في زمن التسعينات كنت أملك محلاً تجارياً في ديترويت \ مشيكان لبيع الخمور والمشروبات والمعلبات وكل ما يُمكن بيعه في مثل تلك المحلات الشهيرة يومذاك في المناطق الجغرافية لسكن الأفارقة الأمريكان وكما كانت حال غالبية إبناء الجالية العراقية من المسيحيين الكلدان .
كان العمل في تلك المحلات خطراً جداً حيث خلال سبعين سنة أو أكثر كان هناك مئات من العراقيين قد قتلوا في محلاتهم تلك وذهبوا ضحايا لإنواع السطو المسلح وبعشرات الطرق الخبيثة !.
لِذا مر علينا زمنٌ كنا نعاني فيه -نحنُ أصحاب المحلات- من شحة وجود شغيلة وأيدي عاملة للعمل في محلاتنا التجارية !، حيث الأمريكي الأبيض يرفض ويخاف العمل في مناطق الأفارقة الأمريكان ، وغالبية العراقيين الكلدان من أبناء جاليتنا أصبحوا ينتقون ويُفضلون العمل خارج تلك المناطق خوفاً على حياتهم ، وكنا لا نثق بالشغيلة من أبناء الأفارقة الأمريكان لإن نسبة خطرهم علينا كانت كبيرة جداً جداً وسوابقهم معروفة ومُخزية إجرامياً !.
ولهذا اُسقط في يدنا حيث كان محل متوسط الحجم كمحلي مثلاً بحاجة على الأقل لخمسة عمال إضافة لشخصي، ولم يكن قد تبقى لي غير عاملين عراقيين فقط إضافة لعامل من الأفارقة الأمريكان !، لِذا كنتُ يومياً أعمل 14 ساعة ولسبعة أيام اسبوعياً لسد النقص في اليد العاملة !. وكنتُ حقاً بحاجة ماسة جداً جداً جداً لعمال عراقيين مهما بلغت درجة تدني خبرتهم أو حتى أمزجتهم وأخلاقهم والتي عادةً كانت امزجة شرقية خرائية معروفة عنا نحنُ العراقيين الذين لا أخلاق لمعضمنا حين نكون في موقع الوظيفة والتعامل مع البشر والتجربة الحياتية اليومية للعمل !. وهي حقيقة لن ينكرها أي أنسان منا نزيه ويقول الحق .
المهم … ذات يوم دخل محلي رجل في العقد الرابع من عمره ويبدو للوهلة الأولى وحتى من مبعدة ميل ربما على أنه عراقي للكشر هههههههههه !!!!!، تدل عليهِ سحنته وشعره وملابسه وتقطيبة وجهه الرهيبة وفيما بعد رائحة ما تحت أبطيهِ !، وكانت سيكارته بين شفتيه !!.
سألني وبدون أن يرفع سيكارته من بين شفتيه إن كنتُ بحاجة لعامل !؟.
رحبتُ به وصافحته ورحتُ أسأله إن كانت له أية خبرة عملية في محلات ال
( liquor store )
فأجاب بنعم .
كانت عينه اليسرى تالفة تماماً ومغلقة !، اما عينه اليمنى فكانت حمراء نصف تالفة وتدمع ربما بسبب السيكارة التي بين شفتيه طول الوقت والتي كلما أنتهت وإحترقت يقوم بإشعال غيرها مباشرةً وبدون عود ثقاب أو ولاعة ، هكذا .. من سيكارة لأخرى .
قال لي بعد أن شفط دخان سيكارته بنهم :
شوف استادي … هذي شروطي … سأعمل عندك ليس كعامل عادي ولكن كمدير للعمل ( مانجر )، وسأدير محلك هذا فقط حين عدم تواجدك فيه !!، فأنا لا أفضل أن نعمل معاً لإن لي طريقتي الأكاديمية الخاصة في تسيير العمل !. وعليك أن تعطيني مفاتيح المحل لإنني رجل ثقة ويُمكن لك أن تأتمنني على حياتك وعائلتك وأموالك !، كذلك اريد مفاتيح القاصة، أما عن أجرتي فأطلب أجراً مقداره ( 25 ) دولاراً في الساعة، وأنا لا أعمل في شفت الليل … بل فقط أثناء النهار، أي من وقت فتح المحل صباحاً ولحد الخامسة عصراً تجنباً لمخاطر العمل الليلي، وأعمل فقط 5 أيام في الأسبوع، حيث السبت والأحد هي عطلتي الأسبوعية وأنا أذهب للكنيسة في يوم الأحد لإسمع القداس وأصلي . إضافة ألى أنني مدخن كما ترى … لذلك على المحل إعطائي علبتين سجائر مجانية كل يوم !، كذلك يتحمل المحل مبالغ ( بانزين ) سيارتي ذهاباً وإياباً بين بيتي والمحل ، ولا سامح الله لو تم كسر سيارتي لسبب ما خارج المحل من قبل أحد الزبائن السود فعلى المحل تصليحها لي مهما كان الثمن . وحتماً وطبعاً لن اٌقوم بأي عمل من أي نوع داخل المحل سوى أن اكون ( كاشير ) فقط .
ثم وبحركة مسرحية رشيقة أطفأ سيجارته على الأرض بعد أن سحقها بحذائه المهتريء غير مبالٍ بنظافة ارضية محلي . وراح يحدق بعينه السليمة في وجهي منتظراً إجابتي ورأيي .
أما أنا فإبتسمتُ في وجهه ورحتُ أكتب بضعة أسطر فوق ورقة بيضاء، وحين مرت نصف دقيقة وأنا أكتب سألني بتعجب :
ماذا تفعل ؟.
قلتُ له :
أكتب لك ورقة قانونية اتنازل لك فيها عن محلي التجاري هذا بكامله وسأركب سيارتي وأعود لبيتي لإنك المالك الجديد للمحل .
نظر محملقاً بوجهي وكأنه لم يفهم وعلامات الغباء ترتسم على وجهه ، ثم سألني بتردد :
هل أنت مجنون أم أنك تمزح معي !!؟.
قلتُ له وأنا أكاد أنفجر :
ولك تطلع من المحل لو أطلعك بالجلاليق ؟، إبن الكحبة ما بُقة غير أنطيك مرتي وبناتي !!.
وحين رآى عصبيتي وجديتي أسرع مغادراً المحل لا يلوي على شيء وهو يردد :
مجنون … والله العظيم مجنون .
بينما عمالي الأثنين كادوا يسقطون على الأرض ضحكاً .
المجدُ لحكمة : (( رحم الله إمرءٍ عرف قدر نفسه ))!.
طلعت ميشو . Aug – 6 – 2018