من أنهى عصر البريد؟

horiifreedomحصلنا على الجنسية البريطانية عام 1989، بالبريد. وأخذت أول جواز سفر مؤقت من دائرة البريد (البوسطة) في الحي، قرب بائع الصحف الهندي. وكانت مع الجنسية رسالة من الملكة، تدعو لنا بالتوفيق. كذلك كان هناك شرح من بضعة بنود لحقوقي الخاصة وحقوق – بالمقابل – المملكة المتحدة. بين حقوق المملكة بند مفزع واحد: يحقّ لها سحب الجنسية إذا ما ارتكبت جرما أو خيانة عظمى.

عندما كانت الطائرة تهبط بنا في مطار مونتريال خلال الحرب اللبنانية، كان يقف على باب الطائرة رجل من مؤسسة حقوق الإنسان مناديا: «هل من طلاب لجوء؟». فتحت الدول المنفتحة على الإنسان أبوابها لاستقبال اللاجئين من كل مكان. وقد خالف بعضهم كل قوانينها وقوانين الإنسانية، مثل ذبح البنات على عتبة المنزل لأن الابنة قررت الزواج من دنماركي أو سويدي، وليس من العشائر. وفجَّر باكستانيون باصات لندن بركابها. وفجر مغاربة مطار مدريد العائد بزملائهم عمال إسبانيا. وفي الكويت خالف بعض الحماسيين كل أصل من أصول المخاطبة والمعارضة.
الحل؟ سحب الجنسية. حتى دولة مثل كندا، إحدى أكثر دول العالم نموذجية، قررت اللجوء إلى هذا التهديد: إذا كنت تريد أن تكون مواطنا يتمتع بكل الحقوق من علاج وطبابة وإعانة وحرية وتقاعد وسائر أنواع الضمان المعروفة، فيجب أن تحترم شروط هذه المواطنة. إذا كنت تفضل الذبح على العتبة ونسف المارة وركاب الباصات والقطارات، الرجاء البحث عن بلاد بلا قانون. أعِد لنا الجنسية.
لم تكن النظرة إلى المهاجر العربي مريحة، أو خالية من التمييز في أي وقت. لكن الآن، تُعرِّض قلة من الموتورين، ملايين المهاجرين إلى الخوف والقلق والشعور بالذنب، وتعطّل عليهم فرص وسبل الانصهار والنجاح والعيش الهادئ.
لن تصل أوراق الجنسية إلى عربي بالبريد بعد اليوم. ولن ينسى البريطانيون قول أبو حمزة المصري على فضائيات العرب إن لندن مجرد مكان يفرز فيه فضلاته. ولعل سحب الجنسية من الناس قرار شديد القسوة وخال من الرحمة أيضا. لكن الرحمة تراحم أولا، وليست في أن يذبح الأب ابنته، ولا في أن يسافر إلى سوريا والعراق لقتل الناس الذين لم يرَ لهم وجها من قبل. العالم أمام خيارين شديدي الوضوح؛ إما العدل والتراحم والتعايش والإنسانية، وإما بقر بطن السائحة الألمانية في أسوان، ثم اغتصابها.
إذا كان هناك من يرفض إعادة النظر في رؤيته للحياة البشرية فإن الدول التي عملت حتى الآن بسياسة الاحتضان الكلي، دون التوقف لحظة عند اللون أو العرق أو الدين أو الأصل، مضطرة أن تحمي أمّتها وطمأنينتها ونهج الحياة الذي جعلها في مقدمة أمم العالم. وقبل أن تنزل كندا عن موقعها كأول دولة في مقاييس الحياة المثالية، فإنها سوف تسحب جنسيات الذين يحرمونها من ذلك. انتهى للأسف عصر البريد.

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.