الشرق الاوسط
البلبلة الفكرية السائدة حاليا في مصر والعالم العربي كله ناتجة عن الخلط بين المفاهيم أو عدم وضوحها حتى الآن. ولكن كيف يمكن أن تتضح ونحن لا نزال حديثي العهد بالتجربة الديمقراطية ومؤسسات الحكم الحديثة؟ الأشياء لن تتضح إلا تدريجيا ومن خلال الاشتباكات والهيجانات الجامحة. كان هيغل يقول: «لا شيء عظيما في تاريخ البشر يتحقق من دون أهواء مشتعلة أو صراعات هائجة». أول هذه المفاهيم التي ينبغي توضيحها هو التالي: هل الدين أداة سياسية أم دعوية؟ هل يحق لأي جماعة كائنة من كانت أن تحتكر لوحدها قدس الأقداس أو كنز الكنوز؟ الدين ملك للمجتمع ككل. الشعب المصري كله له الحق في الدين وليس فقط جماعة الإخوان المسلمين التي نجحت في السطو على رمزانيته المقدسة في غفلة من الزمن وبسبب جهل شرائح الشعب الأمية الفقيرة. بل وحتى بسبب تواطؤ «المثقف الأبله المفيد» الذي لم يشأ التصويت لمرشح الفلول! انتبهوا إلى هذا المصطلح جيدا: أليسوا هم الذين ساعدوا الخميني على الوصول إلى السلطة ثم كسحهم كسحا بعد أن اعتلاها؟ ماذا حصل لبني صدر وعشرات غيره؟ وبالتالي «فالمثقفون البلهاء المفيدون» كثيرون في الساحة العربية والإيرانية على حد سواء. وأنا أصبحت أشم رائحتهم على بعد خمسين كيلومترا فقط! ولست مستعدا لتضييع وقتي في النقاش معهم. من الواضح أن أي جماعة سياسية سوف تنتصر انتخابيا بشكل محتوم إذا ما نجحت في تقديم نفسها على أساس أنها الناطق الرسمي الوحيد باسم الله والدين. شعبنا متدين وسوف يصوت لهم بكثافة وحتى من دون تفكير. هكذا نجحوا في قسم الساحة السياسية إلى طرفين أساسيين: الجماعة «المؤمنة» الحامية للدين، وكل الأحزاب الأخرى التي تظهر وكأنها «معادية» له! هذه الحيلة هي التي انطلت على جماهير الشعب ومكنت الإخوان من القفز على السلطة في غفلة من التاريخ. وهو فرز ظالم وغير صحيح على الإطلاق. فجميع الأحزاب المصرية بما فيها الليبرالية العلمانية مؤمنة بالله وبمبادئ الإسلام الأخلاقية الكبرى. ولكنها تفهم الإسلام بطريقة سمحة على عكس جماعات الإخوان المسلمين وبقية التقليديين.
على أي حال فإن الصراع الجاري حاليا في مصر وكل العالم العربي هو بين تصورين للإيمان والتدين: تصور طائفي شعبوي راسخ الجذور منذ الدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة تقريبا، وتصور حديث صاعد لم يترسخ بعد. الأول يركز على الشكليات الخارجية والتقليد الأعمى والإكراه في الدين، والثاني يعيد الصلة بإسلام العصر الذهبي وبأفضل ما أعطته الحداثة العلمية والفلسفية والسياسية منذ قرنين أو ثلاثة. هذا الصراع بين كلا التصورين للإيمان والإسلام سوف يستمر زمنا طويلا قبل أن يحصل الحسم النهائي لصالح قوى التقدم والنزعة الإنسانية والإيمان المستنير. وينبغي على الجميع إدراك الحقيقة التالية: نحن الآن عبارة عن حقل صراع ضخم لقوى صاعدة وقوى هابطة، قوى تشد إلى الأمام وقوى تشد إلى الخلف، قوى تنفتح على المستقبل وقوى تنغلق على الماضي.. وسوف يكون الصراع ضاريا بلا شفقة أو رحمة. ورهانه الأعظم هو التالي: هناك مفهوم جديد للدين يحاول أن ينبثق حاليا في الساحة العربية ولكن بصعوبة كبيرة وألم مرير. آه ما أصعب القطيعة وما أمر الانفصال! يقول هيغل. ما أصعب قطع حبل السرة مع لاهوت القرون الوسطى والفقه القديم المترسخ في أعماق أعماقنا. من رحم القديم – وضده! – سوف ينبثق الجديد. هذا التصور الحديث للإيمان أو للتدين يطرح القشور ولا يستبقي إلا الجوهر فقط: أي القيم الأخلاقية والروحانية العليا للتراث العربي الإسلامي الكبير.
قد تقولون: وما علاقة كل ذلك بالديمقراطية الصورية/ والديمقراطية الحقيقية؟ والجواب هو أن الإخوان يركزون على الجانب الشكلاني الخارجي للديمقراطية معتبرين إياها مجرد وضع الورقة في صناديق الاقتراع وانتهى الأمر. وهم بذلك يهملون الأبعاد الفلسفية للحداثة الديمقراطية. ومن بينها احترام القضاء ودولة القانون والفصل بين السلطات واعتبار جهاز الدولة ملكا للشعب ككل لا للحزب الحاكم فقط. من هنا سقوط محاولة «أخونة الدولة». يضاف إلى ذلك أن من أهم مبادئ الثقافة الديمقراطية الاعتراف بحرية الضمير فيما يخص المعتقد والشؤون الدينية. وهو شيء يرفضونه قطعا حتى اللحظة. ولكننا نعلم أنه لا معنى للديمقراطية من دونه. إنها تفرغ من جوهرها ومحتواها إذا لم يتبنوه يوما ما. والدليل على رفضهم لهذا المبدأ الحاسم من مبادئ الحداثة الفكرية والسياسية هو لجوؤهم فورا إلى سلاح التكفير الفعال والفتاك عندما يحشرون في الزاوية. إنهم ينقضون على خصومهم بهذا السيف المسلط على رؤوس الجميع لكي يسهل عليهم دحضهم أو زعزعة مواقعهم الفكرية والسياسية. ألم يقل شيخهم عن شباب مصر الذي أسقط مرسي بأنهم «لا يعرفون الإسلام»؟. وهي عبارة ملغومة في الواقع. فظاهريا قد تبدو مخففة أو ملطفة ولكنها ضمنيا تعني تكفير كل من يفهم الإسلام بطريقة مخالفة للإخوان. وهكذا نكون قد عدنا إلى مقولة سيد قطب عن تكفير المجتمع لأنه يعيش حالة الجاهلية ولا يعرف الإسلام. ولكن لحسن الحظ فإن ثورة «تمرد» الأخيرة التي جمعت أكثر من ثلاثين مليون شخص دليل على أن الشعب لم يعد جاهلا إلى الحد الذي نتصوره. لقد اكتشف حقيقة الإخوان بعد أن جرب حكمهم لمدة سنة واحدة فقط. سنة واحدة كانت كافية لكي نشفى منهم نهائيا ومن ذلك الكابوس الأخطبوطي الجبار. وهنا تمت البرهنة مرة أخرى على صحة قانون هيغل عن «مكر العقل في التاريخ». فالعقل الكوني هو الذي يسير التاريخ البشري ولكنه أحيانا يضطر لاستخدام العناصر المضادة للتقدم من أجل تحقيق التقدم! يا له من مكر عظيم!
بقيت نقطة أخيرة ينبغي التوقف عندها لأنها مهمة جدا: وهي أن مجرد احتماء الإخوان بالمشروعية الديمقراطية حتى ولو شكلانية، صورية، سطحية، يعني حصول تطور هام في الساحة الإسلامية العربية. ففي السابق، وربما في أعماقهم حتى اللحظة، فإن الديمقراطية ما هي إلا بدعة غربية كافرة. هل يعقل أن تكون المشروعية للشعب؟ هل يعقل أن تنزل كنوز السماء إلى الأرض كما يقول هيغل أيضا؟ ما هذا الهراء؟ ولكن مجرد تبنيهم الظاهري لمشروعية التصويت الشعبي يعني أنهم استسلموا جزئيا لمسار الحداثة الكونية.
بقي أن يستسلموا كليا لها كما استسلم الكاثوليك البابويون في أوروبا: أي أن يعترفوا بالديمقراطية فعليا لا صوريا فقط.