أستعرض في ما يلي نقاطاً محددة تتعلق بتصور حول حل للصراع في سورية، بدءاً بوثيقة جنيف:
تنص وثيقة جنيف الصادرة عن الخمس الكبار في مجلس الأمن، في نهاية شهر يونيو/حزيران من عام 2012، كما يقول قرار مجلس الأمن رقم 2118، بحل سياسي للمعضلة السورية، يبدأ بتشكيل “هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات”، تقوم بمهمتين: إزاحة بشار الأسد عبر ممارسة صلاحياته خلال مرحلة انتقال، تتخذ خلالها جميع الترتيبات والخطوات الضرورية لإقامة بديل ديمقراطي، مع ما تتطلبه من تدابير دستورية وسياسية وتنظيمية، وأسس يتم التوافق عليها في إطار وطني جامع، هدفه تصفية الاستبداد، وإرساء نظام ديمقراطي بأسلوب تدرجي، ولا عودة عنه.
بما أن “الهيئة” ستقوم برضا الطرفين المتصارعين في سورية، أي بموافقة مسبقة من الموالاة والمعارضة، وستضم ممثلين عن النظام يقبلون الانتقال الديمقراطي، فإن الحل المقترح في وثيقة جنيف يقرر إعفاء الأسد من مهامه رئيساً، ودمج أطراف من النظام في المرحلة الانتقالية، تضمن مشاركتهم إنجازها، ودورهم السياسي بعد سقوط النظام والبدء ببناء النظام البديل. بذلك، في ظل ضمانات دولية، تكفل دوراً أكيداً ومحدداً لمن يشاركون من أهل النظام الحالي في الانتقال الديمقراطي.
يستهدف هذا الحل كعب آخيل النظام، بفكه عن رئاسته: المركز الذي ينتجه، وعلينا تركيز جميع جهودنا عليه، لجعل تطبيقه ممكناً بتقديم ضمانات تشجع انفصال أتباعه الحاليين عنه، وتصون أمنهم وسلامة الجماعة الوطنية العلوية، وتكفل دورها في حاضر البلاد ومستقبلها، ولجعلها أحد حوامل نظامها القادم، ومكوناً من مكوناتها الديمقراطية والوطنية. لفصل هؤلاء عن الأسد، وبالتالي، تفكيك النظام وتغييره وبلوغ حل سياسي، من الضروري:
– ضمان ممتلكات أهل النظام وقادته، ودورهم في البديل الديمقراطي، وإقناعهم بأن ما يدافعون عنه اليوم من مواقع وممتلكات ليس مهدداً، بل سيكون مصوناً ومكفولاً بمشاركتهم في الحل، وما سيقدم لهم من ضمانات وطنية وعربية ودولية، وأن استمرارهم في الدفاع عن الأسد يعني، بعد تقديم الضمانات لهم، إرسالهم إلى محاكم دولية، يمثلون أمامها كمجرمي حرب، وإضاعة كل شيء: من السلطة التي منحتهم، بطرق غير شرعية، ممتلكات ليست لهم، إلى ما استولوا عليه بطرق غير قانونية من أراض ودور وأموال وممتلكات ومزارع وأسهم ومصانع. في المقابل، وفي حال قبولهم التخلي عن اأاسد والمشاركة في الحل، ستبقى مراكزهم في أجهزة الدولة طوال مرحلةٍ، يحددها توافق وطني وضمانات عربية ودولية، على أن لا يحول ذلك دون البدء بتمثيل تدريجي للسوريين داخلها، وفق معيار الخبرة والكفاءة، مع إعادة النظر في بنيتها ووظائفها، التي ستمارسها في ضوء معايير محض مهنية، تستند إلى الخبرة والكفاءة. أخيراً، بما أن سورية الديمقراطية ستكون دولة حريات، وستسمح لمواطنيها بتشكيل أحزاب وهيئات سياسية تمثلهم، فإنه سيكون من حق أتباع النظام الحالي تشكيل أحزاب وهيئات تمثلهم، أسوة بباقي المواطنين.
– إقامة نظام لامركزي موسع في مختلف مناطق بلادنا، ومنح المناطق التي أتى منها العدد الأكبر من أهل النظام صلاحيات إدارية ولامركزية واسعة، مع بقاء احتمال الفيدرالية مطروحاً، شريطة موافقة الشعب السوري عليها في استفتاء حر مراقب دولياً.
الوضع السوري العام
– يشهد الوضع السوري تحوّلات مهمة تتلخص في ما يلي: كان حلفاء النظام ومحازبوه يشعرون بأن “داعش” تمثل تهديداً جسدياً لهم، وأن انتصارهم على الجيش الحر لا ينهي الصراع في سورية لصالحهم، وإنما يعني، بالأحرى، التخلص من خطر صغير، يمثله الجيش الحر، والوقوع في خطر الإبادة على يد “داعش” وأخواتها. أما اليوم، وبعد بدء الحرب على الإرهاب، فقد تغيرت المعادلة: أولاً، لأن خطر “داعش” بديلاً للنظام تراجع نسبياً. ثانياً: لأن الحرب ضد الإرهاب تفتح أمام النظام أبواباً مغلقة، تسمح بمشاركته في الحرب: بصورة مباشرة أو غير مباشرة، صريحة أو مضمرة، كلية أو جزئية. وهناك علامات على أن حاجة التحالف العربي/ الدولي إلى النظام قد تتزايد بسبب حاجته إلى قوات برية. ثالثاً: لأن الحرب تبدو مرتبطة بإعادة نظر جدية في أوضاع الجيش الحر، يحتمل كثيراً أن تخرجه من سياقة الحالي، وتضعه تحت تصرف أميركي، يعيد تنظيمه وتسليحه، وينتقي من ينتمون إليه، في خطوة غير مسبوقة في العلاقات الدولية، تعني، في حال تطبيقها، بدلالة المصالحة المحتملة بين واشنطن وطهران، زيادة وزن النظام في المسألة السورية، إن نجح في دحر الجيش الحر بواسطة هجماته الحالية، وفي تبييض صفحته عند الأميركان وحلفائهم، كما هو محتمل في ظل تطورات تبعث على القلق، تتجلى في انتقالات سياسية وعسكرية من “الائتلاف” ومؤسساته إلى بدائل إثنية ومناطقية، يحتم بروزها المزيد من تدهور أوضاعه، داخلياً وخارجياً.
– بتراجع خطر “داعش” الذي كاد يخلق بيئة تقنع أهل النظام بالانفكاك عن الأسد، والتوجه نحو حل مع المعارضين، وفق وثيقة جنيف واحد، يتعزز وضع الأسد السياسي والشخصي، ويصير من الأصعب إقناع حاشيته، وأنصاره، بالابتعاد عنه، أو التضحية به من أجل الحل السياسي، إلا إذا نجح الجيش الحر في تسديد ضربات موجعة إليهم، تقنعهم بأنهم لا محالة مهزومون، إذا لم ينفكوا عن بشار. ثمة، إذن، حاجة إلى إنزال هزائم متلاحقة بجيش السلطة وشبيحتها، لإحداث الانفكاك المطلوب، وهذا مستحيل من دون ترتيب وضع المعارضة وإخراجها من الصراعات الدولية والإقليمية، وإمدادها بوسائل تكبح تلاعب الخارج بها، وتأثيره على قضيتنا.
أربع محاور
للوصول إلى هدفنا، علينا العمل على محاور أربعة:
– محور داخلي يحدد صورة النظام البديل الذي تريده معظم المعارضة، ولا يكفي أن نقول إنه سيكون ديمقراطياً ومدنياً، ولا بد من تحديد نمط دولته، الذي سيقوم بتوافق جميع المكونات الوطنية السورية، الطائفية والإثنية واللغوية والدينية. ثمة حاجة إلى تصور واضح وملزم حول شكل سورية القادمة، وهل هو اللامركزية الموسعة، أو الفيدرالية أو المركزية أو … إلخ، علماً أن حكمها سيكون برلمانياً وتداولياً، يساوي قانونياً بين المواطنات والمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والقومية والدينية. لا يجوز، بعد اليوم، إرجاء مسألة تحديد نمط الدولة الديمقراطية، أو اعتبارها محدداً قليل الأهمية للبديل الديمقراطي، وسيكون من الخطأ تركه من دون توافق وطني عام، وإلا خسرنا جهات حاسمة الدور في الصراع ضد النظام، وظلت أمورنا غائمة وملتبسة وعرضة لتلاعب الأسد وغيره، ولشكوك أطراف من السلطة في حقيقة ما ينتظرها، بعد زوال حكمه، كانت قد والته طمعاً في حمايته، لكنه سفك دماءها، وتعيّش على انقيادها الأعمى له، وعلى حمايتها هي له.
لا بد من أن يعرف العلويون والكرد ما سيكون عليه مصيرهم في سورية الحرة، وما سينظم وجودهم الوطني من ترتيبات قانونية وحقوق دستورية. ولا بد من إسهامهم في بلورة هذه النواظم وإقرارها، في حاضنة وطنية جامعة، سيعيد النظام الديمقراطي إحياءها على أرضية الحرية. يتطلب هذا توجهاً مغايراً لما تم اعتماده إلى اليوم حيال العلويين والكرد، يشركهم في تحديد صورة وطنهم المستقبلية ومكانهم فيها، ويؤكد موقعهم من شعبهم ودورهم في تقرير مصيره، ونصيبهم من المسؤولية عن أمنهم وسلامتهم، ووحدته.
– مد اليد إلى أهل النظام، كخصوم اليوم وشركاء غداً، والتركيز على دورهم في مصالحة وطنية شاملة، هم طرف رئيسي في التحضير لها وتنفيذها، تصون حياة أي ضابط ينشق عن الجيش الرسمي، وتعترف بحقه الكامل في الانتماء إلى المعارضة ومؤسساتها، والعمل لإسقاط الأسد، وإقامة نظام ديمقراطي، يديره في المناطق العلوية من يمنحهم مواطناتها ومواطنوها ثقتهم عبر انتخابات حرة. لا يجوز، من الآن فصاعداً، اعتبار جميع أهل النظام قتلة وأعداء مصيرهم الموت، ولا بد من مواقف تميز بينهم وتشجعهم على مغادرة الأسد، تفتح أمامهم باب الوطن، وتمكّنهم من أن يختاروا شكل التحاقهم به. هذا التوجه قد ينتهي إلى كارثة وطنية، إن كان تكتيكياً أو احتيالياً، وسيعطي ثماراً يانعة، إن كان صادقاً ووطنياً ومفتوحاً على خيارات صحيحة، تراعي ظروف هؤلاء، ومخاوفهم التي تجعلها تنظيمات الأصولية وسياساتها مشروعة ومقبولة. هل هناك ما يمنع أن يمد ضباط الجيش الحر ومقاتلوه أيديهم إلى ضباط جيش النظام ومقاتليه في أماكن انتشارهم، وأن يطالبوهم بالتوقف عن إطلاق النار، وبعقد اتفاقات سلمية محلية، تمنعهم من قتل شعبٍ، هو أولاً وأخيراً شعبهم؟ ولم لا يقاتلون معاً المتطرفين والتكفيريين، وقطّاع الطرق والشبيحة والقتلة المأجورين وأمراء الحرب، بعد انفكاكهم عن رأس النظام؟
– فتح باب الحوار مع جميع قوى الداخل والخارج، للتفاهم على محددات للعمل الوطني والإسلامي، السياسي والمقاوم، لا خلاف عليها، وإقامة جبهة واسعة، تنشط بالتنسيق والتعاون بين الأطراف الأقرب فالأبعد، تشجع العاملين في الساحتين، السياسية والعسكرية، على تبني خياراتها ومواقفها والاقتراب منها، وإجراء فرز يطاول التنظيمات وطبيعتها، ويوحد الديمقراطية منها وحاملها المجتمعي، وينعش آمالها في وطن حر وعادل ومستقل. هذه المحددات هي حاضنة يضع الجميع تفاصيلهم العملية والنظرية في ضوئها، ويرون أنفسهم وغيرهم بدلالتها، ويلتزمون بها نواظم عمل وطني يعني خروجهم عليها تخريبه.
– تشكيل قيادة سياسية/ عسكرية موحدة، تكونها التنظيمات المدنية والديمقراطية التي برزت خلال الأعوام الأربعة الماضية، توحد صفوف الساسة والمقاومين، وتتفاعل معهم بعقل متفهم ومفتوح، وترسم سياسات تغطي جميع جوانب الواقع، تتضمن خيارات صريحة، لا لف فيها ولا دوران، ولا تجاهل لأية مشكلة، ولا تجميل لقبيح القول والفعل، بل مسؤولية وتواضع في التعامل مع الآخرين وقضاياهم، ورغبة أصيلة في مواجهة مشكلاتهم، وحلها لصالحهم.
لا يعقل أن تنجز هذه المهام جميعها و”الائتلاف” منقسم على نفسه، تابع لدول تقرر سياساته ومواقفه، تتحكم بقراره عبر المال السياسي والإفساد. ولا بد من تحول في الساحة الوطنية، يحقق هدفين رئيسيين: أولهما: توحيد القوى العسكرية والميدانية بجميع فئاتها وأصنافها، عدا تلك التي ترفض هدفي الثورة: الحرية والدولة الديمقراطية، على أن تنتخب أو تختار أو تسمي قيادة موحدة، تتولى إدارة الصراع ضد النظام وأعداء الثورة، تكون طرف القيادة السياسية /العسكرية الموحدة الثاني. وثانيهما: إنهاء انقسامات الائتلاف، وتوافق المعارضة السياسية على حل سياسي، تنجزه إبان مؤتمر وطني، ينظمه الائتلاف بالتعاون معها، يعيد هيكلة التمثيل الوطني داخله، ليشمل القوى المناضلة من أجل الحرية والدولة الديمقراطي، ومن ينفكون عن النظام، ويبدون استعدادهم للمشاركة في الهيئة الحاكمة الانتقالية ومرحلة الانتقال من بديله الديمقراطي.
بهذين الإنجازين، سيخرج الائتلاف من وضع يفرض عليه حسابات ضيقة وانقسامات متفاقمة، ويدخل إلى رحاب عمل وطني، تغرب عنه، وصار نقطة ضعفه الرئيسة. لتحقيق هذين الهدفين، ثمة حاجة إلى استراتيجية منطلقها ومآلها الداخل، يلعب الخارج دوراً مساعداً فيها، بدل أن يكون هو اللاعب الرئيس، والداخل مجرد كومبارس، لا حول له ولا طول، مثلما هي حاله الآن. لا أعني بالخارج البلدان العربية، فهي ليست خارجاً كالدول الأجنبية، بل تعتبر داخلاً بمعنى الكلمة القومي والوطني، فلا بد أن يشمل التحول علاقاتنا معها ومكانتها ودورها من ثورتنا، كي يكون نجاحنا مصلحة عليا لها، ويتم بضمانتها وعونها، وبفصل تأثيرها ونفوذها ودورها قدر الإمكان عن دور تلك الدول الأجنبية التي تدير أزمتنا. يتطلب هذا قيادة تعرف ما تريد، تحظى بثقة الشعب والثوار ويصعب اختراقها، لها من التصميم والقدرة على اتخاذ القرار ما يفرض أجنداتها على الآخرين، وخصوصاً منهم من يصفون حساباتهم بعضهم ضد بعض بدمائنا.
– هذا على المستويين الداخلي والعربي، وهما مترابطان. أما على مستوى الشرعية الدولية، فهناك ضمانات، عليها تقديمها على شكل قوات حفظ سلام متعددة الجنسية، يمكن أن يشارك فيها بصورة رمزية روس وإيرانيون، لطمأنة من يريد الاطمئنان، على أن تنتشر لحماية مواطنينا من أي عنف، وتشجيع أهل النظام على التخلي عن الأسد، ومنحهم فرصة الإفادة من حماية قوى دولية، تضاف إلى قواهم الخاصة، التي ستزود ببعض ما يصل إلى المعارضة من سلاح وعتاد، لأن من المصلحة الوطنية والعامة تقويتها، والحفاظ عليها جزءاً تكوينياً من جيش جديد، يؤسسه النظام الديمقراطي لحماية المواطنين وممتلكاتهم، من دون تمييز أو استثناء، داخل مناطقهم وخارجها.
– أخيراً: سيكون هناك ضمانات ذات صدقية ضد قيام نظام مذهبي أو متطرف في سورية، ترتبط بتخلى أهل النظام عن الأسد، وإسهامهم في انتقال ديمقراطي، هو خيار دولي شبه إجباري، بعد أن أثبتت تجربة أميركا في العراق أن أي نظام سيكون عاجزاً عن كبح الإرهاب ومواجهته، أو الحد من تطوره وانتشاره، إذا لم يكن ديمقراطياً. بتعزيز فرص البديل الديمقراطي بفضل تحولات المعارضة، وبجعله خياراً وطنياً يرتضيه جميع السوريين: معارضين وموالين، ستتوفر فرصة تاريخية لإفشال أي خيار مذهبي، وسنقوي موقفنا تجاه الدول، كبيرة كانت أم صغيرة، ونطرح جداول أعمالنا عليها.
– بعد هذه التطورات والتحولات، سيكون هناك عمل لصدور إعلان دولي من الأمم المتحدة، توافق عليه بلدان التحالف العربي/ الدولي المحارب للإرهاب، يؤيد ما نقدمه من ضمانات، ونقوم به من خطوات نحو الحل التي تقترحه هذه الورقة، تعبر عن تصميم المجتمع الدولي على تنحي الأسد، وحماية السوريين بجميع فئاتهم، والالتزام بتحقيق منظومة متكاملة من التدابير تنطلق من وثيقة جنيف واحد، بما تنص عليه من تنحي الأسد ومشاركة أهل النظام في “الهيئة الحاكمة الانتقالية” والانتقال الديمقراطي، فإن أصر هؤلاء على رفض الإعلان الدولي، تحملوا المسؤولية عن ما سيحل بهم مما يريد محبو وطنهم تجنيبهم إياه من مآس، تقول الوقائع إنهم لن يقووا على التعايش معها فترة طويلة.