منذ ايام قليلة حضرت مؤتمر ” الاٍرهاب و العلاقات العربية الافريقية” … المؤتمر عقد في معهد الدراسات الافريقية في جامعة القاهرة و بجهود خاصة من الدكتور ابراهيم احمد نصر نجح المؤتمر في عقد جلساته على مدى يومين و حضره باحثون و العديد من وسائل الاعلام بالاضافة الى بعض السياسيين و سفراء بعض الدول العربية..
و كانت لي شخصيا بعض الملاحظات التي تحدثت عنها في الجلسة التقييمية الختامية و أوضحها هنا..
اولا… مفهوم الاٍرهاب هو مصطلح سياسي و ليس مفهوما علميا و السؤال هو كيف يمكن استخدام مصطلح غير علمي في بحث علمي…. الامر يحتاج الى تعريفات دقيقة و محددة و الى نظرة نقدية افتقدت اليها الأوراق المقدمة و المناقشات التي دارت..
ثانيا… افتقدت الأوراق ايضا الى ربط الموضوع بالعولمة من حيث اليات التغيير الحاصلة في البنية السياسية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية في العالم و التي من سماتها انحسار دور الدولة القومية و ظهور أنماط اخرى للدولة و نظم الادارة الذاتية… و منها ما يسمى بدولة الشركات و الوكالات الأمنية و تجمعات الأغنياء او الأجانب في دول كثيرة منها بعض الدول العربية و خاصة في منطقة الخليج… الإمارات مثالا…
ضرورة هذه الاشكالية انها تطرح فكرة الأخذ بنظر الاعتبار إمكانيات تبلور أشكال اخرى للتعاون قد تختلف عن الأشكال التقليدية للتعاون بين الدول… كما انها توفر امكانية لإيجاد حلول جديدة للمشكلات و التحديات بما فيها مشكلة الاٍرهاب و غيرها..
ثالثا… اشكالية العلاقة الانتمائية بين مصر ( و كذلك دول شمال افريقيا العربية) مع افريقيا جنوب الصحراء حيث تظهر ان هناك هوة ثقافية معرفية بين الجانبين…
هناك عاملان لعبا و مازالا يلعبان دورا كبيرا في تضخيم هذه الهوة و استفحالها و هما العمليات الاستعمارية المستمرة في افريقيا من قبل مختلف القوى العالمية ( أغلبها غربية لكن هناك ظهور كبير و رهيب للصين في العقدين الاخيرين ) و كذلك الارث الوخيم لدور العرب في تاريخ العبودية و الذي لم تستطع الانتلجنسيا العربية إيجاد مشروع ثقافي بديل له…
لكن يمكننا ايضا ان نتصور ان نوعا مختلفا لسوء الفهم بين العرب و الافريقان ربما يكون قد ظهر بشكل او باخر في فترة التحرر من الاستعمار القديم في أواسط القرن الماضي و الظهور القوي للمشروع الناصري في مصر و المتردد بين القومية العربية و الدائرة الافريقية …
هنا يمكننا ان نتحدث عن احتمال تصادم رؤيتين هما “تعريب افريقيا” و ” أفرقة العرب”… و ربما لعبت مشاريع القذافي المختلفة ( الهوية الجغرافية الافريقية و الدولة الفاطمية و ملك افريقيا و جيش افريقيا… الخ) قد لعبت ايضا دورا مشوشا بدلا من تقديم رؤية معرفية جديدة..
رابعا…رغم التغيرات في عنوان منظمة الوحدة الافريقية و أهدافها و أولوياتها … الا اننا نلاحظ عدم وجود مؤسسات علمية و ثقافية عربية في الدول الافريقية … و لا اعني هنا المؤسسات الفوقية التي لا تنتج شيئا غير اجتماعات لا يلقى احد البال على توصياتها… و لكني اعني عدم وجود مراكز دراسات عربية في الجامعات الافريقية او درات أفريقية في الدول العربية ( باستثناء مصر) التي ممكن لها ان تكون الارضيّة لخلق جيل من الشباب الأفريقي و العربي الذي يتفاعل مع التطورات المختلفة في المجتمعات العربية و الافريقية و ربطها فيما يتعلق بنمو التحديات المتجدد و الحاجة الى رؤى و اليات جديدة للتعامل معها و معالجتها بشكل مشترك…
و لأننا نركز هنا على الجانب العربي من معادلة العلاقة الجدلية فإننا لابد ان نستخلص ان عدم اهتمام العرب عموما و خاصة الشمال أفريقيين منهم زاد من الهوة الثقافية و الاجتماعية بين الجانبين بدلا من خلق جسور للتواصل..
انطلاقا من هذه الحقيقة المؤلمة فان احد مفاتيح التعاون بين مصر و الدول الافريقية هو ان تقوم المؤسسات المختلفة في مصر ببلورة أفكار و طرحها عربيا لخلق أساس ثقافي للتوجه نحو افريقيا متلازما مع استثمارات تنموية و اعادة بناء مشروع عربي أفريقي يتوفر على رؤى مختلفة متجاوزا الكلاسيكيات التقليدية في فهم التحديات الجديدة و منها اعمال العنف و الهجرة و غيرها..
خامسا…تشجيع الباحثين الشباب في معهد الدراسات الافريقية على تقديم أوراق عمل
policy-making
بدلا من أوراق بحوث تعتمد الحماسة بدلا من النقد العلمي… هؤلاء الشباب يمكن ان يقضوا وقتا في مؤسسات مختلفة في الدولة لفهم حاجاتها الحقيقة و مكامن الخلل في العلاقة العربية الافريقية من منظور واقعي يومي (يمكن تطويرها برؤى نظرية و فلسفية فيما بعد)..
مثل هذه التجربة يمكن تطويرها مع الوقت و توسيعها الى مراكز علمية اخرى و كذلك الى مؤسسات الدولة لتخطي العقدة البيروقراطية التقليدية مما يتيح تطوير العلاقات بشكل اكثر سلاسة..
سادسا و اخيرا… حتى نعود الى الثيمة الاساسية للمؤتمر فان مما لا شك فيه ان اعمال العنف و العمليات التدميرية للبنى الاساسية للمجتمعات في الشرق الأوسط و افريقيا انما تتغذى من الهوة المعرفية التي ذكرناها آنفا… صراع الهويات مثال العلاقة بين الهوية الافريقانية و الوجود العربي ( هل العرب جزء من افريقيا ام انهم مهاجرون يجب ان يرحلوا..؟؟.. ) او في جدلية التاريخ الحضاري الفرعوني ( هل الفرعونية هي بلورة لتجارب شعوب افريقيا و ثقافاتها… ام ان الفرعونية كانت قد نشأت و تطورت في مصر لوحدها و ربما توسعت فيما بعد الى مناطق اخرى في القارة..؟؟..)…
الاندفاع الحالي و الذي بدأ في العقود الماضية للتيارات الدينية العنيفة و الرافضة للاخر يمكن وضعها في هذاالإطار … لان بروز الصراع المعرفي بين الهويات القديمة (كما ورد) فسحت الطريق امام اطروحات فكرية اختزالية سواء باسم الدين او غيره خاصة ان هذه الأفكار تحولت الى سياست و إجراءات ( عنفية و إقصائية تعاني منها الكثير المجتمعات خاصة في العالم العربي و افريقيا…
خلاصة القول ان دولة مثل مصر و هي تواجه تحديات داخلية و خارجية…تنموية و عسكرية … تراكمات اقتصادية و سياسية و تهديدات و ضغوط إقليمية و عالمية . .. لكنها وفي الوقت نفسه تحاول إيجاد نقاط ارتكاز لخلق مشاريع تنموية عليها بالعمل على تحوير الإمكانيات المتوفرة لديها لكي تتناسب مع خريطة جدية للأولويات و إيجاد ميكانيزمات و ورؤى جديدة و مختلفة تتجاوز الصراعات الافريقية في الهوية و التاريخ لان الحقيقة التي تتجلى امام الجميع الان هي ان التحديات الجديدة و منها طبيعة اليات العنف و توسعها الجغرافي العابر لحدود الدولة التقليدية تستدعي بلا شك تفكيرا في أنماط جديدة من المعالجات و أهمها ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار الرؤى الكونية للجماعات العنفية و مشاريعهاالاسياسية و الاقتصادية…
لابد من ادراك التحولات البنيوية الكبرى في توجه الأفراد و الجماعات بسبب التراكم التاريخي للإحباط و الفقر و غيرها الكثير من عوامل الانكسار السيكولوجي و الاقتصادي الاجتماعي…. حيث ان هؤلاء الأفراد و الجماعات تسعى في السنوات الاخيرة و بفعل التطور التكنولوجي الهائل و اليات العولمة الراخية الخروج من القوالب التاريخية المكبلة لطموحاتها محاولة تجاوز الحدود التقليدية و منها حدود الدولة الوطنية… مستفيدة في ذلك من نهم شركات صناعة السلاح و تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية..
هذا كله يستدعي أنماطا اخرى غير مسبوقة من المعالجات التنموية و الأمنية داخل المجتمعات و بين الدول الإقليمية و هذا ما على مصر التي نتمنى لها كل الخير ان تفكر فيه بجدية كي تعود الى لعب دور رائد في المنطقة و في العالم..
و اخيرا شكرًا للدكتور ابراهيم احمد نصر و كل القائمين على تنظيم المؤتمر لاتاحة الفرصة لنا للمشاركة و ابداء الرأي…. حبي للجميع..