مذبحة المسيحيين في دمشق 1860

dama4

الحي المسيحي في دمشق عام 1862 ويظهر الشارع المستقيم مع الكنيسة المريمية المحروقة (البناء العالي إلى اليسار)

مدونة غسان كرياكي

كيف ولماذا حصلت مذبحة المسيحيين في دمشق عام 1860؟ ما هو دور روسيا وفرنسا وبريطانيا وتدخلها في شؤون السلطنة؟ هل كانت نتيجة للصراع بين العلمانية ومبادئها من جهة والشريعة وقوانينها من جهة أخرى؟ ما دور القوى الإقليمية والصراع بين محمد علي (مصر) وآل سعود (الوهابيين في شبه الجزيرة العربية) فيها؟ هل لعب الفارق الطبقي وازدياد الفقر دوراً؟ لماذا تآمر حاكم دمشق العثماني مع ثلة من الإسلاميين المتعصبين على مسيحيي المدينة؟

تاريخ مدينة دمشق:

تعتبر مدينة دمشق واحدة من أعرق مدن التاريخ وهي تقع في الجنوب من دولة سوريا الحديثة. وهي أقدم مدينة في العالم عاش فيها الإنسان بلا انقطاع، حيث أثبتت الدراسات الجيولوجية أن الإنسان عاش فيها منذ الألف السابع قبل الميلاد. كما وجدت آثار تثبت أن الإنسان عاش في حوض بردى القريب منذ الألف التاسع قبل الميلاد، مما يجعلها تنافس أريحا على لقب أقدم مستوطنة في العالم قاطبة.

وعُرِفت أول الشعوب التي سكنتها بالكنعانيين وتبعهم العموريون، وقبل مجيء العرب سكنها الآراميون. وبسبب موقعها الإستراتيجي تنازعت عليها إمبراطوريات العالم في كل الأحقاب. قبل الميلاد تناوبت حضارات ما بين النهرين والفراعنة على إحتلالها. ثم جاء دور الحضارات الأوروبية (اليونانية والرومانية والبيزنطية) التي تنافست مع الحضارة الفارسية في السيطرة على بلاد الشام.

وجاء العرب المسلمين في القرن السابع للميلاد حيث اصبحت دمشق عاصمة أعظم امبراطورية في التاريخ في ذلك الوقت وهي الدولة الأموية التي امتدت حدودها من المغرب واسبانيا إلى الصين. وعاشت دمشق أوج مجدها لحوالي قرن من الزمن قبل أن تنتقل الخلافة إلى بغداد في عهد الدولة العباسية.

في عهد العباسيين تراجعت أهمية دمشق بشكل كبير لكن هذا لم يمنع الطامعين من محاولة السيطرة عليها. وما فشل فيه الأوروبيون (البيزنطيون والصليبون) نجح فيه المصريون. فحكمها الفاطميون والأيوبيون ومن ثم المماليك إلى أن جاء العثمانيون الأتراك ليحكموها لمدة أربعة قرون.

حكم المماليك دمشق إلى ما يقرب من قرنين ونصف من الزمن، ما عدا فترة قصيرة وقعت فيها دمشق في يد المغول الذين دمروا المدينة بشكل كامل وأحرقوا المسجد الأموي وقتلوا حوالي 50,000 من سكانها، منهم من مات في القتال ومنهم من مات في الحرائق التي افتعلها الغزاة.

الحياة الدينية:

تأثر السوريون عامة والدمشقيون خاصة بديانات الدول التي احتلتهم. ففي البدء غلبت الديانات الوثنية مع بعض التجمعات السكانية التي آمنت بالديانة اليهودية ومن ثم المسيحية إلى أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية حيث بدأت المسيحية بالإنتشار الواسع. وبعد انقسام الإمبراطورية في القرن السادس للميلاد بقيت الكنيسة تتبع ديانة البيزنطيين الذين ورثوا حكم بلاد الشام.

بعد مجيء العرب المسلمين في القرن السابع، بقي معظم السوريين على دياناتهم إذا كانت سماوية كالمسيحية واليهودية، بينما حارب المسلمون الوثنيين حتى قضوا على وجودهم في كافة أنحاء الدولة الإسلامية. سمح المسلمون لأصحاب الديانات المسيحية واليهودية بالبقاء على دينهم بشروط ومنها أن يدفعوا جزية سنوية.

بعد إنشقاق الكنيسة في القرن الحادي عشر أصبح غالبية مسيحي سوريا يتبعون التعاليم الأورثوذوكسية التي كانت تعاليم البيزنطيين وعاصمتهم القسطنطينية (اسطنبول اليوم). وظل الأورثوذوكس يشكلون غالبية سكان سوريا إلى أواخر القرن الثالث عشر.

حين جاء الفاطميون المسلمون الشيعة في القرن العاشر بدأت حملات التشييع، وازدادت أعداد الشيعة تدريجياً ونشأت الأقليات التي تأثرت بتعاليمهم كالدروز والعلويين إلى أن شكلوا الغالبية العظمى من المسلمين السوريين. وبعد أن جاء المماليك في منتصف القرن الثالث عشر بدأ المذهب السني من الإسلام بالإنتشار حتى اكتسح كل الديانات وساعد على ذلك القوانين الصارمة التي وضعها المماليك والتي حدّدت كثيراً من حرية غير المسلمين. وأصبح الإسلام السني الطائفة الأكثر انتشاراً في دمشق وسوريا وظل كذلك حتى يومنا هذا.

في منتصف القرن التاسع عشر شكل المسيحيون 20% من سكان دمشق، غالبيتهم من الروم الأورثوذوكس. وكان هناك أقليات من كافة الطوائف الشرقية والغربية، حتى البروتستانت الذين شرعوا في حملاتهم التبشيرية في بداية القرن. وكان هناك أيضاً أقليات عرقية كالسريان الذين كان يدينون بالمسيحية.

وشكل السنّة غالبية مسلمي دمشق مع وجود أقليات من الطوائف الإسلامية الأخرى مثل الدروز، إلى جانب بعض الأقليات العرقية كالكردية التي كانت تدين بالمذهب السني.

كانت لدمشق أهمية كبيرة عند المسلمين وخاصة في عهد العثمانيين لأنها كانت مركز تجمع وانطلاق القوافل الذاهبة إلى الحج والقادمة من بلاد ما بين الرافدين ومن الجزء الشمالي للبلاد ومنها قوافل العاصمة اسطنبول. كان حاكم دمشق هو قائد الحج والحجاج. كما أصبحت قلعة دمشق قاعدة عسكرية هامة مزودة بكل الأسلحة والجنود لتأمين سلامة الحجاج وعادة ما تختار السلطنة خيرة ضباطها ليتولوا القيادة هناك.

الإحتلال العثماني:

وقعت دمشق وبلاد الشام تحت حكم العثمانيين منذ أوائل القرن السادس عشر بعد هزيمة المماليك. واستمرت الإمبراطورية العثمانية في التوسع حتى بلغت أوج عظمتها في القرن السابع عشر حيث سيطرت على معظم العالم العربي وآسيا الصغرى وجزء كبير من أوروبا الشرقية. لكن في نهاية القرن بدأت الهزائم تلاحق السلطنة وبدأت تخسر أجزاء هامة من أراضيها في أوروبا لصالح الإمبراطوريات الأوروبية التي بدأت تزداد قوتها.

نتيجة لهذه الهزائم المتلاحقة، بدأت قبضة السلطنة تضعف على الولايات البعيدة وبدأت تزداد قوة الرجالات المحليين في هذه المناطق. شكل الوهابيون من شبه الجزيرة العربية أول تهديد للسلطنة من الدول العربية، حيثوا اكتسحوا الحجاز وجنوب العراق وهاجموا سوريا في عام 1810 وأصبحوا على مشارف دمشق. لكن تحالف قوات حاكم دمشق العثماني سليمان باشا مع قوات الأمير بشير من جبل لبنان صدوا هجومهم ودحروهم.

وجاء أقوى تهديد لوجود السلطنة في العالم العربي من مصر التي أصبحت في حكم محمد علي باشا (1805 – 1848) من القوة بحيث أنه كان لها كل الفضل في القضاء على عصيان الوهابيين وثورة الإغريق. لكن فيما بعد خرج محمد علي عن طاعة السلطان العثماني واحتلت جيوشه سوريا وجزء من هضبة الأناضول وهددت اسطنبول نفسها. ولولا تدخل الإمبراطوريات الأوروبية وخاصة البريطانية لكانت سقطت السلطنة العثمانية.

علاقة الإمبراطوريات الأوروبية بالأقليات:

منذ بداية سيطرة العثمانيين على بلاد الشام بدأت الإمبراطوريات الأوروبية بالضغط على السلطنة بحجة حماية الأقليات. وكانت هذه الإمبراطوريات قد أنشأت علاقات مميزة مع الأقليات الدينية في سوريا منذ ذلك الوقت.

كانت أهم علاقات الإمبراطورية الفرنسية التاريخية هي مع الموارنة. وفي القرن التاسع عشر وسعت علاقاتها مع الكنيسة الكاثوليكية الشرقية. أما الإمبراطورية البريطانية فشكلت علاقات قوية مع اليهود والدروز والمسيحيين البروتستانت في بلاد الشام.

ورثت الإمبراطورية الروسية عرش الكنسية الأورثوذوكسية بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية. واصبحت عاصمتها موسكو تدعى (روما الثالثة) بعد أن سقطت القسطنطينية (روما الثانية) على يد العثمانيين. وحملت موسكو على عاتقها حماية الأقليات الأورثوذوكسية الموجودة داخل السلطنة.

وفي كل مرة ينتصر الأوروبيون في حروبهم مع العثمانيين تزداد شروطهم كي تعطي السلطنة حقوقاً أكثر لهذه الأقليات ويزداد تدخلهم في شؤونها الداخلية. وأحياناً كانت تنشب الحروب بسبب هذه العلاقة. ومن أشهر هذه الحروب حرب شبه جزيرة القرم (1853 – 1856) بين الروس من جهة والعثمانيين والفرنسيين والبريطانيين من جهة أخرى. وكان سبب هذه الحرب هو الخلاف حول من يتولى إدارة الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين بين الأورثوذوكس (حلفاء موسكو) والكاثوليك (حلفاء باريس).

محمد علي وابراهيم باشا:

كان دخول جيش ابراهيم باشا (ابن محمد علي باشا وقاهر الوهابيين) إلى سوريا عام 1831 إعلاناً غير مباشر لبدء الحروب الطائفية فيها، حيث أثار وقوف المسيحيين إلى جانب القوات المصرية نقمة المسلمين والدروز على السواء. ثم جاءت القوانين المصرية الصارمة، من فرض الضرائب إلى الخدمة العسكرية الإجبارية إلى الأعمال القسرية، لتزيد الطين بلة.

وكان محمد علي أول حاكم مسلم يخرج على قوانين الشريعة ويقيم المساواة بين الأديان وخاصة فيما يتعلق بدفع الضرائب (الجزية). وخلال فترة احتلاله لسوريا (1831 – 1840) أعطى صلاحيات هائلة إلى الأقليات المسيحية واليهودية على حساب المسلمين والدروز.

كل هذا أدى إلى حدوث بعض المناوشات بين الدروز والمسيحيين في مناطق متعددة من جبل لبنان والبقاع وكانت ثورة دروز حوران في عام 1838 أشدها. لكن المصريين وبمساعدة جيش من الموارنة وعلى رأسهم الأمير بشير اسكتوها.

لم تكن الإمبراطوريات الأوروبية سعيدة بازدياد قوة محمد علي فقررت أن تتدخل. ولفترة قصيرة توحد مسلموا ومسيحييوا سوريا (ما عدا قوات بشير) تحت راية العثمانيين على هدف طرد المحتل. وبمساعدة الأوروبيين، نجحوا جميعاً بالتخلص من المصريين الذين خرجوا من سوريا في عام 1840.

صعود محمد علي في مصر وظهور الحركة الوهابيية في شبه الجزيرة شكل نقطة تحول في الساحة السورية حيث بدأ الإنقسام يتجلى بصورة واضحة. إزدادت قوة التيار الوهابي في أوساط دمشق، وفي عام 1860 أصبح قوة فاعلة على الساحة سيظهر تاثيرها جلياً.

“التنظيمات” و”الإصلاحات”:

حكمت السلطنة العرب منذ البداية باسم الإسلام وأعطتهم الكثير من الصلاحيات طالما اعترفوا بقانون الشريعة الإسلامية وأعلنوا ولاءهم للسطان واحترموا قوانين السلطنة. وعاشت الأقليات الدينية في البداية بسلام محتفظة بحقها بممارسة دينها بشرط أن تدفع الجزية السنوية وهو ما نصت عليه الشريعة. لكن هذا لم يمنع المسؤولين الفاسدين من معاملة غير المسلمين كمواطنين من درجة ثانية ولم يمنع الإساءة إليهم في ظل العادات والتقاليد المتخلفة.

لكن في المراحل الأخيرة من عمر السلطنة بدأت الأمور والمفاهيم تتغير. فمن جهة، كان صعود الإمبراطوريات الأوروبية وتطورها العلمي والتقني وتقدمها في فنون الحرب وإلحاق الهزائم المتكررة بالسلطنة يثير رعب واهتمام الباب العالي على حد سواء. ومن جهة أخرى، بات نهوض حركات التحرر القومية في أراضيها وخاصة في البلقان يهدد وجودها بشكل عام وينذر بقلاقل في المناطق الأخرى أيضاً.

لقد شعرت السلطنة أن عليها أن تواكب العصر لترضي جميع القوميات التي تحت سيطرتها، وفي نفس الوقت عليها أن تلبي مطالب هذه الإمبراطوريات في إحداث تغيير جذري لسياساتها الداخلية وخاصة على صعيد مبادئ حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية وانتشرت في أورروبا كحقوق العدالة والمساواة بين المواطنين.

في 1839، أصدر السلطان محمود الثاني حزمة من القوانين الجديدة وسميت (التنظيمات). وتحت هذه القوانين حاول أن يساوي بين مواطني السلطنة بالحقوق والواجبات بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو قوميتهم. وأصبح بإمكان غير المسلم أن يشارك في الحياة الثقافية والإقتصادية، وسمح له بالدخول إلى المدارس وتعلم اللغة العربية (التي كانت حصراً على المسلمين) واللغات الأجنبية.

تضاربت ردود الفعل على هذه القرارات. ففي حين رأى فيها المسلمون خروج على العادات والتقاليد وإذعان لرغبة الأوروبيين، لم يرضَ بها الأوروبيون وخاصة القسم المتعلق بالمساواة بين الأديان. فهي في فحواها لم تخرج عن قانون الشريعة.

لذلك وبعد حرب القرم، ولإرضاء حلفائه الفرنسيين والبريطانيين الذين ساعدوه على الروس، وضع السلطان عبد المجيد الأول تعديلات جديدة في عام 1856 وسميت (إصلاحات) أقامت المساواة الكاملة بين كافة مواطني السلطنة. فبالإضافة إلى ما سبق ذكره أصبح يحق لغير المسلم أن يتوظف في دوائر الدولة ويخدم في الجيش.

أما من ناحية القوانين المتعلقة بالدين فقد كانت أشبه بالثورة العلمانية، فقد رُفِعت الجزية الخاصة بغير المسلمين وأصبح من حق أي إنسان أن يتبع أي دين. لا يحق لأحد أن يُجبر غير مسلم على أن يصبح مسلماً وألغيت عقوبة القتل لمن يرتد عن الإسلام. وشملت الإصلاحات قطاع العدل والمحاكم الجنائية، فمنع التعذيب والعقوبات الجسدية، كقطع اليد.

رفض الإسلاميون المحافظون من مواطني دمشق كل هذه القوانين واعتبروها أنها معادية للشريعة الإسلامية وتخالف كلام الله وخاصة القسم المتعلق بمساواة غير المسلمين بالمسلمين. وبدأ التململ والإستياء يسود أوساطهم خاصة من أوروبا المسيحية التي لم تتوقف عن الضغط على السلطان ومن مسيحيي البلقان الذين يحاربون من أجل استقلالهم ويوقعون خسائراً فادحة في جيش السلطنة.

الحالة الإقتصادية:

على أثر إصدارالتنظيمات، نشأت علاقات تجارية متميزة بين الأوروبيين من جهة ومسيحيي ويهود سوريا من جهة أخرى. وبرزت بيروت كميناء هام يؤمن للأوروبيين التواصل مع الداخل السوري وخاصة دمشق. واعتمدت الدول الأوروبية على المسيحيين واليهود من سكان دمشق لمساعدتها كمترجمين ووكلاء تجاريين. فأصبحوا هؤلاء من الأغنياء واكتسب العديد منهم حصانة دبلوماسية بحصولهم على جنسيات أوروبية.

أدى ذلك إلى ازدياد غنى التجار المسيحيين واليهود على حساب التجار المسلمين وخاصة صغار الكسبة. كما تأثرت صناعات النسيج والحرير المحلية مع إزدياد الواردات الأوروبية والمنافسة على السوق المحلية. وانخفض الإنتاج المحلي منها إلى الربع تقريباً وأغلق العديد من الورشات.

وفوق كل هذا جاء الكساد الإقتصادي الذي أصاب أوروبا في عامي 1857 – 1858 ليزيد الطين بلة، فكثرت جرائم السرقة ولم تسلم حتى قوافل الحج القادمة من بغداد. ولجأ الكثير من التجار الدمشقيين المسلمين إلى الإقتراض من التجار ورجال الأعمال المسيحيين واليهود في دمشق وبيروت. حتى أن المسيحيين واليهود أصبحوا دائنين للحاكمين العثمانيين.

وفي عام 1858 وضعت السلطنة قانوناً يسمح للأوروبيين وأعوانهم في سوريا بشراء الأراضي من نبلاء دمشق المسلمين ليخفف عنهم عبء الديون. كل هذه التغيرات الإقتصادية لعبت دوراً في زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء وكان اللوم كله ينصب على الأوروبيين وحلفائهم في المدينة من الأقليات الدينية.

مسيحيو دمشق بعد “التنظيمات”:

منذ مجيء الإسلام إلى بلاد الشام استطاع المسيحيون أن يتأقلموا مع القوانين الجديدة التي فُرِضت عليهم. ولما كانوا يشكلون الأغلبية من سكان سوريا في ذلك الوقت، لم يشكل دفع الجزية عبئاً ثقيلاً. وظل معظمهم على دينه إلى أن جاء المماليك في القرن الثالث عشر. فيما بعد، بدأ عددهم ينقص تدريجياً حتى باتوا من الأقليات. وكلما نقص عددهم كلما أصبح دفع الجزية أصعب، خاصة على الفقراء منهم. لذلك لا غرابة أن يستقبلوا خبر صدور التنظيمات (1838) وبعدها الإصلاحات (1856) بالفرحة العارمة. وأحياناً كانت ردة فعلهم مبالغ بها، فقد رأوا في هذه القوانين تحرراً من القيود التي كبّلتهم لقرون عديدة.

وبدأ المسيحيون بممارسة حقوقهم التي أعطتهم إياها هذه القوانين وخاصة في ما يتعلق بالمساواة مع المسلمين. دخلوا المدارس التي كانت ممنوعة عنهم والتحقوا بوظائف الدولة. وفوق ذلك أصبحوا يجارون المسلمين في عاداتهم التي كانت حكراً عليهم مثل ارتداء أنواع الملابس والألوان التي كانت حصراً على المسلمين من قبل. وإذا ما نشب شجار بين مسيحي ومسلم، لم يتردد المسيحي برد الصاع صاعين من الشتائم بعد أن كان يسكت على مضض.

وصلت سذاجة وجهل بعض المسيحيين ونشوتهم بحقوقهم الجديدة إلى درجة تحدي السلطات المحلية والتذرع بالقوانين الجديدة. فلم يحترموا حتى ذوي المكانات الرفيعة. ولم يدركوا أن هذا التغيير المفاجئ في مجتمع محافظ يحمل أخطار وخيمة وأن قلب العادات والتقاليد الإجتماعية بهذه السرعة سيغذي العداء الطائفي ويجر عليهم الويلات. لقد كانت هذه الممارسات تثير حنق المسلمين.

بعد إصدار الإصلاحات، أصدرت السلطنة قراراً يخص شباب الأقليات الدينية الذين لم تكن ترغب بهم في الخدمة العسكرية يُلزمهم بدفع ضريبة خاصة كبدل. رفض المسيحيون دفع هذا البدل، بعضهم بحجة الفقر خاصة أنهم يدفعون ضريبة سنوية للدولة، والبعض الآخر بحجة المساواة مع المسلمين حيثوا طلبوا عوضاً عن الدفع الذهاب للخدمة. كانت الدولة تحاول بشتى الوسائل أن تمنع المسيحيين من الخدمة العسكرية بحجة أنهم ضعفاء وجبناء.

وظل المسحيون يرفضون دفع بدل الجندية لسنوات رغم محاولات وجهاء المسيحيين الوصول إلى حل وسط بين الناس والحاكمين. حتى جاء عام 1860 عندما أصدر أحمد باشا حاكم دمشق العثماني قراراً بأنه على كل مسيحي دفع البدل عن السنة الحالية والسنوات السابقة. وكان هذا عبئاً كبيراً خاصة على الفقراء منهم وأشبه بالقرار التعجيزي.

لقد كان توقيت هذا القرار في أوج الحرب الطائفية في الجبل مثير للشبهة. فارتفعت أصوات الإحتجاج ضد الحاكم الذي انقلب على المسيحيين بكافة شرائحهم. فدعا عدد من وجهائهم إلى مكتبه وطالبهم بجمع الأموال من المخالفين وإلا سيسجن هؤلاء الوجهاء. ومارس نفس الضغط على رؤساء الكنائس.

كان رد شيوخ المسلمين وعلماء الأمة على هذه الإحتجاجات أن أصدروا الفتاوى إعتماداً على الشريعة دون أي إعتبار لقوانين التنظيمات والإصلاحات الصادرة عن الباب العالي. فأصدر إمام المسجد الأموي ومفتي دمشق فتاوى تؤكد أنه لا يوجد مساواة بين المسلمين والمسيحيين في الشريعة. وخرجت بعض الفتاوى تبرر للمسلمين قتل المسيحيين إذا لم يدفعوا الجزية لأنهم خارجون عن قانون الشريعة.

كانت هذه الفتاوى هي آخر ما يحتاجه الجهلة والمتعصبون من مسلمي دمشق لإعلان حربهم على مسيحييها، بل وحتى على كل مسيحيي سوريا. وبات من الحلال قتل رجالهم وسبي نسائهم والسطو على أملاكهم. أصبحت الجموع في حالة تأهب دائم للحظة إطلاق النفير العام الذي سيعلن بدء الهجوم الأخير على الحي المسيحي والقضاء على وجودهم في دمشق وإلى الأبد.

الصراعات الطائفية في سوريا:

بدأت تظهر الصراعات الطائفية في سوريا على عهد ابراهيم باشا على شكل حوادث صغيرة متفرقة في مناطق تواجد المسيحيين. ففي عام 1840، قُتِل قسيساً كاثوليكياً في دمشق واتهمت السلطات العثمانية اليهود بقتله في أحد طقوسهم الدينية. واعتقلت 13 يهودياً حيث مات منهم 4 تحت التعذيب قبل أن تفرج عن البقية تحت ضغط البريطانيين.

وفي عام 1950 ولأول مرة في تاريخ مدينة حلب، هجمت جموع من أغلبية المدينة المسلمة على مسيحييها الأغنياء وقتلت منهم العشرات وجرحت المئات. كان ذلك نتيجة لنقمة التجار المسلمين الذين عانت أشغالهم بسبب تفضيل الأوروبيين للمسيحيين في تعاملاتهم التجارية.

لكن أشد الخلافات كانت في جبل لبنان، حيث كانت الأمور تغلي على نار هادئة بين الدروز المعارضين والموارنة الداعمين لإبراهيم باشا، إلى أن ظهرت إلى العلن بعد خروجه من سوريا. فكان عام 1841 بداية النزاعات الطائفية بين الجانبين التي استمرت بشكل متقطع إلى أن تأججت بحرب شعواء في عام 1860.

بدأت حرب الجبل في 1860 على شكل ثورة شعبية قام بها الفلاحون الموارنة ضد إقطاعييهم الدروز. لكنها تحولت تدريجياً إلى حرب طائفية بين الموارنة والدروز. لم ترق هذه الثورة للعثمانيين. رأوا فيها تحد لسلطتهم في الجبل ومحاولة من الموارنة بدعم من رجال الكنسية لإعادة حكم الشهابيين (الأمير بشير) الذي انتهى بعد خروج المصريين بقليل.

وفي فترة ثلاثة أسابيع، بين 28 أيار و18 حزيران، قامت القوات الدرزية، وبتشجيع من العثمانيين، بحملة إبادة كاملة ضد مسيحيي الجبل والبقاع. فارتكبت المجازر في حوالي 200 – 380 قرية، من أشهرها مجازر دير القمر وجزين وراشيا وحاصبيا وزحلة. وقتل على أثرها ما بين 10,000 – 20,000 مسيحي (تختلف المصادر في عدد المدن والقتلى). وسرقت ونهبت البيوت والكنائس، ودُمِّرت كل كنسية حتى بلغ عددها حوالي 560 كنيسة وقتل كل الرهبان الذين لم يستطيعوا النجاة.

خلال كل هذا، لعب العثمانيون دور المتفرج، إذ لم يحركوا ساكناً لمحاولة وأد الفتنة. وحين لجأ الفارون من الموت إلى محمياتهم طلباً للحماية، لم يكتفوا بأخذ السلاح منهم بحجة أنه لا داعي له وأنهم سيحمونهم، بل لم يقاوموا الدروز حين هجموا عليهم، وتركوهم يعيثوا قتلاُ بالموارنة المحصورين بلا مفر. أما الذين نجوا فكانوا قد احتموا عند الدروز البسطاء بعيداً عن عيون الجنود. وكان المهاجمون يقتحمون بيوت الأمراء حيث لجأ المسيحيين ويقتلون الأمراء الذين حموهم ويسرقون وينهبون بيوتهم ثم يحرقونها. كما مدت القوات العثمانية العون للدروز في حربهم الحاسمة على زحلة التي كان سقوطها عبارة عن النقطة الفاصلة في هذا الصراع الدموي.

بعد سقوط زحلة، انتشرت الحروب في كل أنحاء سوريا وانضم المسلمون السنة والشيعة إلى الدروز في حربهم ضد المسيحيين بكافة أطيافهم وأين وجدوا. فاقتحم مسلمو بعلبك بشقيهم السني والشيعي بيوت المسيحيين في القرى المجاورة وعاثوا قتلأً ونهباً وحرقاً للممتلكات. ووصلت الفتنة إلى مشارف صيدا وجبل عامل واعتنقت الإسلام قرى بكاملها في الجليل الأعلى و محيط صيدا وصور خوفاً من الإبادة وكذلك فعل العديد من المسيحيين في قرى الريف الدمشقي خاصة وأرياف سوريا عامة.

تابع مسلمي دمشق أخبار سقوط القرى المسيحية في جبل لبنان، الواحدة تلو الأخرى، بسعادة غامرة ولم يشعروا بالأسف على الأرواح المزهوقة. كان اعتقادهم أن مسيحيي الجبل كانوا متعالين على الدروز وأنهم هم من بدأوا بالتعدي حين استغلوا وجود المصريين لمد سلطاتهم على حساب الدروز والإستيلاء على أراضيهم.

أخبار سقوط زحلة:

وجاء سقوط زحلة في 18 حزيران 1860 ليحدث ضجة هائلة في دمشق. كانت تعتبر زحلة المعقل الأخير للمسيحيين في سوريا. كان سقوطها هو نهاية أي أمل في النجاة من الموت. وكتبت الشعارات على جدران الكنائس تدعو إلى قتل المسيحيين. وعم الخوف كل تجمعاتهم. وبقدر حزنهم وقلقهم، كانت فرحة المسلمين والدروز في كل أنحاء سوريا حيث عمت الإحتفالات.

بعد سقوط زحلة تابع الدروز مع من انضم إليهم من المسلمين بغزوهم لقرى الجنوب وريف دمشق. فهرب الكثيرين من هؤلاء المسيحيين إلى دمشق وبدأ الحي المسيحي داخل سور دمشق يغص بهم وقدرت أعدادهم بين 3,000 – 7,000. وامتلأت البيوت والأديرة والكنائس بهم. ولأنه لم يكن هناك أمكنة كافية لاستيعابهم أضطر معظمهم مع نسائهم وأولادهم أن يفترشوا الطرقات ويتلحفوا السماء.

وما زاد الطين بلة أن القرويين الذين كانوا في دمشق لم يعد بإمكانهم العودة إلى ضيعهم في تلك المناطق لغياب الأمن في الطرقات، مما أدى إلى ازدحام المدينة بالناس. وشكلت عبئاً على سكانها الذين لم يُقَصّروا في مساعدة اللاجئين. حتى نبلاء دمشق من الأغنياء المسلمين مدوا يد العون بالمسكن وبالطعام.

وتحول الكثير من اللاجئين إلى شحاذين في الطرقات، وأصبحوا هدفاً سهلاً للإعتداءات والإهانات وسوء المعاملة من قبل المتعصبين الجهلة من المسلمين والدروز والأكراد. لم يحمل هؤلاء أي شفقة لهؤلاء المساكين. ولم يسلم حتى مسيحيي المدينة الأصليين من هذه الإعتداءات.

استشعر الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان مقيماً في دمشق وكان أحد وجهائها، الخطر المحدق وأخذ في إجراء المشاورات مع قادة المدينة ومجالسها وعلمائها لمنع الكارثة، لكنه مع ذلك أخذ بالتحضير للأسوأ. فقام بتجهيز 1000 من المقاتلين المتطوعين الأشداء معظمهم من رجاله الجزائريين لحماية الحي المسيحي في حال فلتان الأمن. وشجعه على ذلك القنصل الفرنسي، الذي كان أيضاً يستشعر الخطر، ومَوَّله بكل ما يلزم لتجهيز الفرقة.

ضغط قناصلة الدول الأوروبية على حاكم دمشق ليزيد الإجراءات الأمنية في المدينة لكن بلا فائدة. فبدلاُ من أن يحاول إسكات المتمردين وضع عدد من المدافع عند مداخل الجوامع وفي القلعة ليوهم المسلمين بأن الخطر المسيحي قادم. ثم وضع عدد من الحراس في الحي المسيحي بدعوة حماية الحي ليكتشف الناس فيما بعد أن معظم هؤلاء الجنود كانوا قد شاركوا في مذابح الجبل.

وفي أخر أيام حزيران قبيل عيد الأضحى، لما رأى المسيحيون كيف كان حكام دمشق ومسلميها المتعصبين يحتفلون بالنصر بإضاءة المشاعل وإشعال الحرائق وتزيين البيوت والمحلات في السوق وفي الأحياء المسلمة، أخذوا يرتعشون رعباً لشعورهم بأن المسلمين يكنون أشد العداء لهم وأن السلطات لن تحميهم. خاصة بعد أن وصلت أخبار تآمر الجنود العثمانيين مع المهاجمين في مناطق الجبل والبقاع، فاعتكفوا في بيوتهم خوفاً على أرواحهم.

وخلال أيام تخلى مسيحيو دمشق عن حرياتهم وحقوقهم وعن كل المكتسبات التي حصلوا عليها منذ “التنظلمات”. لم يعودوا يردوا على الإهانات وسكتوا عن التعديات عليهم في الأزقة وتوقفوا عن الذهاب إلى القهاوي أو زيارة الحدائق والمتنزهات. وتوقفوا عن المطالبة بديونهم من المتدينين المسلمين وأهملوا أعمالهم. وامتنع موظفي الدولة عن الذهاب إلى العمل فتوقفت وظائف الدولة لأنهم كانوا يشكلون نسبة جيدة من الموظفين.

الهدوء الذي سبق العاصفة:

دام اعتكاف المسيحيين في بيوتهم كل أيام العيد وفي اعتقادهم أن المسلمين سيهجمون عليهم في أي لحظة وقبل أن ينتهي العيد. وفي الوقت نفسه، أخذ العديد من مواطني الدول الأجنبية بمغادرة المدينة ومن بينهم عدد من المبشرين. وغادر معهم وبحمايتهم بعض من أصدقائهم وبعض المتنفذين.

أما العامة منهم فلم يكن باستطاعتهم الهروب لأن الموت كان بانتظارهم في كل أنحاء االمعمورة وجميع طرقاتها. وأخذ سكان الحي بتأمين أماكن للإختباء في حال بدأت الغزوة. ولجأ بعضهم إلى بيوت أصدقاءهم ومعارفهم من المسلمين الأتقياء.

لكن العيد مر بسلام ولم يحدث شيئاً. وخيم الهدوء على المدينة في الايام الأولى من شهر تموز. وتنفس المسيحيون الصعداء وبدؤوا الخروج من بيوتهم. وأمرت الحكومة الموظفين بالذهاب إلى أعمالهم. لم يستشعر المسيحيون المكيدة التي كانت تحاك ضدهم.

بدأت حجافل الدروز المقاتلين تصل من كافة الجهات لتتجمع حول دمشق وبعضهم دخل إلى وسط المدينة. أثار وجودهم المخاوف من جديد لكن مسؤولي الدولة والعلماء والنبلاء أكدوا للأمير عبد القادر ولوجهاء المسيحيين بأن شيئاً لن يحصل.

وفي صباح يوم الإثنين 9 تموز ذهب الموظفون إلى أعمالهم بينما ذهب آخرون إلى السوق للعمل أو لقضاء حاجياتهم بشكل طبيعي. كما ذهب الطلاب إلى المدارس.

إشعال الفتنة:

تضاربت المعلومات حول ما حصل في يوم 9 تموز والليلة السابقة والذي كان السبب في اشتعال الأزمة لكن معظم الروايات تكاد تجزم على ضلوع أياد شريرة في افتعاله.

استيقظ المسيحيون في صباح ذلك اليوم ليجدوا أبواب منازلهم وجدرانها وأرضية الأزقة مليئة بإشارات الصليب وكان قد رسمها بعض المشاغبين خلال الليل. فسّرها البعض على أنها محاولة لإثارة حماس المسلمين بأن الصليبيين قادمون.

لكن تبين فيما بعد أنها من صنع مجموعة من الأولاد الزعران بغرض التعريض بالمسيحيين ودفعهم للسير فوق صلبانهم. فما كان من حاكم دمشق إلا أن أحضر هؤلاء الأولاد وقرر أن يلقن المسلمين درساً. أو هكذا أراد للناس أن يعتقدوا. لكن في الحقيقة كان يحاول إثارتهم ضد المسيحيين.

فكبّل هؤلاء الأولاد بالسلاسل وأعطاهم مكنسات الزبالين وساقهم في موكب عبر طرقات دمشق إلى الحي المسيحي بغرض تنظيفه مما فعلوه في الليلة السابقة. لم يرق هذا العقاب للحشود المسلمة التي تجمعت حولهم. وكان مجرد رؤيتهم للأولاد وهم مهانين، ولمثل هكذا جرم، قد أشعل فكرة أن المسيحيين قد تجاوزوا حدودهم وأنه قد حان وقت تأديبهم.

وعندما وصل الموكب إلى سوق باب البريد المجاور للجامع الأموي ثار غضب الجموع وهجموا على الحراس القلائل وقاموا بفك قيود المساجين. خرج المصلون من الجامع على الضوضاء ولما علموا بما حصل بدؤوا بالهتافات الموجهة ضد المسيحيين. وعلى التو هجمت الحشود على الحي المسيحي ومعهم تجار السوق الذين أغلقوا محلاتهم.

وبسرعة البر ق انتشرت أخبار التمرد في أحياء المدينة وحتى الواقعة منها خارج السور. فهرع المتعصبون المسلمون من الشاغور والميدان، والأكراد من الصالحية، والدروز من جرمانا وكثيرون آخرون جاؤوا من أماكن بعيدة وهجموا بغزارة على الحي المسيحي. وقدر عدد الغزاة بين 20,000 – 50,000.

وخلال ساعات قليلة، غص الحي المسيحي بالمعتدين مما أعطى الدليل بأن الفتنة لم تكن عفوية وأن الجميع كانوا جاهزين. لم يكن العداء للمسيحيين هو الدافع الوحيد، بل كان هناك من يسعى لغنيمة فقط، حيث كان الجميع يعرف بغنى هذا الحي وفخامة محتوياته وخاصة كنائسه وأديرته. لذلك انضم الكثير من قطاع الطرق والبدو، وحتى النساء والأولاد شاركوا في الهجوم.

اليوم الأول من المذبحة:

استخدم المهاجمون كل أنواع الأسلحة كالعصي والسيوف والفؤوس والخناجر والسكاكين وبعضهم كان يحمل البواريد. بينما كان المسيحيون عزل إلا من أسلحة المطبخ والقليل منهم كان يحمل فروداً. لم يحترم المهاجمون حرمة أي منزل أو كنيسة أو دير. كانت لديهم أوامر بقتل كل شاب ورجل وكاهن يرونه أينما كان وعدم قتل النساء والأطفال.

سرقوا ونهبوا كل ما وقعت أيديهم عليه من مال وممتلكات. وبعد إفراغ البيوت و الكنائس من محتوياتها بالكامل أشعلوا النيران بها. وأحضر المهاجمون الجمال والحمير والبغال والأحصنة ليحملوا كل ما اغتنموه من البيوت والكنائس ليتقاسمونه فيما بينهم لاحقاً.

لم يرحموا أحداً حتى الشيوخ، ولم يستثنوا حتى الذين لجؤوا إلى دمشق هاربين من الموت في ضيعهم. وأحياناً كانوا يقتلون الأولاد ممن هم فوق العاشرة. أما من هم تحت العاشرة فكانوا يتركونهم على قيد الحياة بعد أن يختنونهم عنوة، حتى أنه مات عدد منهم لاحقاً من شدة النزيف. وكانوا يأخذون النساء الفتيات وخاصة البكارى ويغتصبوهن.

كانوا أحياناً يعطون المسيحيين فرصة للأسلمة وإعلان الشهادة وإذا رفضوا يقتلونهم. لكن إذا شكوا أنهم غير صادقين في أسلمتهم كانوا يقتلونهم أيضاً. قطعوا الرؤوس والأطراف ومثلوا بالجثث وأحرقوها. كما خطفوا عدد منهم لإستخدامهم كعبيد عند الدروز والبدو.

وما هي إلا ساعات حتى بدأ جنود الحرس الموكل بحماية الحي المسحي بالإنضمام إلى المهاجمين وبعد فترة انضم إليهم جنود من فرق أخرى. وغاب كل الضباط عن المشهد ولم يبقى أحد ليرد المهاجمين عن هؤلاء المساكين. والأسوأ من هذا كله هو أن جميع السياسيين وعلماء الأمة وأعضاء االمجالس الحاكمين إختفوا من الساحة ولم يحاول أحدهم إيقاف التمرد.

من الأماكن التي نُهبت كانت الكنسية المريمية الأورثوذوكسية ومكاتب بطريركيتها والبطريركية الكاثوليكية والكنيسة الأرمنية والمؤسسات الخيرية المسيحية. كما أُحرق مشفى خاص بمرضى الجزام، كانت تموله الكنيسة، مع مرضاه جميعاً. ودخل المهاجمون دير الأرض المقدسة الإسباني وقتلوا رهبانه الثمانية وكلهم من الجنسية الإسبانية. أما الدير الفرنسي فاستطاع عبد القادر وقواته أن ينقذوا رهبانه لكنهم لم يستطيعوا منع حرقه كاملاً. كما نُهبت وأُحرقت كل البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية.

ولم تسلم القنصليات الأوروبية منهم. فكانت القنصلية الروسية، ألد أعدائهم وخاصة بعد حرب القرم، أول قنصلية هوجمت ونهبت وأحرقت وقتل مترجمها بينما احتمى القنصل في بيت عبد القادر. وجاء بعدها دور العدو اللدود الثاني وهي القنصلية الفرنسية التي احتمى موظفيها في بيت عبد القادر لكن القنصلية لم تسلم. وهوجمت القنصليات الهولندية والبلجيكية والنمساوية والأمريكية واليونانية. ونجا كل القناصل ما عدا القنصل الأمريكي والهولندي. ولم يسلم من القنصليات إلا القنصلية البريطانية، حليف السلطنة الأول، إلى جانب القنصلية البروسية (الألمانية).

ونجى من الموت غالبية موظفي الدولة وعمال البناء والحجارين وأصحاب ومستخدمي المحالات الذين كانوا في الأحياء المسلمة. فرغم محاولات المهاجمين النيل منهم لكنهم احتموا إما في قلعة دمشق، المحمية من قبل جنود هاشم آغا (الذي يقال أنه كان معارضاً لما يحصل، على عكس قادة محميات راشيا وحاصبيا)، أو في القنصليات البريطانية والبروسية. وبعضهم لجأ إلى بيوت اصدقائهم أو شركائهم من المسلمين أو بيت الأميرعبد القادر.

الأمير عبد القادر وشرفاء دمشق:

حاول الأمير عبد القادر التفاوض مع سلطات المدينة وشيوخها وعلمائها محاولاً إقناعهم أن ما يفعلونه هو ضد الإسلام لكنهم لم يستمعوا إليه ومنعوه من أن يقاتل المتمردين. فاقتصرت مهمته ومهمة شرفاء دمشق من المسلمين على المساعدة في مد يد العون للمسيحيين وإنقاذ ما أمكن منهم. فشرع رجالات عبد القادر وغيره من النبلاء بالطواف في طرقات الحي المسيحي من المدينة والبحث عن اي شخص، رجل أو امرأة أو طفل، وجلبه وإدخاله إلى بيت احد المسلمين الأتقياء، فغصت بيوتهم بأبناء مدينتهم الهاربين من جحيم الموت.

أما ما حدث في حي الميدان الواقع خارج السور فكان أقوى وقفة في وجه هؤلاء المتمردين. لقد اجتمع وجهاء الحي وقرروا أن يدافعوا عن المسيحيين الذين يسكنون الحي. لم يستطع اي متمرد من الإقتراب منهم خلال أيام المذبحة كلها. وسَلِم جميع المسيحيين الساكنين هناك. وأكثر من ذلك قام رجال الحي الشرفاء بالذهاب إلى الحي المسيحي داخل السور وإحضار ما أمكن منهم وحمايتهم في بيوت الحي. ونجحوا في إنقاذ المئات منهم.

عدد كبير من مسيحيي الباب الشرقي للمدينة، مع مطران كنيسة السريان الكاثوليك، هربوا إلى ضيعة صيدنايا ولجأوا إلى ديرها حيث كان يتحصن فيه جميع مسيحيي صيدنايا والضيع المجاورة. وكان هذا الدير قد بني على شكل قلعة حصينة. أما خارج اسوار الدير فقد نشب قتال حام بين الشباب المسيحيين من جهة وبين مسلمي الضيع المجاورة المدعومين بفرقة من الخيالة ارسلتها الحكومة لمساعدتهم من جهة أخرى. لم يفلح الغزاة في هجومهم وتراجعوا بعد فشل عدة محاولات لإقتحام الدير.

اليومان الثاني والثالث:

هدأت الأمور بعض الشيء في اليوم الثاني لكن النهب والسرقة لم يتوقفا. فتعرضت كل محلات المسيحيين في الأسواق إلى النهب. بينما لم يبقى شيء في الحي المسيحي. إلا بعض الرجال المختبئين في مخابئهم يخافون الخروج، حيث اختبأ البعض في غرف سرية والبعض الآخر في الآبار أو المجاري الصحية. ونجح بعض الشرفاء ورجال عبد القادر من الوصول إليهم ونقلهم إلى أحد البيوت في الأحياء المسلمة.

لكن في اليوم الثالث شاع خبر بأن مسيحيين مختبئين في بيت رجل مسلم أطلقوا النار على رجال مسلمين يحاولون إطفاء حريق قريب من بيت مسلم آخر. تبين فيما بعد أنه سوء فهم وأن المسيحيين ظنوا أن الرجال جاؤوا ليقتلوهم. لم يمت أحد من الرجال المسلمين بينما قُتِل هؤلاء المسيحيون كلهم في الإشتباك. رغم ذلك هبت الجموع المسلمة والكردية من أهل حي الصالحية وبينهم ضباط وعساكر وبتحريض من السلطات وهجموا على بيوت المسلمين الذين حموا المسيحيين.

هددوا المالكين بأن يسلّموا من في داخل البيت وإلا سيدخلون بالقوة وإذا رأوا شخصاً مسيحياً سيحرقون البيت. على اثر هذا التهديد، اضطر عدد من المسلمين البسطاء إلى تسليم ضيوفهم فقتل المئات منهم، بينما لم يستطع المهاجمون التأثير على النبلاء الذين رفضوا تسليمهم ومن بينهم الأمير عبد القادر الذي هددهم بالقتال إن تجرؤوا وتعدوا على المسيحيين في بيته.

الأيام التالية:

انخفضت وتيرة القتل والسرقة والنهب في الأيام التالية. وبعد أسبوع لم يعد هناك ما يسرق أو ينهب، بينما استمرت الحرائق لأسبوعين.

قتل في المذبحة ما بين 5,000 – 11,000 وبعضهم قضوا بسبب الحرائق واغتصبت أكثر من 400 امرأة و ونهبت كل البيوت والمحلات والكنائس والأديرة والمدارس والبعثات التبشيرية واحرقت جميعها. وتحول حوالي 1,500 – 3,000 بيت و200 محل إلى ركام. وسَلِم حوالي 200 – 300 بيت من الحريق لأنها كانت قربية من بيوت المسلمين، لكنها لم تسلم من النهب. ودُمِرت 11 كنيسة و3 أديرة. وقتل حوالي 30 كاهناً و10 مبشرين.

أما من بقي منهم على قيد الحياة فقد جُمِعوا في القلعة، حيث نصبت لهم بعض الخيام وبقي معظمهم في العراء لكثافة العدد. كانوا معظمهم من النساء والأطفال وكانوا في أشد حالات البؤس والجوع. ولم يتوقف خوفهم، خاصة وأنهم لم ينسوا ما فعله الجنود العثمانيون في الجبل عندما ادعوا حماية الهاربين قبل أن يقدموهم لقمة سائغة للمهاجمين. وكذلك لم يغادر الدروز المنطقة بعد، فهم ما زالوا يتربصون خارج أسوار المدينة.

لم يعد المسيحيون يشعرون بالأمان في دمشق رغم تطمينات القناصلة الأوروبيين وشرفاء المدينة. وبعد اسبوع بدأ نقل معظمهم إلى بيروت على دفعات وتحت حماية مشددة من رجال عبد القادر، ومن هناك هاجر العديد إلى فرنسا وأوروبا. وكانت بيروت من المدن التي لم يتعرض مسحيوها للإبادة بسبب وجود سفن الإمبراطوريات الأوروبية على شواطئها والتي حمتهم من هجمات دروز الجبل. ولم يبقَ في دمشق إلا بضعة آلاف فقط، بعد أن كان عددهم يفوق ال 30,000.

محاكمات فؤاد باشا:

عندما وصلت أخبار المجازر إلى الباب العالي ثار غضب السلطان. ربما كانت هناك تعليمات بإخماد الفتنة في الجبل باي ثمن، لكن ما حصل لم يخطر ببال أشد رجال السلطنة عداء للمسيحيين، وخاصة ما حصل في دمشق. فعلى عكس مسيحيي الجبل الذين بدؤوا الحرب هناك، لم يقم مسيحيو دمشق بأي عمل عسكري ولم يرتكبوا أي جريمة بحق السلطات العثمانية إلا تمنّعهم عن دفع بدل الخدمة العسكرية.

وسارع السلطان لاستدراك الأمور، إذ لم يشأ أن يدخل حرباً جديدة مع الأوروبيين. خاصة وأن باريس قد أرسلت قطعاً بحرية إلى شواطئ سوريا لتقصي الحقائق والتدخل إذا ما دعت الحاجة. فأرسل السلطان أحد أقوى قادة جيشه واسمه فؤاد باشا مع صلاحيات غير محدودة لإعادة الإستقرار وإحقاق العدل.

وفور وصول فؤاد باشا إلى دمشق قام باعتقال 800 شخص وأقام محاكماً استثنائية بحقهم بوجود قضاة عثمانيين أحضرهم معه من اسطنبول. حكم على 57 من المعتدين وبينهم بعض موظفي الدولة بالشنق وعرض جثثهم لأيام في أسواق دمشق. كما حكم على 110 من الجنود رمياً بالرصاص في الساحات العامة. وحكم على 168 بالسجن مع الأشغال الشاقة وحكم بالنفي على 145. وحكم على 83 بالموت غيابياً.

وتتابعت الإعتقالات والمحاكمات في الأسابيع والأشهر التالية. فحكم على 270 آخرين بالأشغال الشاقة و190 بالموت و146 بالنفي مدى الحياة. كما حكم على المدينة بأن تقدم 2,000 من شبابها للخدمة العسكرية في أماكن بعيدة من السلطنة.

عدا عن الجنود، كان أغلب المحكومين من الطبقة الفقيرة والعاطلين عن العمل وصغار الكسبة والتجار. وجاؤوا من كل أحياء دمشق الشعبية الفقيرة داخل وخارج السور وجاء بعضهم من الريف الدمشقي. وكان هناك عدد قليل ممن جاؤوا من القرى الدرزية في الجبل والبقاع كحاصبيا وراشيا.

كما كان بينهم بعض ميسوري الحال ومن هم محسوبين على الأغنياء، إلا أنهم كانو مديونين لبعض المسيحيين، مما أعطى الإنطباع لوجود اسباب شخصية لديهم للقتل.

بعد أن انتهى من التحقيقات مع الطبقة الفقيرة والوسطى، اعتقل فؤاد باشا 230 من الوجهاء والشيوخ وجميع أعضاء المجلس الحاكم وأهمهم إمام المسجد ومفتي دمشق الذين اعتُبِرا المحرضين الأساسيين للمذبحة بفتاويهما. وحكم على 13 من أهم وجهاء دمشق ومن ضمنهم الإمام والمفتي بالنفي إلى قبرص مع الأشغال الشاقة مدى الحياة. لم يكن بمقدور فؤاد باشا أن يكون أكثر صرامة معهم لمكانتهم الإجتماعية.

حُكم على حاكم دمشق العثماني أحمد باشا بالموت رمياً بالرصاص مع علي بيك قائد الفرقة التي كانت منوطة بمهمة حماية الحي المسيحي. كما حُكم بالموت على عدد من الضباط الآخرين ومن بينهم المسؤولين عن مذابح الجبل وغيرها ونفذت هذه الأحكام بعيداً عن أعين العامة لعلو مراكزهم في السلطنة.

مرحلة إعادة البناء:

طالب فؤاد باشا المسلمين بإطلاق سراح الأسرى المسيحيين الذين أجبروا على الأسلمة وكان عددهم 500 وأمر هؤلاء المسحيين بالعودة إلى دينهم. كما طالبهم بإعادة المسروقات والتي أعيد الكثير منها. وأمرهم أيضاً بتزويد المسيحيين بكل ما يحتاجونه من عفش كالأسرّة وغيرها.

أمر بإخلاء 4 حارات للمسلمين وأسكن فيها المسيحيين إلى أن يعاد بناء بيوتهم وخصص بيت من بيوتها ليكون كنيسة حيث تشارك باستخدامها كل المسيحيين من كافة الأطياف.

شكل مجالساً خاصة لشؤون المسيحيين وشرع في مشروع إعادة بناء الحي المسيحي، حيث استخدم اليد العاملة المسيحية والمال من خزينة الدولة. وتكفلت السلطنة بدفع تعويضات للمتضررين وجاء جزء كبير منها من مسلمي ويهود المدينة نفسها على شكل ضرائب، وأعفت منها الرجال المسلمين الذين ساعدوا المسيحيين خلال الفتنة والذين بلغ عددهم 2,000 رجل ومن بينهم رجال عبد القادر.

وحَصّلت الضرائب لهذا الغرض من كل مناطق ولاية دمشق الأخرى. وكانت ضريبة دروز الجبل والسهل أعلى من ضريبة المسلمين الدمشقيين لدورهم في مذابح الجبل وفي مذبحة دمشق على السواء.

قصة رجلين مسلمين ورجل مسيحي:

أحمد باشا:

عُين الضابط العثماني أحمد باشا حاكماً على دمشق قبل اشهر من المذبحة. لكنه قدم استقالته في خلاف مع السلطنة قبل أيام منها وكان الحاكم البديل في الطريق إلى دمشق حين حصلت المجزرة.

كثرت الأقاويل حول دور الحاكم والسلطنة في المذبحة. وكان هناك اعتقاد كبير بأن الحاكم كان يكن العداء الشديد للدمشقيين المسلمين الذين قتلوا عمه سليم باشا قبل 30 سنة وكان ينتظر اللحظة المناسبة للإنتقام من المدينة. أما المسيحيون فاعتقدوا بأنه كان يكن عداء خاصاً لهم بسبب ممارساته وتصريحاته ضدهم، وهذا بشهادة عدد من النبلاء المسيحيين الذين تعاملوا معه في عدة مناسبات.

مهما كانت الدوافع وراء القرارات التي اتخذها أحمد باشا فهي إن لم تدل على حقد دفين كانت بلا شك تدل على شخصية ضعيفة وجبانة وعلى سوء إدارة.

بدأ أحمد باشا بعد وصوله بتجنيد حثالة المجتمع وإعطائهم السلاح وتعيينهم كشرطيين أوحراس. وحين طلب منه قناصل الدول أن يحمي المسيحيين من الإعتداءات أرسل أسوأ رجاله من الذين عاثوا فساداً في حرب الجبل. وبدلاً من أن تردع هذه التعيينات أصحاب السوء كانت تشجعهم.

على الرغم أن مسيحيي دمشق لم يقوموا بأي عمل عسكري على الإطلاق وأنهم لا يشكلون أكثر من 20% من سكان المدينة فإنه قام بوضع المدافع عند مداخل الجوامع للإيحاء للمسلمين بأن المسيحيين يحضرون لهجوم وشيك. وحين حاصر الدروز المدينة وشكلوا تهديداً خطيراً للسلم فيها لم يضع أي حراسة على أبوابها. أعطت هذه الإجراءات الإنطباع بأنه يحضر لشيئ ما.

ثم حاول إشعال غضب الجموع عندما عرض هؤلاء الأولاد في السوق وهم مهانين. لكن الأبشع من كل ذلك أنه حين بدأت الفتنة لم يفعل شيئاً على الإطلاق ليوقفها. فهم لم يظهر أي انزعاج ولم يأمر جنوده بالتدخل لوقفها ولم يطلب معونة أي فرقة من خارج المدينة. وعلى العكس، فقد منع الأمير عبد القادر من التعرض للمهاجمين.

لم يكن أمام فؤاد باشا إلا أن يحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص.

الأمير عبد القادر الجزائري:

كان المناضل الجزائري المنفي إلى دمشق لنضاله المشرف ضد الإحتلال الفرنسي للجزائر رجلاً يحمل مثلاً عليا. كان أقوى مدافعاً عن قيم الإسلام المثلى ولم يرضه ما كان يحرض عليه بعض الشيوخ المسلمون المتعصبون. كان من المعارضين الأشداء للفكر الوهابي التكفيري ومن مناصري الحداثة والإنفتاح.

بذل الأمير المستحيل لمنع هذه المجازر بمحاولاته المتكررة مع المسؤولين السياسيين والدينيين للتدخل أو حتى إصدار فتوى تحرم هذا القتل. لكن كل محاولاته باءت بالفشل. ورغم ذلك، لم يمنعه هذا من القيام بواجبه الإنساني، حيث عمل ليل نهار مع رجاله الأشداء على إنقاذ ما أمكن من المسيحيين. ويقدر عدد الذين أنقذهم هو ورجاله حوالي 11,000 شخص حسب تقديرات القنصل الفرنسي.

وفي اليوم الثالث حين حاصر المهاجمون بيته وطالبوه بتسليم الذين لجؤوا إليه، وقف أمامهم وقال لهم أنه لن يسمح لهم بالمرور إلا فوق جثته وتجهز مع رجاله لقتالهم. فما كان أمام المهاجمين إلا التراجع. وبعد انتهاء الأزمة تكفل مع رجاله بمرافقة كل الذين اختاروا الذهاب إلى بيروت وإيصالهم بالسلامة، رغم مخاطر الطريق الذي يمر وسط أراضي دروز الجبل.

بعد إنتهاء الأزمة، انهالت على الأمير رسائل الشكر والهدايا لموقفه المشرف وأعماله البطولية. وكان من أهمها رسائل شكر خاصة من ملكة بريطانيا فكتوريا ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية إبراهام لنكولن. لكن أهم تقدير له جاء من عدوته اللدود فرنسا التي نفته إلى دمشق، فقد منحته أعلى وسام للشرف في الإمبراطورية (وسام الصليب العظيم للشرف) واعتبرته صديقاً للعالم المسيحي.

القديس يوسف مهنا الحداد:

وُلِد القديس يوسف مهنا الحداد في بيروت 1793 وتعمق في اللاهوت حتى أصبح كاهن الكنيسة المريمية الأورثوذوكسية في عام 1817، وبطلب من رعية دمشق لما رأوا فيه من ذكاء وفطنة وعلم وهو في سن الشباب.

كان الأب يوسف معروفاً بأعماله الخيرية وخدماته للبؤساء وإعانته للمرضى. ولمّا تفشّى الهواء الأصفر في دمشق سنة 1848، أظهر غيرة كبيرة في خدمة المرضى، غير مبال بإمكان التقاط المرض. وكان أحد أولاده قد مات من المرض. وكان يُعرف عنه أنه فقير. فقد كان يخدم الكنيسة بدون مقابل وكل مصروفه كان يأتي من أولاده ومن شغل أيديهم.

من منجزاته إحياء المدرسة البطريركية التي ذاع صيتها حينئذ. كان عالم باللغتين العربية واليونانية وقام بترجمة الكثير من الكتابات بين اللغتين. كان حكيماً وصاحب حجة وكان يقارع أكثر العلماء فقهاً بجدالاته معهم.

حين هجم المسلمون المتعصبون على الكنيسة المريمية، هرب متستراً بعباءة في أزقة الحي إلى أن وصل إلى مكان يسمى (قرنة الشحم) يبعد بضعة مئات من الأمتار عن الكنيسة. رآه مجموعة من الأشرار فعرفه أحدهم وصرخ برفاقه أنه “إمام النصارى”. فأمسكوه وبدأوا في تعذيبه أمام زوجة ابنه التي كانت ترافقه، طالبين منه أن يعلن إسلامه. وبدأوا يقطعون أصابعه واحدة تلو الأخرى وفي كل مرة يطلبون منه أن يؤسلم وهو يرفض. ثم قاموا بجدع أنفه وتشويه جسده وأخيراً ربطوه في قدميه وأخذوا يجرون جثته في أزقة وحارات دمشق.

في 8 تشرين الأول 1993، قام المجمع الإنطاكي المقدّس للروم الأورثوذوكس بإعلان قداسته. فأصبح يعرف بالقديس الشهيد يوسف الدمشقي. ويُحتفل في عيده في العاشر من تموز في كل عام وهو يوم استشهاده.

كلمة أخيرة:

تركت هذه المذبحة آثاراً عميقة عند الدمشقيين، إذ لم تشهد هذه المدينة، وهي إحدى أعرق مدن التاريخ، مثل هذا الحقد بين أبنائها من قبل. لم تكن هذه المرة الأولى الذي يحدث فيها قتل ودمار، لكن المجرمين عادة ما يكونون من الغرباء أو الغزاة. أما أن تقوم جماعة دينية من نفس المدينة ضد جماعة أخرى، على مرأى من الأجنبي، وبهذه الوحشية، فهو غير مسبوق.

استفاق المسلمون الأتقياء من الصدمة في حالة نفسية يرثى لها. كانت الدلائل على حدوث المذبحة موجودة منذ زمن، لكنهم لم يفعلوا شيئاً للحيلولة دون ذلك. كيف سمحوا للجهلاء والمتعصبين أن يشوهوا سمعة دينهم ويلطخوا وجه هذه المدينة المعروفة بتعدد ثقافاتها ودياناتها. كان يشكل الأتقياء غالبية مسلمي دمشق لكن صمتهم شجع الجهلاء على المضي في مخططهم بدون رادع. قال الفيلسوف الأيرلندي إدموند بورك: “أن لا يفعل الخَيِّرون شيئاً هو كل ما يحتاجه الشريرون لينتصروا”

أما المسيحيون فقد فقدوا ثقتهم بجيرانهم وبالنظام الحاكم. ورفض جُلّ من رحل منهم العودة إلى دمشق لفترة طويلة. وظلوا بعيداً حتى عام 1864 حين بدأ بعضهم بالرجوع وانضم إليهم بعض مسيحيي القلمون. كما سعى العديد منهم إلى الهجرة. وكانت هذه المجازر الدافع الأكبر وراء الهجرة الكبيرة من قبل السوريين إلى الأمريكييتين حيث بلغ عددهم أكثر من 100,000 مع حلول القرن الجديد.

ستظل هذه المذبحة وصمة عار في تاريخ هذه المدينة الفاضلة إلى الأبد. يقال بأن الشعوب التي لا تتعلم من أخطاء التاريخ تكون عرضة لتكرارها. فهل تعلم الدمشقيون خاصة والسوريون عامة من هذه التجربة المريرة؟ قد يأتيك الجواب في المثل الدمشقي الشهير الذي، كما يقال، وُلِد من رحم هذه المجزرة: ” تنذكر وما تنعاد”.

عبد القادر الجزائري وهو ينقذ مسيحيين خلال الأحداث 1860

عبد القادر الجزائري وهو ينقذ مسيحيين خلال الأحداث 1860

لاجئون مسيحيون بعد المجازر 1860

لاجئون مسيحيون بعد المجازر 1860

الأمير عبد القادر الجزائري 1862

الأمير عبد القادر الجزائري 1862

الحي المسيحي في دمشق مباشرة بعد المذبحة عام 1860

الحي المسيحي في دمشق مباشرة بعد المذبحة عام 1860

الحي المسيحي في دمشق عام 1862 (بعد عامين من المذبحة)

الحي المسيحي في دمشق عام 1862 (بعد عامين من المذبحة)

أهم المصادر مرتبة حسب درجة الأهمية لهذا المقال:

1 – An Occasion for War; Civil Conflict in Lebanon and Damascus in 1860. A book by Leila Tarazi Fawaz

2 – مجموعة مقالات باللغة العربية في مجلة “الكلمة” الصادرة عن الكنيسة الأورثوذوكسية في أمريكا الشمالية كتبها ابراهيم عربيلي أحد الناجين من المذبحة وهي من مذكراته عنها. نشرت عام 1913.

3 – Murder, Mayhem, Pillage, and Plunder; The History of Lebanon in the 18th and 19th Centuries. A book by Mikhayil Mishaqa ; Translated from Arabic by Wheeler M. Thackston, Jr. Mikhayil Mishaqa was the vice-consul for the USA and one of the survivors of the massacre and this book was his memoirs

4 – The Arabs; A History. A book by Eugene Rogan

5 – عشرات المقالات والصفحات على الإنترنت باللغتين العربية والإنجليزية وأهمها موقع “ويكيبيديا” باللغتين.

 
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.