطفال زواج الحب، يكونون محبوبين من آبائهم.هذا الحب الأبوي منذ الطفولة يعطيهم الثقة في أنفسهم،التي هي ترياق سم الشعور بالذنب؛
*تدريس الفن والأدب الباسمين المنشطين لغرائز الحياة؛
* تعميم ثقافة الإقبال على التحليل النفسي،الذي يساعد الفرد على أن يعرف نفسه ويعترف بها.
عندئذ لا تعود الآيات المحكمات او المتشابهات هي التي تتحكم في تقرير مصيرنا؛بل يعوضها العلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والمؤسسات العلمانية والديمقراطية.
مراجع الفصل السادس
1 ـ مختصر سيرة ابن هشام ص 105.
2 ـ عش وافهم الفصام ص 58.
3 ـ نفس المصدر ص 109.
4 ـ فرويد، الأنا والهو،ص 21.”الهو”هو محكمة نفسية لا شعورية تهجع فيها جميع غرائر انتهاك المحرمات وهي في صراع دائم مع الأنا الواعي[=العقل]وأيضاً وخصوصاً مع الأنا الأعلى نصف الواعي الذي هو الضمير الأخلاقي.
5 ـ نفس المصدر ص 69 .
6ـ ـ كان الطوسير يلقي دروساً عن رأس المال بما هو،في نظره،الكتاب الوحيد الممثل للماركسية العلمية.أما كتب ماركس الشاب الآخرى فهي عنده رومانسية هيجلية.كتب ذات يوم في اليومية لوموند:”الثورة مع الحزب الشيوعي الفرنسي مستحيلة؛والثورة من دون الحزب الشيوعي الفرنسي مستحيلة،ومع ذلك سأبقى عضواً فيه”!صدمتني الصياغة،فحضرت لأول مرة حلقة دروسه، وسألته:هذا ليس الديالكتيك،بل هو الشكزوفرينيا.فامتقع لونه.تصدى لي أحد طلبته: يببدو أنك لم تحضر للتعلم بل للإستفزاز،لقد أخطأت العنوان.ابحث من فضلك عن عنوان آخر يناسبك. فخرجت.لم أكن أعلم آنذاك أن الطوسور فصامي.بل ولم أكن أتوقع ذلك من أستاذ،مساعد في مدرسة المعلمين العليا من1948 ـ 1980 .لم أعلم بمرضه إلا بعد ذبحه زوجته،قرأت كتابه الأخير المؤثر،بعد خروجه من مستشفى المجانين وقبيل وفاته أو انتحاره:”المستقبل يدوم طويلاً”،المليء بالإعترافات الروسويه مثل أنه،عكس الإنطباع الذي كان يعطيه عن نفسه بأنه موسوعي،لم يقرأ طوال حياته إلا 100 كتاب.
7 ـ معجم السايكولوجيا ،ص 175،بف،باريس.