بقلم: عضيد جواد الخميسي
ظل الباحثون الغربيون ينظرون إلى ملاحم هوميرس وهيسيود على انها نتاج متميز للثقافة الاغريقية؛ وكانوا يعتقدون انه لا علاقة لهذه الملاحم ـ سواء من حيث نشوئها ، أو اشكالها ، أو مضامينها ، أو أساليبها ـ بثقافة بلاد الرافدين القديمة . وكانت حجة هؤلاء الباحثين انه لم يكن هناك أي تفاعل بين اليونان القديم وشعوب بلاد الرافدين خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد . هذه النظرة التي تتّسم احياناً بالتعصب لمصادر الثقافة الغربية وتارة بالاحتقار لثقافات الشعوب الشرقية وصفها الباحث الألماني الشهير ولتر بيركيرت ـ في ندوة ضمت مختصيين في الادب اليوناني القديم وذلك عام 1982م بالعاصمة السويدية ستوكهولم ـ قائلاً : حتى الآن يعتبر الاستفسار عن الأثر الذي تركه الفن الشرقي للكتابة على الالياذة والاوديسا ضرب من الهرطقة . “ أي لا زال هناك من يعتقد أن عظمة الأدب اليوناني القديم تكمن في احادية مصدره اليوناني “ . وقال كارل ثومبسن عن الطريقة التي يفهم فيها بعض الباحثين الأدب اليوناني القديم : “ غالبا ما توصف الثقافة الرائعة لليونان القديم بأنها معجزة انبثقت عن عبقرية خاصة بها ولا تدين بشيء لجاراتها “ . ولكن هذا التشنج أخذ يتلاشى تدريجياً على أثرالحفريات الحديثة التي تؤكد أن انتشار “ ملحمة كلكامش “ لم يكن محصوراً في ارض جنوب الرافدين ، بل انتشرت في معظم مناطق اعالي الرافدين وآسيا الصغرى ، اذ عثر على نسخة من الملحمة في ارشيف العاصمة الحيثيّة في اناتوليا مكتوبة بالاكدية السامية . وكانت الملحمة قد ترجمت حوالي (1300-1350) ايضاً إلى اللغة الحورية (لغة ماقبل الآشورية) واللغة الحيثية التي هي هندو ـ اوربية . كما عثر على جزء صغير من الملحمة ، وهو في غاية الاهمية ، في منطقة مجيدو شمال فلسطين ، يشير إلى وجود نسخة كنعانية أو فلسطينية متأخرة . أما حفريات رأس شمرا ( اغاريت القديمة ) في الساحل السوري فقد كشفت النقاب عن قصة الطوفان التي يعتقد انها اشتقت من قصة الطوفان التي تشكل جزءاً من ملحمة كلكامش . فمعظم الترجمات القديمة للملحمة كانت قد انتشرت في مناطق مختلفة من آسيا الصغرى (بما في ذلك اليونان ) قبل ظهور هوميروس وهيسيود بما لا يقل عن أربعمائة سنة .
الأمر الذي التبس على الباحثين الغربيين الذين يدرسون الاشكال الادبية وتقنياتها وخصائصها يكمن في انهم لم يميزوا بين المثاقفة التي قد يتعرض لها شعب في مرحلة بحيث تترك تأثيرها على تصوره لذاته وعالمه وآلهته وهو غير واع لها لأن ثقافته تمثلها واعتبرتها جزءاً من تراثه ، وبين التأثير المباشر الذي قد يتركه تيار فكري أو سياسي أو أدبي على جيل من المثقفين أو الكتاب . ليس «“ ملحمة كلكامش “ تأثير مباشر على هوميروس وهيسيود شخصياً ، بل على الثقافة اليونانية التي كونت ، تاريخياً ، المخزون الادبي والديني والاسطوري الذي منه انتهل كل من هوميروس وهيسيود المواد اللازمة لصياغة ملاحمهم . بمعنى آخر ، ان المواد الاسطورية اليونانية ، قبل ان تأخذ شكلها الملحمي عند هوميروس وهيسيود ، كانت قد تشربت بعض خصائص أدب الرافدين . فتأثر هوميروس وهيسيود بـ “ ملحمة كلكامش “ هو غير مباشر وغير واع ، هو تأثر بتراث يوناني متشرّب لثقافة الشرق الأوسط القديم .
ان انتشار الملحمة الواسع في مناطق جغرافية متعددة من آسيا الصغرى والعثور على ترجمات مختلفة لـ ” كلكامش “ حمل الكثير من الباحثين على اعادة النظر في مسألة التفاعل الثقافي بين اليونان القديم والشرق الاوسط ، وحثهم اكثر على متابعة الدراسات المقارنة لاستجلاء أوجه الشبه أو التناظر بين ملحمة الرافدين والتراث الملحمي لليونان القديم ، وهذا أيضاً وفّر لهم امكانية تحديد الاطار التاريخي والثقافي الذي احتضن عملية تفاعل تلك الثقافات . وتبلورت نتائج هذه المحاولات ، التي ظهرت منذ الستينات ، في أعمال العديد من الباحثين امثال وبيستر ، وولكوت ، ولورد ، وكريسيث ، وويست ، وبيركيرت ، وغيرهم . وخلص هؤلاء الباحثون إلى أن تأثيرات أدب الرافدين تجلت في التناظر القائم بين رسم سمات بعض الآلهة ، وسايكولوجية بعض الشخصيات الملحمية ، وسياق بعض الاحداث ، واساليب شعرية اتبعت في ملحمة كلكامش وملاحم هوميروس ..
مواضيع ذات صلة: