إقرأ ايضاً:وحق المسيح يا شبيني اسمي محمد
المصدر: “النهار” :هالة حمصي
لم “يبلعها” أحد. “معركة أو حرب مقدسة” في سوريا! للمفاجأة، التعبير نقلته وكالات أنباء عالمية عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، بزعامة البطريرك كيريل، في إعلان تأييدها الغارت الجوية الروسية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا. الموقف على بعد آلاف الكيلومترات. لكن وقعه دوى كإنفجار كبير في لبنان، وأشعل مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف استياء واستغراب واستنكار. حتى أكثر المسلمين اعتدالاً تخلى عن اعتداله. وأكثر المسيحيين مسالمة لم يرق له ما قرأه، “لأنه يحكّ في المكان الخاطىء جداً، وفي زمن مأزوم أصلاً”.
زوبعة في فنجان
ولكن مهلاً، مهلاً! ماذا لو كان ما أوردته تلك الوكالات “غير دقيق، مجتزأ”؟ الاحتمال تحوّل يقيناً لدى رئيس دير سيدة البلمند البطريركي الأرشمندريت يعقوب خليل بعدما قرأ الخبر بالروسية، في ضوء “ترجمة مسؤولة”.
“ما أدلى به رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأب فسيفولود تشابلن جاء في إطار مقابلة مع إذاعة “ايكو” في موسكو، ولم يصدر بيان رسمي عن الكنيسة الروسية. وما قاله هو أن مقاومة الإرهاب أخلاقية، وإذا أردتم مقدسة. لم يقل إطلاقاً أن الكنيسة الروسية أعلنت حرباً أو معركة مقدسة، كما انتشر الخبر في وسائل الإعلام. لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد إلى جهاد مقدس أو حرب دينية أو حرب مسيحية أو أرثوذكسية. وأعلن أيضاً بوضوح أن كل الطوائف في روسيا، المسيحية والإسلامية واليهودية والبوذية، توافق على قرار الجيش بالانخراط في مقاومة الإرهاب. وبذلك يشمل الجميع، وليس طائفة واحدة، بكلامه عن مقاومة الإرهاب”.
بالنسبة إلى الأرشمندريت خليل، حصل “خطأ في ترجمة كلام تشابلن، واجتزأوا تصريحه”. ورأى أن ردود الفعل “زوبعة في فنجان لا أكثر. كلام تشابلن استُغل لاقحام الكنيسة الروسية في موقف لم تدل به، او لتحقق وسائل إعلام عالمية سبقاً صحافياً. المطلوب التمهل والتأكد مما قيل قبل الإدلاء بأي مواقف”.
“موقف الكنيسة الروسية لا يعنينا”
أكانت “مقاومة” أم “معركة”، فقد كبر خبر “المعركة المقدسة” الروسية ككرة ثلج ضخمة في غضون ساعات قليلة فقط. سيل هائل من التعليقات، بينها لمسيحيين وقعوها بالرفض، لاسيما في أوساط الأرثوذكس، كهنة ومؤمنين. موقف مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند الأب جورج مسّوح حازم. “لا حرب مقدسة في المسيحية. كل حرب نرفضها، أكانت باسم إله اليهود، أم إله المسيحيين، أم إله المسلمين. لذلك، فإن موقف الكنيسة الروسية لا يعنينا، لا من قريب ولا من بعيد. ونحن، المسيحيين الشرقيين، نؤمن تماماً بأن لا حرب مقدسة، ولا جهاداً مقدساً، ولا حقاً إلهياً في الحرب، إلى ما هناك من تبريرات تعطى هنا أو هناك”.
ويضيف: “كل من يريد أن يشنّ حرباً أو صراعات هو حر. ولكن رجاء، دعوا الكنيسة جانباً، ولا تدخولها في متاهات هي أبعد من أن تكون لها علاقة بها. في الكنيسة الشرقية، لدينا رجل كبير اسمه المطران جورج خضر، وكتب من نحو 30 عاماً، أيام الحرب الأهلية، أن إله العسكر مات منذ عُلِّق المسيح على الصليب. أي بعد يسوع المسيح، لم يعد لدينا إله يشن الحروب. وبالتالي، نحن نحمل الصليب الذي حمله المسيح، ولسنا صليبيين، بمعنى أننا نريد شن الحروب”.
القرون الوسطى
العودة إلى القرون الوسطى “أمر مرفوض”، يؤكد، “ولا نريد أيضاً الامبراطورية البيزنطية والبابوية اللتين شنتا حروباً باسم الله. ولا نقبل أيضاً بـ”داعش” أو بأي كان يقاتل باسم الله”. ويتدارك: “فكوا أسر الله من حروبكم ومصالحكم”، متوجهاً إلى المسلمين بالقول: “كما تتبرأون من “داعش” وسواها ممن ينسب جهاده إلى الله، نحن أيضاً لا علاقة لنا بالكنيسة الروسية وما أعلنته. للروس مصالح في هذه البلاد، كالأميركيين. أما نحن، المسيحيين الشرقيين، فلا نريد إطلاقاً أن ندفع ثمن صراعات ونفوذ هنا وهناك. لا نريد دولة إسلامية، ولا حرباً مسيحية، ولا ميليشيات. نريد دولة مواطنة مدنية”.
موقف أرثوذكسي آخر رافض كلياً. “في كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية المشرقية، لا نعتبر أنها حرب مقدسة إطلاقاً، لأن ليس لدينا حرب تحرير. لا حروب مقدسة أصلاً عندنا، ولا نؤمن بها، كما لا نؤمن بالحروب المسلحة، لأننا نعتبر أنها استخدام لما هو مرفوض في ديننا، أي العنف. لا نؤمن بالعنف، ولا بأي موقف كنسي يؤيده”، يقول كاهن كنيسة مار الياس للروم الارثوذكس في الرابية- المطيب الأب أغابيوس نعوس لـ”النهار”.
وإذ أكد “رفض استخدام أسلوب الشر كحلّ للشر”، ذكر بأن “كنيستنا كانت قديماً ضد الحروب الصليبية التي سُمّيت حروباً مقدسة وعادت بالفشل على الكنيسة. رفضنا الحروب الصليبية، ولم تعتبر كنيستنا أنها كانت لمنفعة المسيحيين الشرقيين، بل كانت تحطيماً لهم. كنا آنذاك في إخاء مع المسلمين. وعندما جاءت تلك الحروب المسلحة الصليبية، تسببت بتوتر مشرقي كنا بغنى عنه”.
في الاتجاه نفسه، يعبّر كاهن أرثوذكسي آخر عن رأيه، طالباً عدم ذكر اسمه. “أنا ضد ما يحكى عن حرب مقدسة. المسيحية ترفض العنف، خصوصاً العنف الذي يؤدي إلى القتل، وتدينه. أمر آخر هو أن الكنيسة ليس لها أن تدخل في مواضيع من هذا النوع، مواضيع تختلط فيها السياسة بمصالح الدول. إنه شأن الدول. وليس للكنيسة أن تتدخل، وإلا رجعنا إلى أيام الأباطرة والملوك والحروب الصليبية والباباوات والامبراطورية البيزنطية. وهذه حقبات نتمنى ألا تكون موجودة”.
وما يقوله للمسلمين هو أن “ما صدر هو موقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وليس بالضرورة رأينا نحن. الكرسي الأنطاكي ينأى بنفسه عن هذا الموضوع. ويجب عدم الدمج بين الكنيستين، لأن كل بطريركية أرثوذكسية مستقلة لوحدها. نحن نفصل في هذا الأمر، ونتمنى على الجميع أن يفصلوا أيضاً بدورهم”.
“فرصة ذهبية”
في قراءة سياسية هادئة لـ”المعركة المقدسة” الروسية، يكتسب كلام الكنيسة الروسية “معنى مجازياً، ولا يمكن أن يكون له معنى دقيق في القرن الحادي والعشرين، لأن الحروب المقدسة لم تعد مقبولة، وهي إشارة إلى حروب باسم الدين”، تقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف الدكتورة فاديا كيوان لـ”النهار”.
في اعتقادها، أن استخدام تعبير “معركة مقدسة” “مجازي، بمعنى أن لهذه الحرب أهمية كبيرة بالنسبة إلى روسيا. ونعرف جيداً إنها فرصة ذهبية لروسيا، كي ترجع تعزز موقعها في المنطقة، بغض النظر عن الموضوع الديني والإشارة إلى الأديان ومن قام بالتصريح. ومن خلال إقرار المجتمع الدولي الغربي بدورها، تعود لتتربع على منطقة نفوذ، وبالتالي تشارك الدول الكبرى في النفوذ في المنطقة. من هذه الناحية، أعتقد أن هذا هو معنى كلام الكنيسة الروسية، أي أن الفرصة ذهبية لتكريس النفوذ الروسي في المنطقة، وليس معناه دينياً”.
صح. يحرّك تعبير “معركة مقدسة” ذكريات تاريخية مؤلمة للمسيحيين والمسلمين معاً في المنطقة. لكنه “يبقى في إطار الكلام السياسي، وليس الديني”، في رأي كيوان. إلا يشكل تهديداً للمسيحيين، لاسيما الأرثوذكس في المنطقة؟ تجيب: “لا، الخطر موجود أصلاً. والغريق لا يخشى البلل. الخطر على الجميع، مسلمين ومسيحيين. نعم، عبارة “معركة مقدسة” ليست مفيدة إطلاقاً. لكن لا يمكن فهمها إلا فهماً سياسياً، ولا يمكن إطلاقاً أن نعطيها معنى دينياً في قرننا الحالي”.