في عالم السياسة كل شيء ممكن؛ إذ يصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وأصدقاء الأمس أعداء اليوم.. هكذا يراد لنا ترجمة ما حدث من تقارب واتفاق بين إيران وعدوتها اللدود أمريكا، التي ما برئ شعار “الشيطان الأكبر” وأخوه “الموت لأمريكا” يغادر حناجر القوم في إيران حتى قبيل الاتفاق النووي بأيام. واشتعلت المنطقة بالتكهنات والتحليلات التي شرّقت وغرّبت لسبر غور حقيقة الاتفاق والعلاقة بين أمريكا – راعية الاتفاق – وإيران. إن تاريخ العلاقة بين الملالي والأمريكان مليء بالفضائح والتناقضات منذ تسلق الملالي إلى السلطة وحتى اللحظة، ومن بينها فضيحة قضية إيران كونترا التي عقدت بموجبها الحكومة الأمريكية تحت إدارة الرئيس الأمريكي ريغان اتفاقاً مع إيران لتزويدها بالأسلحة بسبب حاجة الأخيرة لأنواع متطورة منها أثناء حربها مع العراق وذلك لقاء إطلاق سراح بعض الأمريكان الذين كانوا محتجزين في لبنان، حيث كان الاتفاق يقضي ببيع إيران ما يقارب 3,000 صاروخ “تاو” المضاد للدروع وصواريخ هوك أرض جو المضادة للطائرات، عن طريق الملياردير السعودي عدنان خاشقجي؛ مقابل إخلاء سبيل خمسة من الأمريكان المحتجزين في لبنان.
بغض النظر عما يسمعه ويشاهده المتابع البسيط أو المتعمق بشأن علاقة الملالي بالنظام العالمي ودولة الكيان المُحتل إسرائيل فما بينهما عميق ومتاحٌ فيه بعض المساحة الإعلامية النقدية أو حتى الهجومية ولا يتخطى أي منهما خطوطه الحمراء المتعلقة بالآخر، كما لم يخفي كل من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إعجابه بالملالي، كما أن إسرائيل استعانت بصور فوتوغرافية وخرائط إيرانية في ضربها للمنشآت النووية العراقية، وفي ذات الوقت كان السلاح الإسرائيلي والأمريكي يتدفق على إيران في حربها مع العراق حيث بلغت نسبة العتاد الذي اشتراه ملالي طهران بعد الحرب مباشرة من إسرائيل 80 بالمئة، واشترت نظام الملالي من إسرائيل أسلحة قيمتها 500 مليون دولار في الفترة الواقعة بين 1980 و1983، ثم جاءت فضيحة “إيران كونترا” صفقة السلاح السرية بين أمريكا وإيران التي لم ولن تكن الأولى ولا الأخيرة من الصفقات المختلفة.
ضمنياً أو حرفياً اعترف الملالي ونوهوا ولوحوا على الدوام بعلاقاتهم المباشرة وغير المباشرة ومن بين ذلك ما جاء في اعتراف حسن نصرالله بلقاء تلفزيوني بأن الأمريكان كانوا قد عرضوا على حزب الله في أواخر 2001 صفقة للتعاون في مواجهة عدو مشترك “الإرهاب السني”؛ وبحسب قوله: إن نائب الرئيس الأمريكي في حينها “ديك تشيني” كان قد أرسل إليه رسالة خطية مع مبعوث شخصي أمريكي وهو “جورج نادر”، وكانت تحمل عرضا أمريكيا تفصيليا للتعاون بين الجانبين “صفقة” فيها إغراءات لها أول وليس لها آخر بحسب تعبيره!. يقول نصر الله: إن الأمريكيين قالوا أنهم يوافقون على أن يهاجمهم في الخطب والميكروفونات، وأنهم سيتفهمون ذلك كما تفهموا من قبل مصطلحات “الشيطان الأكبر” من قبل الخمينيين، وشعارات الموت لأمريكا من قبل الحوثيين؛ “الثوار” بحسب وصف الإعلام الغربي، ويقول نصرالله إن هذا العرض تكرر عليه مراراً من قبل إدارات أمريكية متعددة، وما يمكن استنباطه من هكذا اعترافات أن ذلك دليل حوار وتواصل وارتباط صريح يترتب عليه الكثير من النتائج ومنها السكون وغض الطرف لعقود كاملة، والدعم والتعاون الصريح المباشر كما رأيناه وكما نراه، والأمثلة على ذلك كثيرة، ونستنتج من ذلك أيضاً أن إيران الملالي وحزب الله بقيادة حسن نصر الله ما هما إلا أداةً أمريكية للسيطرة على المنطقة بوضوح منذ سنة 2003، وأبسط أدوارهما هو توجيه الأحداث وصنع المسببات بما يقود إلى حفظ أمن “إسرائيل”، ولم تكن المساعدة التي قدمها ملالي طهران للولايات المتحدة في غزو أفغانستان شكلية إذ سمح الملالي للولايات المتحدة باستخدام قواعدهم الجوية ليكونوا جسراً بين التحالف الشمالي والولايات المتحدة في قتال طالبان، كما كان هناك تعاون أمركي – إيراني في العراق يدور خلف الستار، والدليل على ذلك أنه كانت تجرى اجتماعات بين السفير الأمريكي ونظيره الإيراني في الوقت الذي كان العراقيين يشتكون فيه للإدارة الأمريكية مما يفعله السفير الإيراني وفيلق القدس والحرس الثوري وفرق الموت داخل العراق، وهو أمر من المفترض أنه يزعج الأمريكيين لكنه كان يؤكد على أن العراق يتجه نحو الوقوع في دائرة النفوذ الإيراني بمباركة أمريكية، والجدير بالذكر أن ما حدث في العراق هو خطة دولية واضحة المعالم تستهدف العرب السنة ولا تقبل اللبس ولا تقبل أية تفسيرات أخرى، فقد كان هناك تنسيق كبير بين إيران وأمريكا وصل إلى درجة أن يصرح السفير الأمريكي السابق في العراق، كروكر بأنه: “كلما كانت تواجهني معضلة لا أجد حلها إلا عندما أجلس مع السفير الإيراني في بغداد!”، وقد سجلت إيران بعد ثورات الربيع العربي فشلا ذريعا في مواجهة القوى السنية المسلحة، وأن النظامين في سوريا والعراق كانا مرشحين للسقوط لولا التحالف الدولي أو التدخل الروسي، وساعدت أمريكا والتحالف الدولي إيران وحلفائها بشكل مباشر في العراق، وبشكل غير مباشر في سوريا؛ وذلك عن طريق اختراق الولايات المتحدة وحلفائها لبعض الفصائل المسلحة، والتلاعب بها ثم تحويلها لجمع من الأشقياء المدافعين عن النظام كما حصل مع فصائل الجبهة الجنوبية.
لم يقف التعاون بين أمريكا وإيران عند هذا الحد، بل تعداه لبلدان عربية أخرى إذ تمتد الشراكة القلقة الآن بين واشنطن وطهران إلى اليمن، وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة مستعدة للسماح لإيران بتوسيع نفوذها في المنطقة للمساعدة في تأمين صفقة نووية ولذلك لا تتوفر الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى نشوب حرب بين البلدين، والحقيقة المؤكدة هي أن الدولة العنصرية فى إيران مستعدة للتفاعل مع الغرب والتقارب مع إسرائيل بأكثر من استعدادها للتفاعل مع العالم العربي، ومن هذا المنطلق تعتبر إيران الملالي شيطان العرب الأكبر، وعلى الرغم من كشف النقاب عمَّا يدبرونه في الخفاء إلا أن هناك خفايا لا نعلمها، ومن يريد أن يطلع على تلك الخفايا ما عليه إلا أن يتابع عروض سيرك الجمعة تحت عرش سلاطين الملالي.
خطب الجمعة ومحاولة إنقاذ سفينة الملالي الغارقة
دائماً ما كان صعود علي خامنئي المنبر مرتبطاً بأزمة كبيرة تتعرض لها دولة الملالي، ولا يلجأ له أي إلى المنبر إلا من أجل إيصال العديد من الرسائل، إذ صعد خامنئي المنبر للرد ما قد يكون مُتفقٌ عليه من تصريحات للرئيس الأمريكي باراك أوباما حين أعلن أن جميع الخيارات متاحة للرد على إيران من أجل منعها من الحصول على السلاح النووي، وكان ظهور خامنئي على منبر الجمعة هذه المرة مختلفاً تماماً وسط أزمات داخلية وخارجية لم تشهدها البلاد من قبل سواء انتشار المظاهرات في أكثر من 134 نقطة في مختلف المناطق، وإهانة رموز النظام وعلى رأسهم الولي الفقيه واتهامه بالفشل وتمزيق صوره، وكذلك توجيه انتقادات كبيرة لتعامل النظام الإيراني مع حادث استهداف الطائرة الأوكرانية، وسط تصعيد أمريكي باستهداف الرجل الثاني في إيران قاسم سليماني قائد قوة القدس الإرهابية، فيما يشير في ظاهره إلى انتهاج واشنطن سياسة جديدة تجاه طهران تعتمد على الردع المباشر وليس على الصبر الإستراتيجي والاكتفاء بفرض العقوبات الاقتصادية القصوى والله أعلم بحقيقته والأيام كفيلة بكشف كل غموض.
من جهته حاول خامنئي إرسال عدة رسائل للداخل والخارج كان أهمها محاولة تهدئة الأوضاع واستعادة الهيبة المفقودة والتأكيد على أنه لا يزال الحاكم الأول المتصرف في شؤون الحكم، وذلك عقب الخلاف الكبير في حينها مع رئيس الجمهورية حسن روحاني الذي حمَّل الحرس الثوري وخامنئي مسؤولية تفاقم الأمور والانهيار الاقتصادي، وقد حاول خامنئي خلال الخطبة التنصل من الفشل الاقتصادي بتحميل الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب مسؤولية ذلك، ولم يتحدث عن دعمه للميليشيات المسلحة في أربع دول عربية بمليارات الدولارات، كما عمل على إيصال رسالة دعم وتأييد للحرس الثوري بأنه حامي البلاد بعد الانتقادات الشديدة الموجهة له والتي تحمله مسؤولية استهداف الطائرة الأوكرانية، كما عمل على إيصال رسالة للمتظاهرين ضده مفادها أنهم يعيشون وسط مؤامرة تحيكها الدول الغربية ضدهم، وأنهم مغرر بهم ولا يفهمون ما يدور خلف الكواليس، وكانت خطبة خامنئي تلك في مجملها خطبة يمكن وصفها بـ “الخطاب التعبوي” إذ حاول من خلاله احتواء الإيرانيين مستدلاً بآيات قرآنية ومشيراً إلى أن الضربة الإيرانية للقواعد الأمريكية هي من “أيام الله” ليضيف قداسة على حكمه المتأسلم وفي الحقيقة كانت وكأنها ضربات مُتفقٌ عليها، وجهد خامنئي في خطابه العام على تحويل أيديولوجية المواجهة بين إيران والغرب على أنها صراع ديني وليس صراعاً سياسياً على افتراض أن نظام حكمه نظاماً دينياً، وكل رجائه حث الشعب على الصبر في مواجهة المشروع الأمريكي، وكالعادة فإن استخدام نظرية المؤامرة الذي يطغي على خطاباته كلها كانت مُستحضرةً في وصف كل المظاهرات التي تطالب بإسقاط المشروع الإيراني في العراق ولبنان وغيرها بأنها مؤامرات غربية ضده يجب التصدي لها متجاهلا أن ما يقع على الشعب من كوارث هي نتاج لفشله وفشل نظامه الذي لم يتأثر بالعقوبات التي أهلكت عامة الشعب الإيراني.
هنا يجب التأكيد على وجود تنازلات كبرى تخص المشروع التوسعي الإيراني يجب أن يقبلها خامنئي، خاصة بعد استهداف “قاسم سليماني”، وهو مهندس المشروع التوسعي والذي عمل عليه طوال مدة 22 سنة من وجوده على رأس قوة القدس الإرهابية، وتأتى تلك التنازلات مقابل بقاء نظام الملالي في سدة الحكم، وأن هناك أمورا وتغييرا كبيرا قد يطرأ على النظام الإيراني في الفترة المقبلة، ولن تفيد فيها خطب خامنئي ولن تستطيع استرجاع شعبيته المتآكلة بالفعل.
صفقة الـ 6 مليارات دولار
اتضحت معالم صفقة مثيرة للغرابة بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وملالي إيران صفقة ستفرج واشنطن بموجبها عن 6 مليارات دولار كانت تخضع للعقوبات، مقابل إفراج إيران عن 5 أميركيين كانوا محتجزين لديها، وسيتم تنفيذ صفقة تبادل السجناء والإفراج عن الأموال بوساطة عُمان وقطر وسويسرا عبر سلسلة من الخطوات المنسقة، والقصة وما فيها هي أن نظام الملالي سيسمح لأميركيين نُقِلوا من سجن إيفين إلى الإقامة الجبرية ثم بمغادرة إيران بعد رفع التجميد عن 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية، والحقيقة هي أن هذه المليارات الستة ليست أول مليارات تضعها الإدارة الأمريكية تحت تصرف سلطات نظام الملالي وربما لن تكون الأخيرة، ولا عجب في ذلك فكم تغزل أوباما في الملالي، وكم فُتِن كلينتون بالملالي وساحرهم اللعوب خاتمي، وكم نجمت من كوارث ديمقراطية كانت في خدمة الملالي.
تناقضات كثيرة كبيرة لدى الأمريكان دعاة الحرية والديمقراطية تتعلق بعلاقتهم مع نظام الملالي الإرهابي القمعي التوسعي، ومن يرى أفعال إدارتي أوباما وبايدن لا ولن يصدق حتما بكل ما يصدر عن السلطات الأمريكية، وبالتدقيق في مجريات الأحداث مؤخراً؛ خرجنا ببعض الأسئلة حول المفاجآت في العلاقة الحميمة بين الملالي الطغاة والأمريكيين الديمقراط؛ ومن هذه الأسئلة التي لابد من الإجابة عليها ولابد أن تكون محور تداول ذلك لكونها ليست صلب مقالنا ومحور رسالتنا المُراد إيصالها فحسب بل هي أيضاً أجوبة تتعلق بمصير الشعب الإيراني المنكوب ودول وشعوب المنطقة:
ماذا سيصدر عن خلف أوباما بعد؟
ماذا بين الديمقراطيين الأمريكان وملالي طهران؟
هل دفع الأمريكان 6 مليارات دولار للنظام الإيراني من أجل تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني أم لقمع الانتفاضة وإخضاع وفرض المزيد من القيود على المقاومة الإيرانية؟
لماذا تبقى العقوبات مطبقة على الشعب الإيراني ما دامت المليارات من الدولارات تتدفق على الملالي ويبقى الشعب جائعا؟
ماذا عن سيناريو الملف النووي والصاروخي الإيراني؟
هل دفعت إدارة الرئيس بايدن هذه الأموال فعلا من أجل مجموعة أشخاص كانوا تحت الإقامة الجبرية في إيران؟
هل بدأت صفقة هذه المليارات المُهداة لملالي الظلام بخطوة الهجوم المبرمج على أشرف3 وإلحاق أضراراً بالأرواح والأموال فيها؟
هل يُخادع نظام الملالي موسكو وبكين؟
ماذا عن التطبيع العربي مع الملالي؟ وهل يفيد شرب نقيعه مثلجاً قبل النوم أم سيدخل في تصنيع مواد أخرى؟ أسئلة لابد أن نجيب عليها جميعا معا من باب الرشد وصدق الإنتماء والرغبة الصادقة في الخروج من أزماتنا.
في الختام نؤكد مجدداً على أنه: إن كان الغراب دليل قومٍ دلهم على أرض الخرابِ … لعله عصر تستسلم فيه الصقور لتصبح حمائم تحت قيادة الغربان. والنصر حليف المقاومة الإيرانية لا محالة، وإن غداً لناظره قريب.
د. سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي