من كتاب أحاول كتابته عن السجن

Bassam Yousef
” نص عن الذاكرة والسجن “.
لن أتحدث في هذا الكتاب أو النص أوالرواية أو ..أو… يمكنكم أن تسموه ماشئتم، عن التعذيب والجوع والمرض والموت وكل تلك التفاصيل التي تجعل من السجون السورية واحدة من أبشع السجون التي عرفتها البشرية.
لكنني سأتحدث عن وجه آخر، وجه لانراه إلا في سجون الأنظمة المغرقة في وحشيتها، هناك حيث تنتفي كل الحقوق التي أقرتها القوانين والأعراف الدولية، وحيث يصبح السجن مكانا للترويع وللإنتقام والقتل أو الموت البطيء.
سأتحدث عن وجه آخر للسجن، لايمكن للكتابة أن تقوله ولا يمكن للحديث أن يجعل منه مفهوما الى الحد الذي يمكن القول انه اتضح،… إنه وجه لايمكن ادراك جوهره إلا بتجربته، لكن أية تجربة أو معرفة تلك التي تستحق أن تلج الجحيم …؟؟.
كتب “دانتي” على بوابة جحيمه” عن كل أمل تخلوا أيها الداخلون إلى هنا”، ورغم أن كل ماكتبه دانتي كان متخيلاً، لكنك في سجون سوريا لست مضطراً لأن تتخيل، ماتحتاجه هو أن تشحذ كل طاقاتك وبلاغتك لوصف القليل من الواقع.
سأحاول ما أستطيع أن أقارب بعضا من هذا الجحيم، ولأن مالدي هو الذاكرة فقط، فسوف أتحدث أولاً عن الذاكرة والسجن .
السجن في مطلق حالاته هو شرط لا إنساني، لكن ربما يكمن أحد أهم وجوهه اللاإنسانية في إرغامك كسجين على افتراض الحياة، ودفعك مرغما إلى العيش المتخيل في الذاكرة، بعبارة أخرى حرمانك من كل أوجه الحياة، عندها لاشيء يسند حياتك الهاربة منك إلا حجر الذاكرة.
في السجن … في ذلك العدم، حيث أنت رهين الغياب …. حيث أنت بكل ما تختزن من مشاعر وأحلام ورغبات وتناقضات، أنت بكل تفاصيلك وكليتك خارج التحقق، نعم أنت في النفي، وربما في العدم.
ليس السجن حياة لتتنفسها، ولا هو موت لينهي توقك للحياة، إنه بتكثيف شديد يشبه المنصة التي أصعدوك عليها عنوة ليلفوا حبل مشنقتك على عنقك.
يشبه السجن اللحظات التي تسبق انزلاقك إلى هوة الموت، عندما كل مايربطك بالحياة هو رؤوس أصابع قدميك التي تسند جسدك المعلق وتمنعه من الانزلاق على حبل موتك المشدود على عنقك.
إذا في عنقك حبل الموت، وفي رؤوس أصابع قدميك بقايا الحياة، وأنت بينهما مشدود كوتر لاتعرف متى يطلق سهمه.
ولأنك بين الموت والحياة، لأنك عاجز ومقيد ومنفي ومنسي، فإن قوة غامضة تتفجر فيك فتدفعك لأن تتشبث بثبات رؤوس أصابعك على خشبة مقصلتك كي لا تهوي.
في هذا التوتر المشدود حتى أقصاه، لا لثوان أودقائق، لا لأيام أو أشهر، بل لسنوات طوال، تصبح الذاكرة هي المصدر لوحيد لتجديد طاقة التحمل فيك، تصبح سلاحك الوحيد كي تقاوم هذا الجحيم الذي يحاصرك كحبل المشنقة، تصبح ملاذك الذي لاملاذ سواه لكي تعيد صياغة بقايا روحك التي تتهشم كل يوم.
في السجن، ولأنه لاحياة، فأنت مجبر على اختراعها، وأنت مطالب أيضاً بأن تمنح ذاكرتك ما يمكنّها من اختراع الحياة.
نعم … في السجن نخترع الحياة، نصوغها كما تستطيع ذاكرتنا، نخترع شخوصا ونحبهم، أو نكرههم وربما نقتلهم، نخترع مطارح ومعارك ننتصر فيها، أو نهزم، نخترع نساء كي نبكي حنينا لهن، نضاجعهن كما لو أننا نصلي، ونكتئب إن هجرننا، وربما نحاول الإنتحار.
في السجن من لايتقن اختراع الحياة سيسحبه اليأس الى لجة الموت.
في هذا المضيق الذي يفصل بين الموت والحياة، نتعلق بذاكرتنا كطوق نجاة، وحدهم من يسجنون لفترات طويلة وفي شروط غاية في القسوة والبشاعة والحرمان كالسجون السورية يدركون جيدا معنى وحقيقة هذه الحاجة للذاكرة.
لكن السنوات التي تتالى وتتالى تجعل منها ذاكرة عطشى، ذاكرة يشققها اليباس عميقا، ذاكرة تجاهد آخر عصارة فيها، ولكي لاتموت ونموت فإننا نلهث وراء ما يمكن أن يسقيها ولو قليلاً.
لا أدري إن تحدث علماء النفس أو السلوك الاجتماعي أو الفيزيولوجيا عن ذاكرة جمعية، لكنني متيقن أن الذاكرة تستعير وتستعار، وتختلط وتمتزج وتنقسم وتنمو وتصغر وتكبر… وإلا فكيف يمكننا أن نفسر مايحدث معنا في السجن ؟؟.
هل يتسع وقتكم لأوضح فكرتي ؟؟.
دعوني أبدأ من البداية إذاً.
فجأة، وكما في حكايا ألف ليلة وليلة، يخطفنا جنّي، يخطفنا من إلفة حياتنا اليومية، ويطير بنا، ولأنه جنّي شرّير فإنه ينقلنا في محطات متخمة بالعنف والقتل لانكاد نعرف فيها من نحن وأين نحن وإلى أين … ليرمي بنا في النهاية إلى عالم آخر، عالم شديد الاختلاف، عالم لاشيء فيه، عالم نفتقد فيه كل شيء بما في ذلك أصوات الحياة وحضور الضوء ولون السماء.
في المرحلة الأولى نتحسس أجسادنا … أرواحنا .. ذاكرتنا… ووجوهنا وحتى جدران القبر الذي رمينا فيه، وعندما نكتشف أننا في اللاحياة نسرع الى الذاكرة نستجديها ونتوسل اليها أن تهبنا مافقدناه.
يا إلهي كيف تتوهج الذاكرة في بدايات السجن، تتوهج بشدة، لوهجها ذلك الألم الحارق ، الألم الممض، فنبكي … ونصرخ ونبدأ دوراننا اليائس داخل قوقعة السجن المطبقة.
في البدايات لايمكنك أن تحتمل فيض هذه الذاكرة وتدفقها كموجات “تسونامي” وأنت وحيداً، عليك أن تقولها كي يخف اندفاعها لتهدأ، فتنتقي أشخاصا لتقولها لهم، ولأنها ذاكرتك الحميمة فإنك تهمس لهم بنبرة دافئة متوسلة أن لا يبوحوا بها لغيرهم، ولأنها أغلى ماتملك فإنك مجبر على افتراض أن من تشاركهم ذاكرتك هم محل ثقتك العميقة، وعبر بوابة هذه الثقة التي ألبستهم إياها مرغمين تبدأ أمواج ذاكرتك بالانتقال اليهم.
خارج السجن، وفي حياتنا العادية نحاول أن نملأ ذاكرتنا بالأشياء التي نصنفها على أنها مهمة، الأحداث الكبرى، المناسبات الأهم، أما في السجن فإن ذاكرة التفاصيل هي الذاكرة الدائمة الحضور، وهي الذاكرة الأشد إيلاماً.
في السجن تغادرك الأشياء الكبيرة أو أنها تصبح بلا أهمية، وكل ماكنت تعبر به بلا انتباه في حياتك العادية سوف يصبح ضجيج ذاكرتك الذي لايهدأ.
سوف تراقب بغبطة طفلك الذي يخطو خطواته الأولى، وستسرع متلهفا للامساك به عندما يتعثر، لكنك وعندما ينظر اليك من حولك مستغربين نهوضك المفاجئ وصرختك الخائفة، ستتذكر أنك في السجن وستعتذر قائلا: اعذروني كنت أحاول التقاط ابني كي لايسقط، ستعاود الجلوس في مكانك الضيق، وستعاود صراخك المتلهف مرة أخرى، بعد قليل أو كثير، وبعد أن تتيقن أن كل لهفتك هي مجرد تخيل ستبكي.
سوف تشم رائحة الطعام الذي تحب، وربما تنهض لتتناول شيئا لتضعه على الطاولة، ستمد يديك الى الهواء ومرة أخرى ستكتشف أنك في السجن، وستصفعك نظرات الاستنكار لمن حولك.
ستشم رائحة عطر امرأة أحببتها، وسوف تمد يدك الى ستائر نوافذ غرفتك لتسحبها كي يدخل قليلا من الهواء والضوء، سوف تسمع بوضوح رنين جرس باب بيتك، و صراخ اخوتك وسوف تمشي طويلا طويلا في زواريب حارتك الضيقة، ستلقي التحية على من تراه، وستسرق نظرة من امرأة تعبر بك بكل سطوتها، تاركة خلفها غمامة من عطر ودهشة، وسيرى من يجلس بجانبك كيف أغمضت عينيك ورفعت رأسك للأعلى وتنفست عميقا لتملأ كل خلاياك بعطرها.
وستمر على باعة الفلافل وستأكل القرص الساخن الذي يناولك إياه البائع قبل أن يسألك ماذا تريد أن يضع لك في سندويشتك، سوف تستعيد مئات المرات شهقة الخوف للصبية التي باغتتكما أمك وأنت تقبلها….
في السجن ستعيد نبش ذاكرتك ألف مرة كي لا تموت.
في السجن لاتعيش الذاكرة اذا لم تقال، وانت مجبر على قولها كي لا تبقى معلقة على حافة النسيان والموت، في الحياة العادية يمكنك أن لاتقول ذاكرتك، وربما تحاول النسيان، لأن الحياة متاحة، أما في السجن فالأمر مختلف تماماَ.
إذا … ستمنح ثقتك لأحد ما أولاً، وستشاركه ذاكرتك كي تحميها، وستختار ن تعتبره أهل للبوح، فثمة ماهو بالغ الخصوصية ولايجوز أن يباح به، لكن بوابة الثقة تتسع، وماكنت تعتبره بالغ الخصوصية يبدأ بالاقتراب من دائرة العلن، وهكذا تضخ ذاكرتك كدم لابد منه في أوردة أيام موتك البطيء.
هل يستطيع أحد منكم أن يتخيل كيف نكتشف بمرور السنوات، أننا استنفذنا كل شيء، وأننا تحدثنا إلى الجميع عبر بوابة الثقة التي افترضناها، بكل تفاصيل ذاكرتنا، بما فيها تلك التي كنا نصنفها على أنها أشد تفاصيلنا خصوصية، وأسرارنا وفضائحنا التي لايجوز أن تشاع.
ليس هذا مايبعث على البكاء أو على الجنون وربما على ماهو أكثر من ذلك، مايبعث على كل ذلك وأكثر هو اننا نكتشف اننا لم نعد أصحاب ذاكرة خاصة، وأن ذاكرتنا أصبحت مشاعا للآخرين، وأننا امتلكنا ذاكرة الآخرين وأصبحت جزءا من ذاكرتنا.
هكذا بعد سنوات طويلة من السجن … بعد سنوات طويلة من العيش على حافة الموت، نجد أنفسنا أننا بذاكرة واحدة، فنروي ذاكرة الآخرين كما لو أنها ذاكرتنا، ونروي أحداث حياتهم كما لو أنها تفاصيل حياتنا.
عندما نروي حياة الآخرين على أنها حياتنا، فإن هذا ليس كذبا كما كنا نتهم بعضنا في السجن، عندما لا يعرف أحدنا كيف يفصل ذاكرته عن ذاكرة الآخرين فهو لايكذب.
ماذا بإمكاننا أن نفعل إن كان كل مالدينا من ذاكرة وأحلام وأشخاص وفرح وحزن قد سكبناه في أتون هذا الجحيم الذي يبتلعنا..
هل يقدر أحد ما أن يعيد لكل منا ذاكرته الخاصة ..؟؟ هل يمكن لأحد أن يفصل أحلامنا وضحكاتنا وصرخاتنا وقهرنا وبكائنا ..؟؟.
لا أعرف حقاً، لكنني أعتقد أن الأمر يقارب المستحيل.
إذا ..هل ستكون أوراقي هي ذاكرتي وحدي…؟؟.
صدقوني أنني لا أدري، صدقوني أنني لا أعرف إن كنت أنا من حدثت معه هذه التفاصيل أو أنها حدثت مع أحد غيري.
لكن هل يهم هذا ؟؟.
سأكتب عن ذاكرة ما مفترضا أنها ذاكرتي، أما إن احتج الآخرون، الآخرون الذين تشاركت العري معهم في مساحة الثقة إياها ، وصرخوا بأن هذه الذاكرة هي ذاكرتهم، فهم محقون بنفس الدرجة التي أدعي فيها أنها ذاكرتي.

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.