بقلم: إِيمَّا مَارْتِنِيلْ*
ترجمة: الدكتور لحسن الكيري**
إ م: يعرفُ قراؤُك أنك تفضلين الكتابة باليد، بقلم الحبر لأنك تجدين نفسك في الخط العادي الذي يبدو لك جميلا و لم تغيريه على مر السنين – رأينا ذلك في المخطوطات المستنسخة من خلال “نحو لقاء كارمن مارتن غايتي” -. غير أنك عشت أوج الآلة الكاتبة و مؤخرا الحاسوب الشخصي؛ فكيف عشت هذه المراحل إن أمكن أن نُسميها كذلك؟ هل غيرتِ أداة الكتابة؟
ك م غ: أنا شخصٌ منفتح على ما يجري في العالم. لا أغمض عيني عن الأشياء الجديدة؛ لست غبية إلى درجة أن أجحد فائدتها. بيد أنه بالنظر إلى عمري لن أتعلم ذلك؛ أي أن أستعمل الحاسوب الشخصي و الويب…إن كان أحدهم يشتغل بهذا النظام و استطعت مساعدته سأفعل. لكن سَأُحِسُّ أَنِّي حزينة إن كان علي أن أكتب مباشرة أمام الشاشة. أراها جيدة جدا بالنظر إليها كوسيلة لنشر الثقافة التي تصل إلى الكثيرين و بسرعة. فمثلا الآن، أنتم تُخصِّصون عددا من هذه المجلة الإلكترونية لعملي. دائما وُجِدَتِ المرةُ الأولى، أن يتناول المرء الهاتف و يشرع في الحديث أو أن يستقل الطائرة. أنا أتحرك في العالم و، بالطبع، أتطور. لا ينقصني لا الفضول و لا بُعْدُ النظر، في المقابل، قد فاتني عمر التعلم. سأقول لك: قضيت ساعات، منذ الشهور القليلة الأخيرة، في مكتبة واشنطن، و قد أراني الأصدقاء عبر الشاشة قائمة بالأبحاث المنجزة حول عملي. أعترف بأنها مساعدةٌ كبيرة جدا و أشكرُها بحيث إنها تنم عن وجود اهتمام بعملي، و في مناطق مختلفة. هذا ينقص عني بعض سنين العمر و يحفز مزاجي الفضولي و الحيوي.
إ م: المصنفات البيبليوغرافية التي قمنا بنشرها مؤخرًا تبين لك مدى كثرة الاشتغال على عملك. لقد تُرجمت أعمالُكِ إلى لغات أخرى، و عندك على بُعد عدةِ كيلومترات جمهورا قارا يقرأ لك في الترجمات أو في الإسبانية؛ و كذلك يبحث العديد من النقاد في أعمالك في عدة بلدان. اِحكي لي شيئا مما تُحسين به إزاء كل هذا.
ك م غ: نعم، أنت تُحيلينَ على النجاح العالمي لكاتبٍ. كلما تُرْجِمْتُ – عملُ مترجمينِ جيدين بالطبع – إلا و أحسستُ بالرضى الكبير. لكن، اُنظري ربما ليس بنفس الحجم عندما أعلم أني قُرِئْتُ في لغتي. أنا نفسي كنت مترجمةً و أعرفُ أن شيئا ما يسقطُ في الطريقِ. أنا أستعمل اللغة العامية كثيرا؛ تحتوي نصوصي على فكاهة مقترنة باللفظ و التي لعلها تفقد شيئا من قوتها غداة ترجمتِها. لقد تحدثت في هذا الصدد مع بعض الزملاء الذين يتحمسون إلى أن يُترجمَ لهم؛ حتى أنا يعجبني ذلك لكن أفضِّل أن تتم قراءتي في الإسبانية. عندي شعور قريب من الأشياء، لهذا أجدني أُفضل القريب المعروف على البعيد المجهول. عندما أكون في الخارج، إن لم أقضي أكثر من خمسة عشر يوما في مكان ما فإنني لا أستطيع أن أتناغم عه. لقد ذهبت إلى أمريكا في غير مَا مرةٍ لكنني كتبت قليلًا عنها لأنني أعتقد أنه كي تكتبَ عن الأشياء يجب عليك أن تدرك الحكمةَ التي يبنيها الاحتكاكُ اليومي. في أمريكا، ، إذا ما أنا بدأت بالإحالة على العمل النقدي للأستاذة خْوَانْ لِيبْمَانْ بْرَاوَنْ، أقول تمت دراستي كثيرا . إن نصَّ “من التخييل إلى ما وراء التخييل” (…) مع أعمال ر. غُويُّونْ و غ. سُوبِخَانُو و غيرهم، كان بدايةَ إسبانيا، بدايةَ تقييمِ مختلفً لكارمن مارتن غيتي.
تعرفين أن الطبيعية تقربني من أناس ينتمون إلى بلدان أخرى، وهم لا يشكلون لي أية غرابة. أما فيما يتصل بالتدويل فأنا لا أُعير نفسي أهمية إلا بقدر الأهمية التي أعطيها لمِهْنِيٍّ في مجال آخر. أريد أن أتقن ما أفعل، و أشكر نِعمةَ كونِي قادرة على فعل هذا، و بعد ذلك فليقرأوني انطلاقا من أماكن كثيرة و ليبحثوا في عملي من بعيد جدا.
إ م: كارمن، فزت بجائزة “نَاضَالْ” لسنة 1958، و نحن اليوم في سنة 1998. إنها أربعون سنة قد خلت. حبذا لو تعبرين بطريقة أو بأخرى عن الأحاسيس التي عشتِها خلال هذه الفترة، مع العلم أنك، من جانب آخر، لم تَكُفِّي قَطُّ عن الكتابة، لقد كانت تفيض منك. من جهة أخرى، ارتفاع حجم القراء يشهد عن حسن كتابتك. ربما لم تكوني تنتظرين أمرا كهذا في شهر دجنبر ذاك منذ حوالي أربعين سنة. اِحكي لنا عن هذا الأمر قليلا، ما تشعرين به من فضلك.
ك م غ: يبدو لي معجزةً. هذا كل شيء. لا أعرف كيف أعبر عن ذلك. عندما أُنهي أمرًا فإنه يعود ليتحول لي إلى أمر آخر، مختلف. لكن، عندما تجددين حيويتك يحدث لك ذاك الأمر الآخر. لم أفقد شيئا في هذا الصدد. فقدتُ أشياءَ أخرى في الحياة، و لكن ليس القدرة على مواجهة تاريخ جديد، على ابتداع شيء منساقةً مع إيقاع التاريخ الخاص، و الذي له إيقاعه بالطبع. إنها أربعون سنة قد انصرمت، و بنفس الأمل الذي كان عندي منذ حوالي أربعين سنة.
هناك ثلاثة أنواع من الرضى: الأول يكون عندما تكتبين. ما يعجبني أنا هو أن أكتب. لا أخوض في الموضوع إلا بعدما أكون قد أخذت بزمامه جيدا. بالاعتماد على ملاحظاتي و رؤوس الأقلام التي أدونها ثم ذاكرتي أستطيع إعداد ذاك الموضوع. لعلكِ تعرفين كيف أني أحيل في نصوصي على فعل الخياطة، على الخيوط، على عملية حذف و إقحام تلك الأشياء، على التوليف بينها…لا يجب قول كل شيء دفعة واحدة، هذا هو الأساس من أجل شد انتباه القارئ…
أما النوع الثاني فيرتبط برضى النقد الذي يُنجز بشأنكِ. أقرأ تلك النُّقود و أتلقاها بإيجابية. في بعض الأحيان، أرى على أنهم لم يدققوا النظر في أمر أعطيه أنا أهمية، لكن في أحايين أخرى أجد النقاد قد قاموا بتدقيقات تفاجئني بتبصرها، إذ إنهم يلاحظون مراتٍ أخرى أمورًا لم أكن أراها أنا بنفس الشكل، و قد أحسنوا صنعا من خلالها. في الحقيقة، الكتابُ يصبح ملكاً للآخرين. إنها لحظةُ عملِ النقادِ.
في حين أن النوع الثالث يتمثل في ما يمنحه القارئ. أرى أنني أروقٌ للكثير من الناس، لن أقول شيئا آخر. و لا ينظرون إليَّ ككاتبة مستسلمة، كاتبة مكرسة. لِنَقُلْ إن مكافأةَ البيعِ ليست بذات بالٍ في حد ذاتها إن لم يكنِ المرءُ سعيدا من في نفسه. لقد فعلتُ ما فعلتُ بأفضلِ صورة أعرفُ، رغم محدودية مواضيعي إذ لا أكتب إلا عن الأشياء التي أعرفُها و لا أملكُ ميلا كبيرا إلى تفسير كيفية فعل ما أفعلُ. إن القارئ سيفهم ذلك لا محالةَ. لهذا أُمحِّصُ الواقعَ، و لا أقدِّم كل المعلومة دفعةً واحدةً. يُرضيني أن يُقَيِّمَ القارئُ ما يقرأُ بائضاً بدوره.
لقد كنت محظوظةً إذ عشتُ هذه الأربعين سنة مقتدرةً على فعل ما يحلو لي، أن أكتبَ، و أن ما أكتبُ يروق لقرائِي، و يشجعُ النقادَ. أرى ذلك كما لو كان معجزةً.
إ م: أشكركِ على تفضُّلِك بمنح هذه المقابلة الصحفية لفائدة مجلة “إِسْبِّيكُولُو”. سيتم تلقيها من خلال حامل جديد، أي الشاشة، و ستبقى لدى القراء صورةٌ عن كثبٍ حول كارمن مارتن غايتي.
*أستاذة جامعية إسبانية مختصة في فقه اللغة الإسبانية. ازدادت ببرشلونة سنة 1949 م. حاضرت في غالبية الجامعات الأوربية بل حتى في جامعات اليابان و أستراليا. هذا و قد حصلت في سنة 2009 على شهادة الدكتوراه الفخرية من السويد. تشتغل في العقد الأخير على مشروع بحثي مع “مركز لغات العالم” في جامعة إيسلندا. و هذه المقابلة أجرتها هذه الباحثة مع الكاتبة الإسبانية الكبيرة كارمن مارتن غايتي لفائدة مجلة “إسبيكولو” الإسبانية الرفيعة. و قد كان ذلك سنة 1998 أي منذ تسعة عشر سنة قد خلت.
**كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء -المغرب.