مملكة ميسان يتذكرها التأريخ‎

مملكة ميسان من الممالك القديمة والمؤثرة في تأريخ الحضارتين الرافدينية والفارسية للفترتين ما قبل وبعد الميلاد . وبالرغم من اهمية البحث والدراسة وبما يتعلق الأمر بمراحلها التاريخية منذ نشأتها وحتى تلاشيها ، فإنّا وجدنا صعوبة بالغة الشدة لموضوع البحث ، حيث تفتقر المواد التأريخية العربية والأجنبية من المراجع والبحوث والدراسات للمعلومات الكثيرة عن تأريخ المملكة ، وهي في الحقيقة وثائق شحيحة جدا ، ولكن هذا لايعني ان هناك تناسيا او تجاهلا من الباحثين الاثاريين والمؤرخين اللذين أعتمدوا على المعاينة للموقع التأريخي ودراسته عن قرب وبشواهد تأريخية دالة ، قد أثبتوا جدارتهم في توثيق هذه الحقبة المهمة للمنطقة الجغرافية لبلادي الرافدين وفارس .
وبالرغم من الأهمال واللامبالاة اللذين تبديه السلطات المعنية المتعاقبة في كلا البلدين العراق وايران ، بعدم جدية التنقيب والبحث والدراسة عن المواقع التاريخية لمملكة ميسان التي تتشارك فيها الدولتان بعمق جغرافي وتأريخي أكثر من دولا اخرى كانت داخل حدود المملكة ، ولربما يعود ذلك لأسباب سياسية أو دينية وتاريخية ، الا ان وبجهود كبيرة على ما يبدو قد بذلت من قبل بعض المختصين في مجال البحث من المانيا وفرنسا و بريطانيا وبعض المولعين بالتاريخ من جنسيات اخرى ولمدى عشرات السنين للقيام بتوثيق ناتجهم البحثي ، بيد ان القليل من هذه الدراسات قد نشرت وأغنت المكتبة البحثية العالمية بمعلومات ومخطوطات ومنحوتات وعملات معدنية نادرة وغير معروفة لدى الكثير من الهيئات والمؤسسات العربية المحلية والاجنبية المختصة بشؤون التاريخ والتراث .

أمضيت في هذه الدراسة عن مملكة ميسان لفترة ليست بالقصيرة للبحث في مصادر عدة للعثور على المعلومة التي يمكن القول بأنها موثوقة وقريبة الى الواقع الى حد ما . والمحتوى في هذا الموضوع ما هو الا قراءة بسيطة ومختصرة عن تاريخ مملكة مبسان منذ تأسيسها وحتى أضمحلالها وبتفاصيل تختلف عما قدمته بعض الدراسات والبحوث العربية من مواضيع ومقالات بحثية المنشورة الى الآن ..

الأمبراطورية الفرثية
فرثيا أو بارثيا كانت حضارة إيرانية متواجدة في الجزء الشمالي الشرقي من إيران الحالية، وكانت في أوج عظمتها، فالأسرة الفرثية حكمت كل إيران، بالإضافة لدول عديدة كالعراق، أرمينيا، جورجيا، شرق تركيا، شرق سوريا، تركمانستان، أفغانستان، طاجيكستان، باكستان، الكويت ، الساحل الشرقي للملكة العربية السعودية, الإمارات العربية المتحدة، البحرين, قطر, لبنان, وفلسطين .
البارثيون أو الفرثيون
(Parthians )
شعب من الشعوب الإيرانية القديمة (عرفوا في البداية باسم بارني
Parni)
استقرت هذه المجاميع والأقوام بعد ترحال في منطقة فرثية (خراسان) الجزء الشرقي من إيران، وتمكنت هذه الأقوام التخلص من السيطرة السلوقية خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وإقامة حكم أرستقراطي إقطاعي بزعامة ” أرشاك “
(Arshak)
زعيم إحدى قبائلهم الذي أسس سلالة ملكية حاكمة عرفت باسمه (الأرشكيون)، دامت قرابة خمسة قرون. وقد عُرف ملوكها في المصادر التاريخية العربية باسم (ملوك الطوائف).
أنتشرت السيادة الفرثية على بلاد بابل خلفاً للسلوقيين في عهد أرطبان أو أردوان الثاني “أرتبانوس” عند الأغريق (128ـــ124ق.م)، وشهدت مملكتهم ازدهاراً واتساعاً في عهد ميترادتس الثاني (88 ق .م ــ 12م)، وصار الفرات منذ عام 66 ق.م حدّها الغربي مع الامبراطورية الرومانية.
ظهرت بوادر نهاية المملكة الفرثية في الجانب الآخر (الشرقي) منها في إقليم فارس ـ الذي كان يتمتع منذ قرون بحكم ذاتي مستقلا عن المملكة الفرثية .
في 220 م ، قامت أسرة اقطاعية من سلالة ساسان بقيادة ” أردشير ” بشن حملات عسكرية هجومية على مراكز سلطة المملكة ، وكانت خاتمتها الفاصلة في تاريخ إيران من حملة خريف 224 م.
وفي 226 م توّج الساساني أردشير نفسه على العرش في طيسفون وأنهى السيادة الفرثية في بلاد بابل.
عدّ الفرثيون أنفسهم ورثة الأخمينيين، وأدعوا الانتساب إليهم، واتبعوا في مملكتهم نظاماً مزيجاً من التقاليد الإيرانية والهلنستية، لكن السلطة المركزية كانت ضعيفة ومهلهلة، وذلك لأن الأسر الأرستقراطية الإقطاعية الكبيرة كانت تتحكم باختيار الملك وتتوارث أهم الوظائف والقيادات.
قُسمت المملكة إلى مقاطعات كبيرة يحكمها قادة عسكريون وولايات يحكمها ولاة (ستاربة). بينما كانت المدن الإغريقية تتمتع بحكم ذاتي .
أما عن عواصم الفرثيين فكانت أولها ” هيكاتومبيلوس ” الواقعة في خراسان، ثم انتقلت إلى اقباتان (همذان) في ميديا، وصارت منذ القرن الأول قبل الميلاد طيسفون الواقعة على نهر دجلة.
كان البارثيون يتكلمون اللغة البهلوية (الأيرانية الوسيطة) وهي إحدى اللهجات الإيرانية الشمالية. ولكنهم استعملوا اللغة الإغريقية في مراسلاتهم مع المدن الإغريقية. واستخدموا علوم الإغريق وأساليبهم الإدارية. كما استخدموا التقويم السلوقي إلى جانب تقويمهم الفرثي، الذي يبتدأ من تأسيس السلالة الأرشاكية في عام 247 ق.م.
اعتنق الفرثيون الديانة المزدكية الإيرانية الشعبية، لكنهم كانوا متسامحين مع الديانات الأخرى.

ان الآثار الفرثية التي عثر عليها في إيران قليلة، أبرزها هياكل النار الحجرية في “برسبوليس” و “نورآباد ” ومشاهد منقوشة على صخور (صخرة تانجي سرواك).
أما في بلاد الرافدين فقد كشف عنها في مواقع عدة أبرزها:
1ــ أوروك (الوركاء): كشف فيها عن مبانٍ سكنية وثلاثة معابد فرثية هي:
ــ معبد صغير في الساحة الجنوبية للمبنى (بيت رش).
ــ معبد الإله ميثرا (المخلّص) : وهو عبارة عن مبنى نصف دائري .
ــ معبد غاريوس : في جنوبي المدينة.
2ــ نيبّور (نُفَّر): ضمت ثلاث مواقع من العصر الفرثي، من آثارها:
ــ معبد صغير في القسم الشرقي من المدينة.
ــ (القصر الصغير) في وسط القسم الغربي: تتوسطه ساحة ذات أعمدة من الآجر المفخور. ويختلف الباحثون في تأريخه بالعصر السلوقي المتأخر أو الفرثي المبكر.
3ــ بابل: ظهرت فيها ثلاث مواقع فرثية ضمن الشواهد المعمارية القديمة، كما كُشف عن:
ــ قلعة فرثية في أقصى الشمال.
ــ مبنى شمال معبد عشتار يشبه معبد غاريوس في أوروك.
ــ آثار ميناء فرثي متأخر كان يستخدم عند ظاهرة الجزر لمياه شط العرب في البصرة جنوب العراق.
ــ قبور متفرقة ومقبرة كبيرة في شرقي المدينة (تل حُميره) وبيوت سكنية كثيرة.
4ــ سلوقية دجلة (تل عمر): كُشف فيها عن معبدين فرثيين وفيما بينهما مسرح، وعن أبنية ودمى طينية وقطع فخارية. توسعت هذه المدينة خلال التواجد الفرثي في الضفة اليسرى لدجلة، حيث نشأت مدينة طيسفون (المدائن).
5- الحضر: ابتكر الفرثيون أسلوباً جديداً في تصميم مخططها على شكل دائرة يحيط بها سوران في كل منهما أربع بوابات. كُشف فيها عن عدة معابد أهمها معبد الشمس وعن قصر ذي سقف مقبّب زُيّنت جدرانه الخارجية بوجوه بشرية منحوتة بارزة.
6- دورا ـ أوروبوس (الصالحية): أُعيد فيها بناء معبد ” أرتيموس “، وبني معبد للإلهة” أترجاتيس ” (31م) وآخر للإلهة ” أزّانا ثكونا ” وسبعة معابد أخرى. وكُشف فيها عن عدد من المنحوتات الطقسية التي يظهر فيها تأثير الفن التدمري بوضوح.

تأثر الفرثيون بادئ الأمر بالحضارة الهلنستية تأثراً كبيراً، ثم برز بينهم تيار مولع بالنمط الإيراني الشرقي الذي دعا إلى نبذها. وبقيت حضارتهم ممتزجة بملامح هلنستية وبابلية آشورية قديمة.
يتمثل الطابع الفني البارثي المميز في تجسيد الشخصيات المؤثرة والفاعلة في مجتمعه ، وتميّز أزيائهم وزيادة الاهتمام بجماليتها. كما تظهر في شواهدهم المعمارية عناصر وأساليب فنية متميزة.
تركت أعمالهم الفنية تأثيراً واضحاً في الفن الساساني، وهي تعدّ مرحلة أساسية من تاريخ الحضارة الإيرانية.
ومن الممالك الكبيرة والتي كانت تابعة للامبراطورية الفرثية هي مملكة ميسان ، التي هي موضوع دراستنا .

مملكة ميسان
مملكة ميشان او( ميسان ) القديمة ، وهي اكبر مملكة ضمن حدود الإمبراطورية الفرثية في رأس الخليج لجنوب بلاد النهرين حوالي سنة 127 ق.م والتي انشأها الملك انتيوخس الرابع ، وذلك بعد تفكك إمبراطورية الاسكندر المقدوني. وكانت المملكة جزءا من الامبراطورية الساسانية ، وتولى حكم هذه المملكة 24 ملكا، وكانت نهايتها على يد أردشير الأول ، أول ملك للفرس الساسانيين قرابة عام 222 م.
بعد غزو الفرثيين لبلاد مابين النهرين في 141ق.م اصبحت مملكة ميسان مستقلة ، وقد حافظت على استقلالها ( ولربما كانت تابعة بشكل او اخر للامبراطورية الفرثية ) ولربما قد تحالف بعض جيوش الرومان معهم في نضالهم ضد العدو المشترك الفرثيين .
ويمكن التعرف على الملوك الذين حكموا مملكة ميسان من خلال العملات المعدنية المصنوعة من الفضة والتي كانت في بداية تولي ملوكها ذات نقوش بالاغريقية ، وبعد نيلها الحكم الذاتي تحولت النقوش من اليونانية الى الآرامية الشرقية ( المندائية )، وتاريخ هذه النقوش يعود الى العهد السلوقي التي كانت معروفة انذاك .

الجغرافيا

كانت الاميراطورية الفرثية ، تتالف من عدة ممالك شبه مستقلة ، ومملكة ميسان واحدة من تلك الممالك بجوار مملكتي الحضر وأرمينيا .
توصف مملكة ميسان من قبل المؤرخين القدماء ، ومعظمهم من الجغرافيين ، فيعرّفونها بانها المنطقة التي تمتد من جنوب بابل وجزء من بلاد فارس وأسفل بلاد بابل والتي تعنى ( الكويت ) ، والمستنقعات الكلدانية ( الاهوار التي تقع في الجانب العراقي والايراني ) الى ان تصل عيلام الفارسية ومن الجانب الغربي لتصل الى الجزيرة او الصحراء العربية .
ومركز عاصمة مملكة ميسان هو( كاراكس) ، وتقدر بواسطة المسح الجغرافي والتاريخي لها ، محاطة بسد ضخم وبأبعاد حوالي(3.2 كيلومتر طولا و 1.3 كيلومتر عرضا وبارتفاع مايقارب 4.6 مترا) . وكذلك احيطت موانيء مهمة كانت مستغلة تجاريا مثل ميناء
Apologos
ميناء البصرة الحالي الذي يقع على شط العرب في العشّار. وميناء
Teredon
والذي يقع في المنطقة الأثرية المطلة على الخليج في دولة الكويت . حيث بناء تلك الجدران السميكة وشاهقة هي في الحقيقة كانت سدود منيعة لدرء مخاطر الفيضانات المدمرة . كذلك انشأت السدود الضخمة على نهري “الكرخة والكارون ” من جهة بلاد فارس .
وكانت جنوب بابل تعاني من مشكلة الطمي نتيجة ترسبات نهري دجلة والفرات ، فكانت ضفاف الأنهر بدأت تندفع اكثر فأكثر بمرور الوقت الى مياه البحر.

دراسة المواقع المهمة والرئيسة لمملكة ميسان وعاصمتها كاراكس وكذلك مناطق نهر الفرات ، والتي قام بها الكاتب والباحث ” هنزمان ” عام 1965، والتي استند فيها على ماكتبه ” بليني :
[[ لقد لاحظنا بأن اسم
” كاراكس Charax
العاصمة والذي يعني ” االقلعة المحصنة ” وفيها جدران ضخمة تمتد الى 3.2 كيلومتر طولا ، للحماية من الفيضانات التي تحصل بين الفينة واخرى ” . اي بمعنى ان العاصمة كاراكس كانت عبارة عن هضبة مرتفعة على ضفاف نهر دجلة .كما يذكر بليني ” ان العاصمة التي تقع بالقرب من التقاء قناة النهر يوليس ( نهر الدز الذي يقع في الأهواز ويتفرع منه قناة الكارون ) مع نهر دجلة في أسفل بلاد الرافدين ” .
” وقد أظهر المسح الجوي وبشكل واضح ، قناة مياه مهجورة في الأتجاه الجنوبي الشرقي والقريبة من نهر دجلة حيث التقاء نهري الدز والكرخة الحالية ، وتظهر معالم هذه المنطقة في الصور بشكل هندسي شبه منحرف ، ويتابع ” هنزمان ” وعند زيارتي للموقع سنة 1965، شاهدت هناك السدود ذات الجدران التي لازالت قائمة والتي تم اكتشافها على يد الآثاريين ، وكانت السدود الشمالية والشرقية سليمة إلى حد كبير ، ولكن السدود الواقعة في الغرب والجنوب قد عانت من التآكل والأضمحلال . فالجدران السليمة تبلغ ارتفاع لتصل 4.6 متر . انشأت السدود جميعها تقريبا على سطح الارض وليس في عمق الأنهر، كما يحصل الآن .
تم العثور على الطوب المحروق والتي تغطي اراضي مواقع السدود مع رواسب الطمي التي خلفتها الفيضانات المتكررة ، وعثر أيضا على بعض الأجزاء من النقوش في المناطق المرتفعة من جدران بعض السدود تعود الى الفترة الساسانية ، وأوائل الحكم الاسلامي للمنطقة . .
كان طول جدار السد الشمالي حوالي 2.8 كيلومتر ، والغربي 1.5 كيلومتر ، والشرقي 1.3 كيلومتر ، والجنوبي 3.2 كيلومتر، وكان تحديد بليني للأبعاد مقارب الى حد ما وحسب تقديرات الفنيين في الوقت الحاضر ]] .. ( الأقتباس ـــ هنزمان ).
وكان مابين مملكة ميسان ومملكة الانباط عدة جزر ، ابرزها ” البحرين ” حيث كانت نقطة انطلاق مهمة في الطريق الى الهند .

كان مناخ مملكة ميسان في العصور القديمة ذا شتاءا باردا قاسيا ، وفي فصل الصيف ساخنا ورطبا للغاية ، كان هطول الامطار نادرا ، وكانت الانهار غنية بالمياه ، وتسبب الفيضانات المدمرة في الكثير من الاحيان ، ولكن بالرغم من كل هذا وذاك فان البلاد غنية ايضا بالمحاصيل والمزروعات .

مملكة ميسان المعروفة بـ ” ميشان ” كانت تقع في المقام الاول في جنوب وشرق بلاد الرافدين والتي عاصمتها
(كاراكس سباسينو Charax Spasinu)
في المنطقة الجغرافية مابين العمارة والبصرة في جنوب بلاد الرافدين للملكة لتصل حدود المملكة الى مدينة عيلام شرقا ، وهي كجزء من الامبراطورية الساسانية .
وتمتد حدود هذه المملكة من جنوب بلاد بابل وبعض المناطق الغربية من ايران ، والصحراء الغربية الجنوبية من بلاد النهرين ، ويمتد توسعها لتصل الى تايلوس جنوبا ( الاسم الاغريقي لمملكة البحرين أو ,,دلمون ,,التسمية البابلية القديمة) . وكانت تشكل ميناء مهما على رأس الخليج ، حيث سيطرت على الملاحة البحرية في الخليج وفي شط العرب وأنهار الكارون ودجلة والفرات .

تأسيس المملكة
بعد غزو الاسكندرالكبيرالمقدوني للمنطقة في سنة 324 ق.م ، قام بتأسيس مملكة تابعة لسيطرته اطلق عليها الاسكندرية ، وعندما طمرت اجزاء كبيرة من معالمها جراء السيول والفيضانات ، اعيد بناؤها في عهد الملك انتيوخس الرابع ، واجتاح فيضان اخر ودمر مساحات واسعة من العاصمة ، واعيد بناؤها واطلقت عليها تسمية ( هضبة هيسباسينز
“hill of Hyspaosines” )
وهيسباسينز هو الحاكم الاول (الملك انتيوخس الرابع ) لتلك المنطقة الجغرافية الممتدة من جنوب بابل حتى البحرين جنوبا من منطقة الخليج ، اما الملك الساساني أردشير منحها اسما اخر ( أسترباد اردشير ) وعندما احتلها المسلمون قاموا بتسميتها ( كرخة ميسان ) .

مابين عام 164 ــ 165 ق.م ، كان الملك انتيوخس الرابع حاكما على اليمن والحبشة لأربعين عاما، وكان هذا الرجل قادرا على توسيع نفوذه ليصل الى اجزاء كبيرة من بلاد فارس وبلاد بابل ، وقد بعث بابنه ” تيموثاوس ” الى سلوقية ( قطيسفون ) على رأس جيش جرّار ، ولكنه ردّ هو وجيشه على اعقابه .
هناك نصوص مؤرخة صيغت منذ عام 145ق.م ، وكذلك مسكوكات معدنية عثر عليها ، وعلى مايبدو فان
“هايسبويسينز” ( Hyspaosines ) ،
كان ملك ميسان ، ولكن هذه العملة ،تؤشر بانها قد سكّت قبل تولي ” هايسبويسينز العرش اي في الثلاثين من مايو/ أيار من سنة 127 ق.م على مملكة ميسان ، وهو التاريخ الذي يعتقد بتأسيس مملكة ميسان أو ميشان كدولة مستقلة ، ولكن بالرغم من ذلك فان النقش الآرامي على العملة يحمل صفة الملك ، وبالتالي فان اعتماد اللقب الملكي وكذلك تأسيس المملكة في ذلك التاريخ ، هو موضع جدل بين المؤرخين ، ويعتقد بان التاسيس قد حصل في 129 ق.م ، وهو العام الذي قام به ( انتيوخس السابع ) لاستعادة جميع مناطق بلاد النهرين من الفرثيين كمحاولة أخيرة ، ولكنها باءت بالفشل .
كمحاولة لسد الفراغ في السلطة ومحاولة للتستر على الفشل في المعارك التي تحصل بين الحين والاخر، جاءت فكرة تأسيس أو انشاء مملكة كبيرة تضم مناطق عدة تمتد من جنوب بلاد بابل لتصل الى البحرين جنوبا وشرقا حتى اقليم إيلام ( عيلام ) . وهناك نقش من البحرين عثر عليه في احد المعابد التاريخية القديمة ( لتمثالي التوأمان كاستور و بولوكس أبناء تنداريوس ) يظهر اسم الملك هايسبويسينز وزوجته الملكة ثاليسيا ، ملكا لمملكة ميسان .
مع تأسيس مملكة ميشان وهي جزء من الاميراطورية الفرثية مع الادارة الاقليمية لها ، أو مايسمى ” الحكم الذاتي ” .
هايسبويسينز الملك توفي في يونيو / حزيران من سنة 124ق. م عن عمر ناهز 85 عاما ، بسبب مرض لم يمهله سوى اربعة ايام .
يمكن اعتبار الملك هايسبويسينز، المؤسس الفعلي لمملكة ميسان ، بسبب العثور على عملات معدنية منقوشة تأريخها يعود الى سنة 122ق.م واسمه يظهر عليها بشكل واضح وصريح .
مركز وثقل الفرثيين قي مملكة ميسان غير معروف في فترة حكم الملك هايسبويسينز، ومن حيث دراسة التاريخ يبدو مغمورين وليس لهم دور يذكر في حوالي 140ق.م.
في بلاد النهرين وبعد ان تم السيطرة عليها من قبل الفرثيين ، كانت هناك فرصة للاتقاق مع القبائل البدوية العربية في شرق المنطقة ، ورغما عن ذلك فان تشكيل تحالف لشن هجمات لاستعادة بعض المناطق التي احتلها الفرثيون كانت غير مجدية في الكثير من الاحيان .
أعيد تأسيس المملكة في سنة 127 قبل الميلاد على يد الملك ” أنتيوخوس الرابع ” بعد ان خربتها الفيضانات ، واستمرت مملكة ميسان بوجودها كمملكة مستقلة تحت حكم الفرثيين حتى الاستيلاء عليها من قبل الساسانيين في بداية القرن الثالث الميلادي ، لكنها بقيت تتمتع بشبه حكم ذاتي الى ان اضمحلت بسقوط الامبراطورية الفرثية .
المدينة الجديدة او العاصمة الجديدة والتي تعرف بـ ” كاراكس “، على الارجح من المفترض ان تكون بمثابة الميناء التجاري الرئيسي في العاصمة الشرقي لمدينة بابل .
وهو الميناء الذي ظل في الامبراطورية السلوقية من شأنه التعامل مع التجارة البحرية ، وذلك للسيطرة على التجارة البحرية بشكل كامل في الخليج والمحيط الهندي من خلال الهيمنة على الممر الرئيسي الممتد من مدينة بابل الى ميسان ثم الى الى عمق الخلييج ليصل الى تايلوس ( البحرين حاليا ) ، وكانت هذه المناطق الواقعة على البحر مركزا ستراتيجيا للغوص في البحث عن اللؤلؤ .

روي عن الامبراطور الروماني” تراجان ” خلال حربه مع بلاد فارس سنة 116 م ، وكان قد زار مملكة ميسان ، وقد شاهد كيف ان السفن التجارية العملاقة والمحملة بالبضائع المغادرة والتي تمخر عباب البحر الى الهند ، وقد كانت المملكة بمثابة مركز التجارة العالمي آنذاك، فتأسف على شبابه الذي ضاع والذي حال دون سفره الى الهند . هذه البلاد العجيبة والزاخرة بالحضارة والعمران كما فعل الاسكندر الاكبر، بسبب كبر سنه وضعف تحمله للسفر الشاق . وكانت امنيته بأن يضم الهند الى امبراطوريته .

” بليني الاكبر ” في كتابه ” التاريخ الطبيعي ” يصف ميناء كاراكس :
( ُشيّدت السدود على مقربة من ميناء كاراكس ، والذي يمتد على طول مسافة 4 كيلومترات ونصف ، ويبتعد قليلا من الشاطيء على مسافة كيلومتر واحد وثلاثة ارباع الكيلومتر، ووفقا لـ ” جوبا ” فالميناء بمساحة مايقارب 7.5 كيلو مترا مربعا يمتد في عرض البحر ، وفي الوقت الحاضر من ايامنا هذه ، والزيارات التي قام بها تجار من مناطقنا ، وكذلك من السكان المقيمين ، فان المساحة تقدر بـ 18 كيلومترا مربعا في البحر ” .
وفي الواقع فان اي جزء من بقاع العالم الواقعة على البحار او القريبة منها ، معرضة الى الطمي بسبب الرواسب الطينية الغرينية
والتي تتشكل بسرعة كبيرة باسباب الظواهر الطبيعية للمد والجزر ، لذا ليس من السهل ان يتم تحديد مساحة الميناء تاريخيا بدقة .
سنة 221 ــ222 م ، قاد المزربان ” أردشير ” ثورة ضد الامبراطور الفرثي واقامة الامبراطورية الساسانية ، ووفقا للمصادر العربية فان اخر ملك لميسان قتل ، واعيد بناء المدينة وغيرت تسميتها الى ( أستراباد ـ اردشير) …

العاصمة
كانت العاصمة للملكة ميسان في بداية تأسيسها سنة 324 قبل الميلاد في منطقة الخليج عند مصب نهري دجلة والفرات ( مدينة القرنة حاليا شمال محافظة البصرة جنوب العراق )، ويطلق عليها أسم ” الأسكندرية ” نسبة الى الاسكندر الأكبر، الذي ضمّ تلك المنطقة لسيطرته السياسية والعسكرية ، وهذه التسمية ذكرها “بليني” ، ومؤسس المملكة الملك ” أنتيوخس الرابع ” ) ، وكانت العاصمة مهمة جدا للتجارة الخارجية من بلاد مابين النهرين الى الهند ، وكانت الطريق الملاحي التجاري الاستراتيجي مع ميناء المدينة الفارسية العظيمة ” سوسه ” من خلال نهر ” الكارون ” الذي يصب ايضا في شط العرب جنوب العراق .

كانت عاصمة مملكة ميسان على نهر دجلة والتي بناها ” أنتيوخس الرابع ” والتي تمتد جنوبا الى جزيرة ” فيلكا ” في الخليج والتي هي الان تابعة لدولة الكويت ، فدمرها الفيضان واعاد بنائها ، وأطلق عليها لقب ” أنطاكيا ” وسمبت بعد ذلك ” كاراكس “.
ومنذ منتصف القرن الثالث الميلادي كانت الأمبراطورية السلوقية تمتد لتلك المساحات الشاسعة من الشرق الأوسط الى الهند ، وفي منتصف القرن الخامس الميلادي كانت الامبراطورية لتبدو ضعيفة لبعد مركز القرار من تلك الممالك وكذلك ضعف اداء القائمين على تلك الممالك المبعثرة والشبه مستقلة ، فكثير من الاوامر والبلاغات الصادرة من مركز الامبراطورية لاتجد لها اذان صاغية ولا جدية في تنفيذها من قبلهم .
ففقدت الجزء الشرقي من الامبراطورية الى الأبد ، وبذلك فقد سيطر المرزبان ” أردشير” وجيوشه وأصبحوا الأسياد الجدد على مملكة ميسان وأحكموا سيطرتهم عليها
كان نهر دجلة وشط العرب في جنوب العراق من الممرات التجارية المهمة في مملكة ميسان واللذان يعتبران من البوابات التجارية الرئيسية الأقرب لتبادل السلع والبضائع مابين بلادي بابل واشور وشمال افريقيا والهند والشرق الأقصى ، وكانت معظم البضائع التي تصلهما من تلك البلدان هي العطور والتوابل والاحجار الكريمة والعاج ، وجميع انواع الأخشاب الصلبة والحرير ايضا .

كاراكس سباسينو
( Charax Spasinou )
الأسم الأغريقي القديم لعاصمة مملكة ميسان القديمة والذي يعني ( السور المحصّن ) ، وكانت تلك التسمية سارية على بعض المدن السلوقية . وكانت كاراكس تسمى بالاصل ” الاسكندرية ” نسبة الى قائد الجيوش الغازية المقدوني ” الأسكندر الكبير” ، والتي لربما هو الذي أنشأها في 324 ق.م وسميت باسمه . وبعد ان دٌمرت تلك العاصمة العريقة جرّاء الفيضانات المتعاقبة أعيد بناؤها مرة اخرى من قبل الملك ” انتيوخوس الرابع ” وأستبدل اسمها بــ
( أنطاكيا Antiochia )
، وفي ذاك الوقت أقيم سد بطول حوالي اربع كيلومترات ونصف على طول ضفاف العاصمة . وعند تولي الملك
“هيسباسينز( انتيوخوس الرابع ) Hyspaosines”
العرش على ميسان أستبدل اسمها ثانية الى
” كاراكس هيسباسينز Charax of Hyspaosines ” .
ولكن هذه الفرضية تقودنا الى تلك التسمية التي تعود الى الاسم الآرامي لـ ” الكرخا ” والذي يعني ” الحصن ” ، لذا من الممكن ان نقبل بان كاراكس هو استعارة للاسم الآرامي كرخا . والعاصمة كاراكس حسب ماذكره ” بليني ” تقع مابين نهر دجلة ونهر الكارون من اليسار عند منطقة التقاء هذين النهرين أي عند شط العرب حاليا عند محافظة البصرة جنوب العراق ، وقد استمرت كاراكس عاصمة مملكة ميسان لمدة 282 سنة ، وكانت عاصمة متعددة الأعراق والأديان تسودها الاستقرار السياسي والأقتصادي لحين اندحار الفرثيين واقامة الأمبراطورية الساسانية على يد ” اردشير ” الساساني وأحتلاله مملكة ميسان وعاصمتها كاراكس مابين 221 ـــ 222 م ، وغير أسمها الى ” أسترآباد ــ اردشير ” ، ولكن بالرغم من هذا استمر تسميتها بـ ” كاراكس ” حتى مطلع القرن الخامس الميلادي .
تسميات المملكة
مملكة ميسان اعيد تسميتها الى الآرامية الأصلية ” ميشان “، وهنا تم ذكر الكنيسة النسطورية لأول مرة في القرن السادس الميلادي حتى قيام الغزو الأسلامي في القرن السابع الميلادي ، وأستبدل أسمها مرة اخرى باسم عربي ” ميسان ” مشتقا من اسمها الآرامي ” ميشان ” . وفي نهاية القرن التاسع الميلادي عند حكم الأمويين تم التخلي عن العاصمة ومملكتها كمواقع استراتيجية بسببين أولهما الفيضانات وذلك لاهمال صيانة السدود ،والثاني انخفاض معدلات التجارة الملاحية والبرية مع الغرب والمناطق الواقعة على طريق الحرير.
تأسست مملكة ميشان من اطلال الامبراطورية السلوقية بعد تفككها الى دويلات ، وبعد غزو الفرثيين للملكة فقدت المملكة جزء من استقلاليتها ، واستبدل نظامها باشبه مايعرف بالحكم الذاتي بعد سقوط الامبراطورية الفرثية على يد الساسانيين في بداية القرن الثالث الميلادي .
وردت ميشان بتسميات متعددة ، ففي الارامية (ميشان ــ والتي تعني “الارض الوسطى” ــ اي المساحة المحصورة ما بين بلاد بابل وبلاد الفرثيين ، لذا سميت بـ ,,ميشان ,,) والسريانية وردت بصيغة ( ميشا ) ، وفي العبرية ( ميشون) ، وفي الفارسية (ميسون) ، والعربية ( ميسان) .
اما (مدينة العمارة وما حولها الواقعة جنوب العراق) والتي هي الجزء المهم من مملكة ميشان ، فهي مدينة قديمة موغلة في القدم ، حيث تشير المصادر التاريخية بأنها شيدت من قبل الاسكندر المقدوني سنة ( 324 ق.م ) ، كجزء من عاصمة المملكة ،والملاصقة لمملكة بابل العظيمة، وتعزى أهميتها لكثرة القلاع والحصون ومخازن البضائع وكذلك عنابر خزن الحبوب المشيدة ومخازن للسلع التجارية للقواقل القادمة من اعالي ووسط بلاد الرافدين من مناطق اشور وبابل ، ووجود السدود الترابية القائمة على ضفاف نهر دجلة وتفرعاته درأ لمخاطر الفيضانات التي كانت تجتاح المنطقة بين اونة واخرى .
واستمر ذكر اسم ميشان حتى عام ( 1340 م ) بعد ذلك توقف النشاط التجاري لها ليتخلى عنها إلى منطقة فرات ميسان ( البصرة حاليا ) العاصمة الاقليمية لمملكة ميسان .
كذلك من التسميات الشائعة لميسان ( كورة دجلة ) والتي تعني مجموعة من القرى الواقعة على امتداد نهر دجلة ، كذلك وردت تسمية ( المذار ) عنوانا دالا على ميسان .
يرجع الغزو الاسلامي لميسان سنة ( 633 م) على يد القائد العربي عتبة بن غزوان اثر معارك متعددة في منطقة المذار .
حكم ميسان في العهد الاسلامي عدد من الولاة امثال النعمان بن عدي بن نعثلة ، والحسين بن الحر و القعقاع بن شور، وذلك في عهد الخليفة الرابع علي بن ابي طالب .

التأريخ
المملكة التي أسسها الإسكندر الأكبر بعد غزوه للمنطقة كما الإسكندرية على نهر دجلة، وقد شيدت بأشبه تلال اصطناعية لحماية الموقع من مياه الفيضانات للأنهار المجاورة. وربما كان الهدف من تأسيس المملكة الجديدة ،هو لتكون مثابة ميناء تجاري كبير للعاصمة الشرقية له من بابل، وهو ميناء الذي من شأنه التعامل مع التجارة البحرية الغنية على حد سواء للمناطق التي احتلت لأجزاء من أراضي الهند الحديثة، و كذلك من شبه الجزيرة العربية. لتوفير وتأمين مساكن ومعسكرات ومصادر تموين ومعيشة ما يكفي لصفوف جيوشه العائدة من القتال ..( بليني ، ديورن6.311.138) .
وخلال السنوات اللاحقة لم تصل توقعات مؤسسها بالمستوى الكامل الى ماكان يطمح اليه. فعلى سبيل المثال ، بحلول منتصف القرن الثالث ما قبل الميلاد ، كانت المدينة العربية المستقلة ” الجرهاء أو الجرها ” والتي تقع جنوب المملكة العربية السعودية ، في محافظة السقيف تحديدا ، كانت ميناءاً ستراتيجيا مهما ومركزا لتجارة وتبادل السلع مابين الهند والجزيرة العربية ومنها الى كل الأراضي السلوقية ، والبلطمية في مصر( تارن ــ ص 63 ــ 367 ) ، ولكن الطموح والهدف هو لا شريك في الممر التجاري الخليجي .
وهذه القنوات التجارية بقيت بعد ذلك دون تغيير حتى تولي الملك ” أنتيوخس الرابع ” العرش السلوقي والتي ضمّها لسلطته فيما بعد . وكان الملك أنتيوخس قد عقد العزم على معالجة الأقتصاد المتعثر في مملكته ولتعزيز هذا الهدف هو تحويل التجارة البحرية الهندية أحتكارا خاصا بالمملكة ، وكان العامل الرئيسي في المخطط يتمثل بإعادة بناء الأسكندرية الجديدة باعتبارها جزء مهم من ” أنطاكيا “.
كانت انطاكيا ” تتمتع بقدر كبير من الرخاء والاستقرار ،وكان تاثيرها يبدو جلياً على سائر انحاء المملكة ، ولكن بعد فترة وجيزة من الوفاة المبكرة للملك أنتيوخس في 124 ق.م ، كانت إيذاناً بإنتهاء خطط الملك لانعاش اقتصاد بلاد مابين النهرين ، علاوة على ذلك ، تم اضعاف سيطرة النفوذ المركزي السلوقي في جميع أنحاء العالم الى حد كبير ، بحيث وصل الامر للمطالبين والمتنافسين على العرش الى اشعال الحرب الأهلية في سوريا .
وكنتيجة نهائية لهذه الفترة من عدم الاستقرار الداخلي، اخذت عدة مناطق صغيرة من داخل الإمبراطورية بقطع العلاقات السياسية مع السلوقيين وأعلنت بأنها دولا مستقلة.
” إيلام “، التي ضمت الكثير من أراضي خوزستان في جنوب إيران، وهي منطقة تقع إلى الشرق من ميسان، كمثال على ذلك . اما ” هايسبويسينز Hyspaosines ” يبدو أنه قد ظل مخلصا للسلالة السلوقية، على الرغم أنه ومن الأرجح وجد نفسه ومملكته بسيادة مستقلة تقريبا عن أنطاكيا. ولتشبثه بالعرش والحفاظ على مكاسبه . ولم يكن اي تعثر في النشاط التجاري الملاحي للملكة عبر نهر دجلة الى سلوقية .
في سنة141 ق.م أوقع الملك الفرثي ” مثراديتس الأول ” الهزيمة بمنافسه السلوقي ” ديمتريس الثاني ” في بلاد مابين النهرين ، وبعد مدة ليست طويلة تمكن من الأستيلاء على سلوقية بأكملها ( مرجع هذه الأحداث ــ ديبفواز ص 25 ) .
على الرغم ان ديمتريس الثاني استعاد جزءاً من بلاد مابين النهرين لاحقاَ ، ولكن التهديدات التي لاحت مملكة ميسان من السلطة الفرثية لحدودها القريبة جدا من خطر الفرثيين ، وعلى مايبدو تشكلت القناعة الكاملة بأنها الفرصة المتاحة لدى ” هايسبوسينز ” ملك ميسان بأن يعلنها مملكة مستقلة ، وأعلن عن نفسه ملكا مستقلاً على ميسان . وتشير المصادر التاريخية بأن هذا الأختراق الأخير من السلوقيين حدث مابين 141 و 139 ق.م ، عندما تمكن ” مثراديتس الأول” من هزيمة ” ديمتريس الثاني ” مرة اخرى ووقع أسيراً في يديه ( نودلمان ص. 87 ) .
أطلق الأسكندر الكبير على المنطقة المحصورة بين نهري دجلة والفرات جنوب بابل ونهر الكرخة في شرقها بــ ” الأسكندرية ” ، وكانت هذه هي المركز التجاري الكبير بالاضافة الى الزخم السكاني المحلي الكثيف نسبيا ، وأعداد كبيرة من الجنود المقدونيين المتواجدين في القاعدة البحرية العسكرية والتي تعد منطلقا للسفن والمراكب للهجوم على المناطق المجاورة والتي هي خارج سيطرة الأسكندر ، بالاضافة الى ذلك كانت تعتبر هذه المنطقة من المواقع الخلفية لجيوش الاسكندر،لاخلاء الجنود والفرسان الجرحى والمصابين ومصدرا من مصادر التموين أيضا ، ويمكن ان تكون الملاذ للعديد من التجار واصحاب المصالح والمهن ، فعكف الكثير منهم على الأقامة والأستقرار بشكل دائم ، بالاضافة الى الجرحى والمعاقين الذين فضلوا البقاء والاقامة الدائمية في هذه المنطقة والمناطق المجاورة وربما لاصابتهم البليغة واعاقتهم وتخلي الجيوش عنهم لعدم الأستفادة منهم كمحاربين ، ليشكلوا عبئا عليه وكذلك لصعوبة نقلهم الى اوطانهم الاصلية ، فمالوا الى الأستقرار بعد ان اقترنوا من النساء القاطنات في تلك المناطق ، وشكلوا أسراً وعوائل ، لذا نجد ملامح هؤلاء الجنود والأخرون الى الآن واضحة في العديد من سكان تلك المناطق والتي استوطنها الأغريق والرومان ايضا ، كالبشرة البيضاء والعيون الملونة والشعر الأشقر والطول الفارع ، في حين لاتشير الينا المصادر التاريخية لا من قريب ولا من بعيد بوجود تلك الصفات والمورثات لدى الشعوب السومرية والبابلية والاشورية وحتى لدى الشعوب الفارسية من قبل الغزاة لتلك البلدان .

القرن الاول ماقبل المسيحية

بعد وفاة ” ثاليسيا ” ارملة هايسبوسينز ملك ميسان حاول بتنصيب ابنه على العرش ، ولكن المصادر الارامية التي تقدمت لم تعطينا بشكل واضح وصريح عن اسم الابن المفترض ان يكون ملكا على ميسان ، والاسم الاقرب الى التخمين هو الملك ” ابوداكس” الذي شغل العرش (110 ــــ 109ق.م) ، ومن تاريخ العملات ، فانه يبدأ من جديد في ظل النظام يعد انقطاع دام 10 سنوات فانه لايزال غير معروف هل هو فعلا ابن الملك المؤسس ؟ ، ويمكن ان نفترض بان مملكة ميسان هي جزء من الامبراطورية الفرثية وكانت مملكة تابعة ، وكان الملك فيها ( ميثريدتس الثاني ) 123 ــ88 ق.م ، وعادة لاتعرف فترات حكم الملوك الا من خلال عملاتها المعدنية

القرن الأول والثاني الميلادي
كان القرن الميلادي الأول هو أوج قوة وسيطرة الأمبراطورية الفرثية ، اما النصف الأول من القرن الثاني كان الاكثر إزدهارا للتجارة في معظم انحاء الامبراطورية ، وبالأخص في عاصمة مملكة ميسان حسب ماورد في النقوش الاثارية والتي دوّنها المؤرخ اليهودي ( فلافيوس جوزيفوس ) .
في حوالي ( من سنة 10ــ 14م) ، وحسب ماورد من جوزيفوس ، بأن الأمير ” أديابين إزاتيس ” ابن الملك ” مونوبازوس ” تزوج من ” سماحو” ابنة التاجر اليهودي ” حنانيا ” ، ويذكر ان اقامتهم كانت في القصر الملكي بعد أن تحول الأمير الى ديانة زوجته اليهودية . وليس من المستغرب في مملكة ميسان التحول الى الديانة اليهودية ، وكذلك تواجد التجار اليهود بأعداد كبيرة جدا، طالما اليهود لهم تاريخاً راسخاً في بلاد الرافدين ,
كان جميع ملوك القرن الاول الميلادي الذين حكموا ميسان ، معروفين بالمسكوكات التي كانت تحمل اسماؤهم ، ماعدا الملك ” أوربزس” . وفي نهاية القرن الأول الميلادي ، ولقرابة ثلاثين سنة (73 ــ 102م ) لم يعثر على مسكوكات معدنية تحمل تاريخ تلك الفترة ، ويمكن للمرء ان يتكهن فيما اذا كان الحكام الفرثيين كانو قد حكموا في الفترة ذاتها، وعل مايبدو انهم قد منعوا من سك النقود التي تحمل صور وأسماء ملوكها طوال القرن الثاني الميلادي عند فترة حكم الأمبراطور الفرثي ” باكورس ” والذي تولى حكم مملكة ميسان مركزيا ، وفي الحقيقة عند سنة 130م وجد ان ابن الأمبراطور باكورس كان على عرش ميسان ملكاً .
طوال القرن الثاني للميلاد ، وكانت الامبراطورية الفرثية ، تعمل اتفاقيات ومواثيق داخلية وخارجية مختلفة مع الرومان ، ولكن من غير المعروف اذا كانت تلك الاتفاقيات لها تاثيرا سلبيا ام ايجابيا على الوضع في المملكة وبالأخص في فترة حكم الامبراطور الروماني ” تراجان ” 117م .
كان جزء من الامبراطورية الفرثية قد استولى عليه الرومان بدون قتال في فترة حكم ” أتامبيلوس السابع ” .

سياسيا
يمكن التكهن بأن الفرثيين قد تدخلوا بشكل مباشر او غير مباشر في الشؤون الداخلية للملكة ، وحصولها على الحكم الذاتي أمر غير مؤكد ايضا ، في حين بعض الدراسات والابحاث أشارت الى ان مملكة ميسان يمكن اعتبارها مستقلة تقريبا .
في ظل حكم الملك ” ارتابزوس ” 49 ــ50 م ، لم يكن هناك مؤشر على بأنه استمد قوته من الفرثيين على حسب ما أورده المؤرخ اليوناني ” لوسيان ” ( 125 ــ 180 م ) .
خلع الملك ” ميرديتس ” الذي كان بحكم مملكة ميسان في سنة 151 م بعد غزو الملك الملك الفرثي ” فولوكاسس ” وتنصيب ابن الملك المخلوع ” باكوروس ” ملكا على ميسان ، بعد ان كان والده الميساني ” ميردس ” الذي كان مستقلا بحكمه بعيدا عن السيطرة الفرثية ، والذي كانت زوجته فرثية الأصول ، فكان الأبن الملك خير من تعاون مع الفرثيين ، وبذلك أفقد مملكة ميسان استقلالها . ، واتبع الفرثيون نفس الوسائل والطرق لأخضاع ممالك اخرى تسعى للاستقلال والتي كانت جزء من الامبراطورية الفرثية .وهذا الذي حصل تماما في مملكة ” أرمينيا ” بعد ان قام ملوكها بتنصيب ابناؤهم على بعض الأقاليم التابعة لها كملوك عليها دون اعتبار لسلطة وقوة الفرثيين دعما لاستقلالها .
وتبين من خلال الذي حصل للملك ” ميردس ” فان الملوك والامراء الذين حكموا الممالك والاقاليم التابعة للسيطرة الفرثية ، لم يكونوا موالين او مخلصين تماما للأوامر الامبراطورية . بيد من ناحية اخرى ، لايعرف تماما كيف كانت تجري الأمور ما وراء الكواليس .
في الكثير من الأحيان لايعرف نسب الملوك العائلي الذين حكموا مملكة ميسان ، ولكن يمكن معرفة البعض الاخر من خلال العملات النقدية والمسكوكات المعدنية التي تحمل اسم الملك وصورته وتأريخ توليه العرش .

الأقتصاد والتجارة
كانت التجارة الشريان الرئيسي لاقتصاد مملكة ميسان ، وكان هناك مؤرخاً فارسيا واسمه ” آيزيدور” والذي كتب عن طرق التجارة في الاميراطورية الفرثية ، ويذكر كيف ان التجار في مملكة تدمر يأتون بقوافلهم التجارية الى مملكة ميسان محطة التداول التجاري بينها وبين الهند عن طريق الميناء في المملكة . وقد عثر على عدد من النقوش تذكر فيها مستودعات التخزين التجارية وعن النُزل او مايصطلح ، الموتيلات او الفنادق الصغيرة لراحة المسافرين من التجار والقادمين من انحاء شتى .

ان الزراعة هي الركيزة الأساسية للاقتصاد في مملكة ميسان ، وكانت المنتجات الزراعية تدخل في صناعة الكثير من السلع والحاجات الضرورية للفرد ، مثلا لصناعة نبيذ ممتاز بدافع تصديره الى مصر و روما والهند ومناطق الصين تحتاج الى شجيرات من الكروم ذات نوعية جيدة منها ، وكذلك لبعض التمور بأصناف عالية الجودة ، ليقايضونها بالرز الممتاز من الصين ، والبهارات والأعشاب والأحجار من الهند ، وكذلك المعدات وبعض التجهيزات الحربية من روما ، والأقطان من مصر.
تكمن اهمية التجارة البحرية لدى المملكة ، بامتلاكها سواحل طويلة تطل على البحر وبموانئ ضخمة ربطت بلاد ما بين النهرين مع روما والهند وكذلك جنوب ووسط آسيا ، وتظهر النقوش في تدمر ، بأن مملكة ميسان مركزالشرق للتجارة ، حيث تأتي السفن المحملة من الهند وبلاد فارس والصين و روما لقوافل التجار من أعالي بلاد الرافدين ، بالحرير واللؤلؤ والأخشاب الثمينة ، والعاج والتوابل والبخور ، والذهب والفضة ، والأواني الزجاجية والمرجان وبعض أنواع الحبوب ، وهي بمثابة نقطة النهاية كما يصفها التجار وهي مركز التقاء التجار من منابع وبلدان مختلفة تعج بها المملكة عند موانئها ومخازن تجميع البضائع .
و كان التجار التدمريون يتخذون مركزا تجاريا فرعيا على تقاطع نهري دجلة والفرات عند منطقة مايسمى ” كرخة ميسان ” (القرنة ــ شمال محافظة البصرة العراقية ) ، وهناك منطقة التقاء التجار العرب في مدينة ” الجرهاء ” الواقعة في شبه الجزيرة العربية في القرن الرابع ماقبل الميلاد ، والتي لايعرف موقعها الجغرافي بالضبط ويعتقد انها كانت منفى من مواطني دولة بابل ، ولكن يعرف يأن لها ميناء يطل على البحر مباشرة ، وهي منطقة غنية بالتجارة ، وهي التي كانت تسيطر على خط الملاحة التجاري مابين مصر والأردن ( البتراء ) حتى مدينة بابل ، وحتى جنوب المملكة العربية السعودية ( عسير ) ، وقد يمتد نشاطها التجاري ليصل الى الهند وما حولها . ولكن مع ظهور مملكة ميسان ، تم تحويل جميع الطرق الملاحية التجارية الى منطقة الخليج بعد سيطرة الفرثيين عليها بعد القرن الميلادي الاول .
لأكثر من قرن من الزمان ، كان الأنباط المملون الرئيسيون لتجارة الشرق مع الغرب الروماني من خلال مملكة ميسان ، وكانت القوافل التجارية تمر عن طريق الصحراء عبر تدمر الى المملكة ، وخصوصا عندما ضمّت مملكة الأنباط من قبل روما سنة 106 م ، حيث أحتكر التجار التدمريون الطريق التجاري الى ميسان .
وتدريجيا انتقلوا بتجارتهم الى الجنوب في الربع الثالث من القرن الاول الميلادي الى داخل المملكة من جهة نهر الفرات والتي كانت خاضعة بالأساس لملوك مملكة ميسان .
وتدلنا النقوش التدمرية من القرن الثاني الميلادي على رحلات القوافل التجارية الناجحة بين تدمر ومملكة ميسان والمدن الواقعة على نهر الفرات ( ستارسكي : نقش رقم 81 ، 112 ، 114 ) .وكانت تلك المدن الواقعة على الفرات والتي تبعد حوالي 18 كم عن المدن الواقعة على دجلة من مملكة ميسان .
عثر على العديد من العملات المعدنية من مملكة ميسان في اماكن عديدة من منطقة الخليج ، جزيرة ” فيلكا ” والجزر المجاورة ، ” أم نعمان ” , ” عزك “، و ” الدر ” في دولة عُمان ، وكذلك عثرعلى عملات اخرى في ” سوسة ” ، و” أوروك ” التي كانت تحتل المرتبة الاولى في التجارة لدولة أكد .
ولابد أن نشير هنا بأن التجارة مع الصين ، وضعت مملكة ميسان على مسار طريق الحرير ، وكان هناك العديد من الوفود الصينية التي ترمي الوصول الى روما عبر بوابة التجارة مع مملكة ميسان ، ولكن منعوا من قبل الفرثيين ويردون على أعقابهم خوفا من تغلغلهم للسيطرة على تجارة المنطقة برمّتها ، ويذكر مصدر بأن واحد من اكبر التجار الصينيين وأسمه ” تايوشي ” قد حظي بتمرير قوافله التجارية القادمة من الصين ، واحتكاره احدالخطوط البحرية من موانيء مملكة ميسان ، ولكن لم يرد ذلك في مصادر اخرى ..
الثقافة
فقط الشخص الوحيد المعرّف بالأسم هو ” آيزدور كاراكس ” المؤرخ المسيحي الذي كان مكلّفا من الامبراطور الروماني ” أوغستيوس ” بكتابة ملحمة تأريخية عن مملكة ميسان ” محطات الفرثيين ” والذي كان يتناول بوجه التحديد بالحديث عن القادة الرومانيين من الناحية السياسية والعسكرية ، ويتحدث هذا الكتاب عن صيادي اللؤلؤ في مناطق الغوص في الخليج ، ولكن مع ذلك عثر في دولة البحرين يمكن ان نقول بأنه هناك نفوذا قويا لدى مملكة ميسان ، حيث عثر على قبرين حجريين تعود لتلك الفترة ، وهذا مايدل على هيمنة المملكة على مناطق شاسعة من منطقة الخليج والجزيرة العربية ، وقد عثر على مسلاّت يظهر بها شكل انسان واقفا ، ليظهر المستوى العالي من الحرفية لنحت هذه الهيئة ، وهذان القبران الذين عثر عليهما نحتا بشكل فني متقن ورائع ، وهذا ماتبقى من اللقى الموثقة رسميا كعمل فني يعكس ثقافة شعوب مملكة ميسان لما تبقى من الأمبراطورية الفرثية .
الفن في مملكة ميسان كان يحاكي ما تفرزه الثقافة الفرثية حينذاك ، وقطع الفخار التي عثر عليها بجانب القبرين في البحرين ، متشابهة الى حد ما من التي عثر عليها في مدينة سوسة والتي تقع في غرب جنوب ايران ، والتي كانت مصنوعة من السيراميك ، كما في مدينة بابل الاثرية والتي تقع في جنوب وسط العراق ،اذ شكلت هذه المناطق المتباعدة الفضاء الثقافي الخاص بها .
باستثناء سك العملات المعدنية والتي تحمل صور الملوك اللذين تولوا العرش في ميسان الزاخرة بالفن المعبر عن المهارة العالية والدقة في تجسيد ملوكها على عملتها ، مما أضفى انطباعا ومؤشرا جيدا عن القدرات الفنية لفناني تلك الحقبة الزمنية .
وأحد الجوانب البارزة من الفن الميساني لنقوش القطع النقدية ، وهو الألتزام التام بتقاليد المدرسة الفنية الإغريقية. وتُظهر القطع النقدية الفرثية الأساليب الإيرانية لوقت مبكر، والتي ابتكرتها النماذج الهلنستية واستبدلت لتكون قريبة للاسلوب الفرثي المعاصر، وقد اكتمل هذا التغيير تماما قبل القرن الميلادي الاول ، وقد اتبع هذا الاسلوب بشكل كبير من ترتيب القطع النقدية خلال حكم الملك ” أوربزس الثاني ” والذي تولى العرش 150 م . وكان النموذج الفني اليوناني واضحا جدا على المعالم الفنية لمملكة ميسان ، وكان على مايبدو هناك حرصا كبيرا للحفاظ على التقاليد الاغريقية والتشبث في اللغة والطراز الثقافي طيلة مكوث المملكة .

العملات المعدنية
خلال الفترة الاخيرة من حكم الملك ” هايسبوسينز” ، ضربت العملة الفضية مع ذكر تأريخ سكّها ، على خطى الملوك السلوقيون المعاصرين . و” هايسبوسينز” سبق غيره وعلى نحو غير مؤكد ، وفي فترة الفرثية المتقدمة ، بضرب عملة نقدية برونزية ( 121 ــ120ق.م ) على شكل مشابه للعملة التي كانت في عهد الملك ” ميثرديتس ” .
أكتشف مؤخرا نقش ثنائي اللغة بين الأغريقية والفرثية ، يتضمن النص المكتوب ، بأن ” ميثريدتس ” نجل الملك الفرثي ” باكورس ” الذي تولى عرش ميسان مستقلا لعدة سنوات ، كمعارض للحكم الفرثي ، ويتناول النص الصراع الطويل مابين مملكة ميسان في بلاد مابين النهرين والملوك الفرثيين . وكان الأمير ميثرديتس هو آخر من أصدر العملة النقدية المعدنية في مملكة ميسان والتي ذكرته النقوش الأغريقية المكتشفة .
تعد العملات المعدنية التي عثر عليها ذات اهمية بالغة لتعطينا التسلسل الزمني للملوك الذين تولوا العرش على مملكة ميسان بعد العهد السلوقي ، حسب الترتيب الزمني لكل عملة والتي تحمل اسم الملك وصورته على النقش ، ماعدا العملات التي تعود للنصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد ، التي تظهر تواريخ دقيقة وواضحة اكثر من سابقتها ، حيث صورة الملك الحاكم المنقوشة على وجهه العملة وبالكتابة اليونانية ، اما ظهر العملة عليها نقش آرامي ، كما تظهر صورة الملك للجهة اليمنى من العملة بشكل استثنائي ، بسبب العملة الفرثية والتي يظهر الامبراطور الفرثي فيها على الجهة اليسرى من العملة ، كما ظهر العملة نرى نقش لهرقل محاط بنقش آرامي .

في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي ، كانت العملات النقدية التي يصدرها ملوك ميسان أما لايوجد عليها حروف او كتابة ، اوتحوي كتابة باحدى اللهجات الآرامية لاحدى وجهي العملة ، ومن المؤكد كانت لهجات آرامية من اللغة المتداولة في أنحاء المملكة .
وتبين بعض العملات التي عثر عليها نقش عليها بالآرامية والتي لربما تمثل اللهجة المعاصرة آنذاك وهي من البرونز للملك ” أبنيرغوس الثاني ” 165ــ 180م
(( يا بي نكي ملك )) .. اسم الملك بالآرامية .
ويظهر على الوجه الآخر للعملة نقش لصورة الملك المذكور .
كما هناك عملة فضية نقش عليها بالآرامية والتي ربما تعود الى الملك ” ماغا ” 195 ــ 210 م ابن الملك ” اتامبيلوس ” وجاء بها :
(( زي ست بي زد ملك )) .. اسم الملك بالآرامية .

اما الملوك الذين تولوا عرش مملكة ميسان حسب العملات التي عثر عليها وفق ترتيبها الزمني :
1. هيسباسينز ( انتيوخس الرابع ) / 127 ــ 124 ق.م ، مؤسس مملكة ميسان .
2. أبوداكس / 124 ــ 104 ق.م ، معرّف من خلال العملة .
3. تاريوس الأول/ 94 ــ 90 .ق.م ، معرّف من خلال العملة .
4. تاريوس الثاني / 79 ـــ 49 ق.م ، توفي بعمر 92 سنة ، ولايعرف عنه شيء اخر سوى العملة التي تحمل نقشه .
5. أرتبازوس / 49 ــــ 48 ق. م ، توفي بعمر 86 سنة ، ولايعرف عنه إلا من خلال القطع المعدنية .
6. أتامبيلوس الأول / 47 ــ 24 ق.م ، معّرف من خلال العملة .
7. ثييونوسيس الأول / 24 ــ 18 ق.م ، معرّف من خلال العملة .
8. أتامبيلوس الثاني / 17 ق.م ــ 9 ميلادي ، معرّف من خلال العملة .
9. أبنيرغوس الأول / 10 ــ11 م ، معرّف من خلال العملة .
10. أورابازيس الاول / حوالي 19 م ، ذكر في نقوش من تدمر .
11. أبنيرغوس الأول / 22 ــ 23 م ، تولى العرش ثانية على مملكة ميسان .
12. أتامبيلوس الثالث / 37 ــ 45 م ، معرّف من خلال العملة .
13. ثييونوسيس الثاني / 46 ــ47 م ، معرّف من خلال العملة .
14. ثييونوسيس الثالث / حوالي 52 ــ 53 م ،معرّف من خلال العملة .
15. أتامبيلوس الرابع / 54 ــ 64 م ، معرّف من خلال العملة .
16. أتامبيلوس الخامس / 64 ــ 74 م ، معرّف من خلال العملة .
17. باكورس الثاني ( الملك الفرثي ) / 80 ــ 102 م ، فترة سيطرة الملوك الفرثيين على ميسان بشكل مباشر .
18. أتامبيلوس السادس / 102 ــ 106 م ، معرّف من خلال العملة .
19 . ثييونوسيس الرابع / 110 ــ 113 م ، معرّف من خلال العملة .
20. ( خلو العرش ) .
21. ميثرديتس /حوالي 130 ــ 150 م ، هزم من قبل الفرثيين ، ورد اسمه في نقوش تدمر وفي نقش النصر ، معا ذلك لايعرف عنه شيئا الا من خلال العملة .
22. أورابازيس الثاني / 150ــ 165 م ، معرّف من خلال العملة .
23. أبنيرغوس الثاني / 165 ــ 180 م ، معرّف من خلال العملة .
24. أتامبيلوس السابع / 180 ــ195 م ، معرّف من خلال العملة .
25. ماغا / 195 ــ210 م ، صورته نقشت على العملة بدون تأريخ .
26. أبنيرغوس الثالث / 210 ــ 222 م ، ذكر اسمه فقط عند المؤرخين العرب .
الملاحظ من هذا التسلسل لملوك ميسان ، جميع الأسماء التي وردت فيه ، تسميات يونانية ، ولايحمل أي منها لفظا آراميا أو ايرانيا أو حتى عربيا ، في حين المملكة تجمع شعوب تلك المنطقة من الأصول التي ذكرت .
فالحقيقة ان تلك الأسماء لملوك المملكة ، هي ألقاب يونانية فرضت باعتبار اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية لأنحاء الأمبراطورية ، وهي لغة المراسلات والتخاطب مابين العاصمة الأمبراطورية وتوابعها من الممالك ، وكذلك في مخاطبات الملك مع رعيته رسمبا ، مما يوحي بأن هؤلاء الملوك هم من اصول فرثية أو رومانية حكموا المملكة ، في حين كانت اللغة الآرامية هي اللغة المحكية والمكتوبة والدارجة بما يتعلق الأمر في الجانب الشرقي للملكة اي جنوب بلاد الرافدين وأقليم خوزستان ، ، وكذلك كانت اللغة العربية محكية في المناطق المطلة على الخليج ( الساحل السعودي الشرقي والجنوبي ) أيضا ، ولربما هؤلاء الملوك كان أغلبهم من جنوب بلاد بابل ، وبلاد فارس ، وليس مستبعدا أبدا من كان بينهم ملوك من العرب ، ولكن للأسف تنقصنا الأدلة على ذلك ، كون أغلب النصوص التاريخية المحفوظة والنقوش والمنحوتات المكتشفة ، تتراوح مابين اليونانية بعدد اكبر والأرامية بأقل منها والفارسية القديمة بأعداد ضئيلة ، أما العربية فهي معدومة تماما ، وهذا لايعني بأن اللغة العربية لم تكن معروفة آنذاك …

وأخيرا فأن نهاية مملكة ميسان كانت على يد ” أردشير ” الملك الساساني الذي خاض حروب عدة مع الفرثيين والرومان ما بين انكسار وأنتصار منذ عام 208 م ، وتوّجها بانتصاره على الرومان والحق بهم هزيمة منكرة في صيف عام 222م بالسيطرة على مملكة ميسان واجزاء اخرى من بلاد بابل ، وبها انتهت اخر فصول الهيبة والعظمة التي كانت تتمتع بها مملكة ميسان حتى وهي تحت سلطة الفرثيين والرومان .
حقا كانت مملكة مسالمة لم تخض حروبا ابدا ، لا ضد مواطنيها بالداخل ولا مع جيرانها ، بل كانت مطمعا لأعدائها وتأريخها يشهد على ذلك . كانت المملكة حاضنة للقوميات والديانات والمذاهب والأعراق من مختلف بقاع الأرض ، كانت مملكة يزهوا بها الأدب ويزخر فيها الفن والهندسة والعمارة والطب والعلوم والتجارة ، حقا انها كانت مملكة العجب تتباهى بها الدنيا من أدناها الى أقصاها.. أنها مملكة ميسان ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ادوارد دابروا ــ الامبراطورية الفرثية ـ مركز بحوث التاريخ الاوربي ـ الشرقي ـ 2010 .
أي . آر . بلينكر ــ هيسباسينز كاراكس ــ الدراسات الكلاسيكية ــ جامعة كامبريدج ــ 1942 ـ
أف. جي . ماثيوس ــ التاريخ الاقتصادي للامبراطورية الفرثية ــ مجلة الدراسات الرومانية ــ نيويورك ــ1977 .
جون هانزمان ــ مملكة ميسان وعاصمتها كاراكس ــ نيويورك ــ 1991 .
ادم روبرت ــ عواصم المدن ــ مسح جغرافي وبيئي توثيقي للمدن والمستوطنات التاريخية القديمة التي تعرضت للفيضانات في بلاد الرافدين وماحولها ــ جامعة شيكاغو ــ 1981 .
مالكوم كوليدج ــ الفن الفرثي ــ نيويورك ــ1977 .
م .غاولكوسكي ــ تدمر .. مركز التجارة ــ 1994 .
دوف غيرا ــ انتيوخس الرابع في حياته ومماته ــ جريدة الجمعية الامريكية للدراسات الشرقية ــ 1997.
جورج فرانسز هيل ــ تصنيف العملات الاغريقية وبلادي الرافدين وفارس ــ المتحف البريطاني قسم العملات والميداليات ــ 1922 .
فريدريك هيرث ــ الصين وروما الشرقية ــ مجموعة بحوث ودراسات تتعلق بطبيعة العلاقة بين دول الصين القديمة وممالك الامبراطورية الفرثية ــ المملكة المتحدة ــ 1885 .
جي ــ أي ــ كييل ــ الملوك الفرثيين الذين تولوا العرش ــ المملكة المتحدة ــ 1994.
شيلدن نولدمان ــ التأريخ القديم لمملكة ميسان ــ برلين ــ 1959.
دانيال ـ دي ـ بوتس ــ العرب ومملكة ميسان ــ جامعة كوبنهاكن ــ 1988 .
جاك شوارتز ــ الامبراطورية الرومانية ــ تحليل اقتصادي واجتماعي ــ برلين ــ 1960 .
يوفي نورمان ــ السياسة الاقتصادية في العصور المبكرة لبلاد النهرين ــ لندن ــ 1995

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.