قبل كل شيء لابد من الإشارة الى ان هناك لغطا شديدا حول هذه السيدة السودانية … او ربما السعودية … و تحولها الى الديانة المسيحية و تركها الاسلام … او عودتها الى المسيحية بعد تحولها في فترة سابقة الى الاسلام … او شيء من هذا و شيء من ذاك … او ربما شيء اخر مختلف… المهم اننا في المقالة لا نبحث في أصل هذه الأخبار و الادعاءات و الادعاءات المقابلة …. و إنما نركز على قضية مبدئية و هي قضية حرية الاختيار و الإيمان…
استعير مقاربة “شهيدة الاختيار” من احدى مقالات مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه المشهور ” العبرات” الذي كنت قرأته قبل عقود و لكنه ما يزال يحضر في ذاكرتي.. المقالة كانت بعنوان “قتيلة الجوع”… و المقاربة تستند الى فكرة ان القتيل او المقتول بلا ذنب يعتبر شهيدا في كل الأديان و الثقافية بغض النظر عن التسمية….و مع احترامي لخصوصية مفهوم الشهيد في الاسلام فان ما يهمني هنا ليس توزيع وثائق “شهادة” او ” شهيد / شهيدة” فأنا لست في معرض الدخول في عرض مفاهيم تحتاج الى مناقشات طويلة و تدخل فيها عناصر كثيرة لا يمكن استحضارها في مقالة…
ما اريد ان أطرحه هو اشكالية حقيقة تتعلق بكل ما يمت الى المجتمع من صلة… كل ما يمكن ان نستحضره في هذه اللحظة التاريخية حيث الانتخابات تجري هنا و هناك و الجميع مدعوون للاختيار و التغيير.. و هناك ثورات.. و حرية الاختيار و التغيير تشكل احد أهم مرتكزاتها السياسية و الاخلاقية… و هناك مئات بل الألف من منظمات المجتمع و المدافعة عن الحقوق و حقوق الانسان التي يشكل فيها حق الاختيار أيضاً مبدأ أساسيا … او… المبدأ الأساسي …
و السودان ليس بعيدا هذا الصخب الهائل لأصوات المنادين بحقوق الانسان و حق المراة… و رغم ذلك يصدر حكم بإعدام امرأة … ليس لأي شيء اخر… سوى انها ” تجرأت” على الاختيار.. نعم اختيار شيء لا يمكن لأي كائن على الارض ان يختار عنها ذلك… انه اختيار يتعلق بالإيمان … لان الإيمان ليس شيئا قياسيا و ليس شيئا ماديا… و لا شيئا يمكن تنظيمه بقانون و لا شيئا يباع او يشترى…
الإيمان هو القياس الاول لحرية الاختيار و كل مظاهر الاختيار الاخرى يترتب على هذا النوع من الاختيار سواء يتعلق بأمور بسيطة مثل المأكل و المشرب… او اللباس و السفر.. او الامور الكثر تعقيدا مثل الاختيار السياسي لحزب او جماعة … او حب شخص او وطن… او… الخ… كل هذا يبدأ بالإيمان … و هذا الإيمان عندما يحصل فلا يعرف به احد غير الشخص نفسه و الله..
هذا الاختيار الابتدائي الأولي مارسته هذه المراة في السودان.. و حكمت بالإعدام لانها مارست حقها في اختيار طريق الوصول الى الله.. و الغريب انها اختارت طريق نبي من اقرب الأنبياء الى نبي الاسلام تاريخا و منهجا… بل الأغرب ان القرآن ينص على المسلم لابد يؤمن بكل الأنبياء و الرسل و رسالاتهم السماوية بدون تفريق…
لا أشك بان المسؤولين في السودان مطلعون بشكل كبير على آيات القرآن لكن من حقنا ان نتساءل هنا… هل يضمن الرئيس عمر البشير و كل الرجال المحترمون حوله… ان ما يدور في قلب كل سوداني مسلم هو بالضبط ما تعتقده سلطات الدولة ام يمكن ان يفكر هذا الشخص او ذاك بشكل مختلف و بتفسير مختلف …؟؟؟… اذا كان الامر كذلك فلماذا لم يقل الدين عن ان شيوخ العشائر او الملوك او الرؤساء و غيرهم من السلطات يمكن ان ينوبو عن شعوبهم يوم القيامة… ؟؟… لماذا يظل امر الحساب و الكتاب متعلقاً بكل شخص دون أهله و اخوانه و والديه… الخ.. كما يؤكد القرآن…؟؟..
الامر الاخر… الذي يشكل أهمية كبرى في نشر الاسلام الذي يشكر الكثيرون رب العالمين عليه.. و هو… ماذا لو قررت سلطات الدول الاخرى الحكم بإعدام كل من يدخل الاسلام…؟؟.. نعم مبدئيا يمكن ذلك… فقضية الردة التي يستخدمها البعض حجة أخلاقية و دينية لمنع المسلمين من اختيار دين اخر…. هو نظام اجتماعي قديم جداً و مارسته الكثير من المجتمعات تحت تسميات و أعذار مختلفة لكن الهدف الأساسي ظل الحفاظ على وحدة المجتمع و هذه فكرة قبلية انعزالية قديمة قدم التكوينات الاجتماعية البدائية لكنها ظلت أساسا للبناء الاجتماعي و المجتمعي حتى في ظل الديانات السماوية نتيجة تسلط القوى التقليدية التي كانت تحارب التغيير … و التاريخ يعلمنا كيف ان العديد من الأنبياء و آخرهم السيد المسيح قتلوا لأنهم كانوا يدعون الى التحرر من الانعزالية و التقوقع … و تاريخ الاسلام هو أيضاً خير دليل على ذلك حيث جرت محاولات حثيثة و دائمة لقتل النبي محمد و قتل كل من انتمى الى الاسلام…
في هذا الصدد أيضاً هناك قضية يتغاضى عنها… و هي ان موجات المنتمين الى الاسلام والتي بدأت منذ ظهور الاول للإسلام و حتى اليوم … و نحن نتحدث هنا عن مئات الآلاف من الناس تطورت أعدادهم شيئا فشيئا الى ملايين… كل هؤلاء يعتبرون خارجيين عن دياناتهم السابقة و عن ثقافاتهم التاريخية … فهل سيتقبل رجال الدين الاسلامي ان يحكم على هؤلاء بالإعدام لأنهم يعتبرون فعلا مرتدين و خارجين عن الدين و خونة وفق قوانين تلك المجتمعات ..؟؟…
الان… السؤال المهم هو… هل يجب احترام قواعد اللعبة…حرية الاختيار العقيدي او الديني التي أفادت المسلمين اكثر بكثر مما أفاد اتباع الديانات الاخرى… ام يجب دفع المجتمعات الاخرى الى فرض قوانين صارمة ضد اي تغيير للدين و خاصة منع دخول الاسلام …؟؟؟…
لا ادري ان كان الرئيس عمر البشير او احد مساعديه يقرأ هذه المقالة لكن أتمنى في الأحوال التفكير بشكل أوسع حول تأثير هذه الممارسات … إعدام امرأة ….التي تبدو صغيرة لكنها رسائل خطيرة جداً يمكن ان تستثمرها قوى يمينية متطرفة تحقق انتصارات سياسية كبيرة هذه الأيام في الغرب… و كذلك يمكن ان تستثمرها المجموعات الغاضبة هنا و هناك في السودان و العالم الاسلامي و النتيجة هي تفكيك المجتمعات التي تعاني أساسا من هشاشة التركيب و التنظيم…
اذا كان الرئيس البشير و رجاله المحترمون يخشون مما سيحصل يوم القيامة فلا بئس ان يطمئنوا ان الحاكم لا يحاسب على ما في قلوب الناس … بل يحاسب على بطونهم الخاوية اي الفقر و الجوع و كذلك على معاناتهم في السجون و مع المرض… هكذا قال الأولون…
اخيرا…أرجو ان ينتبه الجميع… فالمرأة اسمها مريم… و هذا اسم واحدة من أطول السور في القرآن و أكثرها دعوة الى الرحمة و قبول الاخر… فهل يمكن ان يستخدم جزء من القرآن لإدانة الجزء الاخر…؟؟؟..