د. ميسون البياتي
حين حلت الحرب العالمية الثانيه عام 1939 كانت قد إندلعت لتصل الى باريس منتصف عام 1940 فقلبت الحياة فيها رأساً على عقب .
ألمانيا النازيه المعاديه لليهود حين هاجمت بولونيا هرب يهودها الى فرنسا بحثاً عن ملجأ آمن أما حين إحتلت ألمانيا فرنسا فقد أحتلت باريس وأجزاء فرنسا الشماليه إحتلالاً عسكريا ً مباشرا ً فيما نصبت حكومة عميلة لها في مدينة فيشي كانت تدعى حكومة فيشي , ومن أول ما قامت به هذه الحكومه هو سن القوانين المعاديه لليهود .
شرطة حكومة فيشي كانت تعتقل اليهود بأعداد كبيره وتحشرهم في أماكن صغيره قذره وزيادة على ذلك فقد قام النازيون بوضع نظام معسكرات الإصلاح لهؤلاء اليهود والتي تعرف اليوم بمعسكرات الموت . حكومة فيشي قامت بإعتقال اليهود من جميع الأعمار ثم أرسلتهم الى هذه المعسكرات التي دخلها 11402 معتقل ولم يخرج منها غير 300 منهم فقط .
في جميع أنحاء فرنسا كان بعض سكان فرنسا يحاولون حماية اليهود بإيوائهم في أماكن بعيده عن الأنظار , ولمدة عامين من دخول القوات الألمانيه كان الجزء الجنوبي من فرنسا غير خاضع للإحتلال ولهذا كان يعد ملجأ آمناً لليهود الذين كانوا يفعلون المستحيل للوصول إليه .
بعض يهود باريس وجدوا ملاذات آمنه في أماكن غير متوقعه مثل جامع باريس الكبير الذي يعد مركز التجمع الإسلامي في فرنسا ويقع في قلب باريس . بني الجامع عام 1926 . كان شمال أفريقيا ذلك الوقت ( المغرب والجزائر وتونس ) مستعمرات فرنسيه ولهذا فآلاف المسلمين قدموا من هذه البلدان الى باريس وأسسوا جالية فيها .
أرض الجامع كانت قد منحتها الحكومه الفرنسيه الى المسلمين مقابل سعر رمزي مقداره فرنك فرنسي واحد وذلك عرفانا ً بجميل نصف مليون جندي مسلم قاتلوا تحت علم الجمهورية الفرنسيه أثناء الحرب العالمية الأولى .
حرفيون مختصون تم جلبهم من شمال أفريقيا قاموا بتشكيل قباب الجامع وزخرفته بالموزائيك . الأقواس والأعمده كانت تحيط باحة الجامع وحدائقه المليئه بالزهور والأشجار ونوافير المياه , وصوت الأذان يسمع 5 مرات في اليوم يدعو الناس الى الصلاة .
غير أن الجامع لم يكن مكانا ً للعبادة فقط , بل كان مركزاً للجالية المسلمه يقوم بتسجيل كل شيء عن حياتها : الولادات والوفيات وعقود الزواج , وكان الصغار والكبار يدرسون فيه اللغة وعلوم الدين أو يأخذون فيه حمامات البخار أو يتجولون في ممراته أو يشترون من سوقه أو يستعيرون الكتب من مكتبة الجامع .
كل حاجات المسلم كانت تلبى في هذا الجامع بضمن ذلك وجود عيادة للمرضى ومستشفى صغير لمن يحتاج عناية صحية أكبر , وحتى بعد الموت كانت المقبرة الإسلاميه تقع قريباً من الجامع .
سادن هذا الجامع هو ( سي قدور بن جبريت ) , كسادن فهو مسؤول عن إدارة أمور الجامع الإداريه بينما الإمام شخص آخر يتولى الإداره الدينيه أو الروحيه . سي قدور بن جبريت جزائري الولاده عمل دبلوماسياً لبلده الجزائر في المغرب مع العديد من الدبلوماسيين الفرنسيين الذين تعرفوا على قابلياته وكانوا يرونه الشخص الأصلح ليكون قائد الجالية الإسلاميه في فرنسا حيث يلعب هو دور الوسيط بين الحكومة الفرنسيه والجالية المسلمه .
حين سقطت فرنسا تحت الإحتلال النازي عام 1940 قدم شاي يهودي جزائري يدعى ( سالم هلالي ) الى الجامع بعد أن تعقبه النازيون فقام سي قدور بن جبريت بتزويده بوثيقه تذكر بأن جد سالم كان قد إعتنق الإسلام وبالتالي فإن حفيده مسلم وليس يهودي , وزيادة على هذا فقد تم نحت شاهدة قبر عليها اسم جد سالم ووضعت في المقبرة الإسلاميه ( وطبعاً هذا الكلام للتمويه وليس له أساس من الصحه ) .
شخصان آخران من شمال أفريقيا هربا من معسكرات الإعتقال هما اليهوديان ( ألبرت أسولاين ) و ( ياسا رحّال ) جاءا الى الجامع لطلب الأمان وحين تم إيوائهما تعرف ألبرت على يهود آخرين تم إخفاؤهم داخل الجامع .
بجانب غرف الجامع العامه كانت هناك غرف خاصه للعاملين في الجامع مع عوائلهم ولهذا كان يتم أخفاء اليهود الهاربين على أنهم أفراد من هذه العوائل , ولم تكن إقامة اللاجئين تزيد على عدة أيام يتم بعدها ترحيلهم بأمان الى الجزء الجنوبي من فرنسا حيث يجدون هناك أماناً أكبر .
كان النازيون وحكومة فيشي يشكّون بالدور الذي يقوم به الجامع ولهذا فإن سي قدور بن جبريت كان يضع زراً كهربائيا تحت السجاده بالقرب من قدمه ويقوم بالضغط عليه بمجرد دخول واحد من الألمان أو عملائهم فيرن الجرس في مكان آخر من الجامع ليعطي التنبيه لمن بالداخل لأخذ حذرهم .. ثم يكسب المزيد من الوقت بأن يطلب من الزائرين نزع بساطيلهم العسكريه أو أحذيتهم قبل الدخول خطوة واحده الى داخل الجامع .
الطبيب التونسي ( أحمد سميا ) الذي يعمل في الجامع ومن أجل حماية الأطفال اليهود فبعد تزويدهم بوثائق مزوره كان يدعي إصابتهم بأمراض خطيره تتطلب إقامتهم لفترات طويله في مصحات خارج باريس , كما قام بقيادة مجاميع من شباب شمال أفريقيا يرتدون القفطان المغربي فلا يتعرض لهم الألمان ويخفون بينهم الكثير من اليهود الذين وزعت عليهم القفاطين من أجل تهريبهم دون أن يشعر بهم أحد .
بحلول الإحتلال الألماني لفرنسا خسرت فرنسا أعداد كبيره من شبابها المقاتلين ولهذا شغرت الوظائف والمصانع من العاملين فيها فحل محلهم المسلمون البربر القادمون من شمال أفريقيا , وكان هؤلاء المسلمون البربر هم من حفر أنفاق مترو باريس بعد الحرب العالمية الأولى , وعند نهاية الحرب العالمية الثانيه أصبح هؤلاء جزءاً من لحمة المجتمع الفرنسي الكبير .
وفي حين لم تكن حكومة فيشي أو الإحتلال الألماني يسجلان ما يقومان به من عمليات الإعتقال بحق اليهود كان المسلمون البربر يسجلون ذلك بالعدد والأسماء , والكثير من المسلمين شاركوا في عمليات إنقاذ اليهود , وكان هولاء المسلمون يمارسون هذا النشاط على شكل شبكة منظمه شاركت الفرنسيين في عملية مقاومة الإحتلال وكان لعمل هذه الشبكة ميزه مهمه هي أنهم كانوا يستعملون اللهجه القبليه في كتاباتهم ومخاطباتهم فلا يفهم عليهم أحد غيرهم وبذلك يصبح من المستحيل إختراقهم .
قديما ً كان الباعه المتجولون يستعملون الدراجات الهوائيه الحاويه على صندوق كبير موضوع بين العجلتين الأماميتين توضع فيه البضاعه المراد بيعها أو نقلها وكان المسلمون يستخدمون هذه الدراجات لنقل اليهود المستنجدين بالجامع .. من الجامع وحتى ضفة نهر السين حيث تقع محطه لتسلم النبيذ القادم من جنوب فرنسا عبر النهر الى باريس في براميل خشبيه كبيره تصل الى باريس مليئه وتعود الى جنوب فرنسا فارغه .. كان المسلمون يخبئون اليهود داخل هذه البراميل ويشحنونهم الى جنوب فرنسا على ظهور القوارب , مثلما كانوا يستعملون اللهجه القبليه في نقل الأسرار القتاليه بين وحدات الجيش الفرنسي المقاوم للإحتلال .
بعد 4 سنوات من الإحتلال تم طرد الألمان من فرنسا , سادن الجامع سي قدور بن جبريت بقي في عمله حتى وفاته عام 1954 فتم دفنه داخل الجامع .
وبسبب سي قدور بن جبريت فقد عاش ( سالم هلالي ) عمراً طويلا ً بعد إنقاذه من أيدي النازيين حيث يعد سالم هلالي اليوم أباً للأغنية الحديثه الأفريقيه الشماليه .
( ألبرت أسولاين ) إنضم الى الجيش الفرنسي لمحاربة الألمان في شمال أفريقيا وبعد الحرب استقر في باريس ناذراً نفسه لتقديم المساعده لأي من يحتاجها .
الطبيب التونسي ( أحمد سميا ) إستمر في عمله بعلاج الناس وتقديم العون الطبي لهم بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المعتقد .
جامع باريس الكبير ساهم مساهمة فعاله في مقاومة الإحتلال الألماني وإنقذ الكثير من الأرواح من يهود أو سواهم رغم أن هذا العمل كان من الممكن أن يؤدي بأرواح العاملين في الجامع وعلى رأسهم سي قدور بن جبريت , ضاربين بذلك أسمى الأمثال في معاني الإخاء والإنسانيه . ميسون البياتي – مفكر حر؟