مره من ذات المرات كنا قاعدين قعده عائليه مع مجموعه من الأهل والأقرباء والأصدقاء,وكانت الدنيا شتويه والثلج نازل على عتبات الأبواب, وكنا نتحدث عن أيام زمان وعن الفهم والعقل والذكاء, ولفت انتباهي رجل عمره تقريبا 95 سنه.
ومن نظرتي له عرفت بأنه قد اختبر الحياه والحياه اختبرته , وكنا يومها نضحك بأصوات عاليه على تصرفات وسلوكيات اجدودنا وجداتنا المسكينات, وكنت كثير الإصغاء للرجل الطاعن في السن, فقام حكالي: زماااااان يا ولد كان في مختار في احدى القرى المجاوره لنا, وكانت حياة الناس في هظاك الزماان كلها تعب وشقاء, وكان ما حدى من أهل القريه يعرف طريق الشام غير المختار, وعلى فكره كان إذا في حدى مخه متفتح وبده يروح زيه على المدينه كان يتخذ بحقه كل الاجراءات من أجل اعاقته حتى لا يذهب إلى المدينه.
وكان هذا المختار كل ما بده يروح على المدينه(الشام) يلف على بيوت جميع سكان القريه, بيت بيت وحاره حاره وزنقه زنقه على رأي القذافي, وكان يسأل الناس عن حاجاتهم من الشام, يعني اللي بده غرض من الشام يكتبه على ورقه خارجيه بمثابة دفتر ملاحظات, وكان كمان حتى يسأل الصبيان ويسأل النسوان ويكتب طلب وحاجت كل شخص فيهم, كان يجيبلهم بوابير ومحاريث وأمشاط ومُري(مرآه) وحلاوه وزبيب ومُربى(تطلي) ودبس,وأثواب للرجال وللنساء, وكان شديد الحرص على جلب كل شيء ولم يكن ينسى أي طلب من طلبات أهل القريه, طبعا كل سكان القريه كانوا يحبوه جدا ويحترموه جدا مش على شان هو مختار القريه, لا كانوا يحبوه على شانه مريح لهم ولا يتعبهم ويذهب إلى المدينه بدلا عنهم ولا يحملهم نفقات السفر لا في الصيف ولا في الشتاء, وكان في هظاك الزمان السفر من (إربد) ومن القرى المتاخمه لها إلى الشام يكلف المسافر الجهد والعناء والنقود, وخصوصا إذا عرفنا أنه كان يذهب من القريه إلى الشام على حمار أو على بغل, عشان السيارات كانت في هظاك الزمان معدومه ولا يمكن أن تشاهد في القرى بل في المدينه, وكان ما فيش في القرى شوارع مزفته ومعبده من أجل مرور السيارات, كانت الشوارع فقط في المدينه وحتى في المدينه لم يكن هنالك في ذاك الزمان شوارع فرعيه معبده ومناره بأعمدة الكهرباء,كانت الشوارع الرئيسيه هي المعبده فقط لا غير وكانت الشوارع الفرعيه تمخرها العربات التي تجرها الخيول والحمير والبغال.
المهم في الموضوع أن ضابطا من الجيش الانكليزي انتبه إلى تصرفات المختار الذي يهلك وهو يشتري في المدينه كل حاجيات أهل القريه, وكان يقول بينه وبين نفسه: أنا مش فاهم هادا المهتار(المختار) شو اللي متعبه وشو اللي مغلبه بالناس! ليش مثلا ما يروح كل صاحب حاجه ويشتري حاجياته بنفسه!! ليش امغلبين المختار وليش المختار امغلب حاله, وقرر يسأل المختار, فراح على المختار في بيته ومضافته وسأله: ليش يا مهتار بتروح تشتري للناس أغراضهم وحاجياتهم؟يا رجل ليش هالغلبه؟ليش ما يروحوا هم يشتروا أغراضهم!! فتبسم المختار وأخذ نفس عميق وطال علبة السجائر من جيبته ولف سيكاره وقال للضابط الانكليزي:
أنا ما بروح وبغلب حالي على شان أهل القريه يرتاحوا,ولا على شان آخذ منهم أرباح, أنا مثلا مش تاجر زي ما بتوهموا بعض الناس, في بعض من الناس بحكوا عني إني تاجر وباخذ أرباح من ورى مشترياتهم, وهاظا اعتقاد خاطئ, أنا بروح على المدينه(الشام) وبشتريلهم وبتعب نفسي على شان ما بديش أي حدى من أهل القريه يعرف طريق المدينه, إذا بتعلموا على الطريق وبصيروا يروحوا ويجوا بكره يا سيدي بتعلموا الدقه والرقصه وبصيروا يفهموا, وإذا صاروا يفهموا أكثر مني يمكن يلفتوا انتباه الضباطيه والحكمداريه وبعدين بنتهي دوري كمختار وبصير واحد منهم هو المختار, على شان هيك أنا بخليهم قاعدين في القريه وما يعرفوش طول عمرهم غير البيت والبقر والغنم والحلال , إذا صاروا يروحوا ويجوا بصيروا يحتكوا بالمدينه بالناس اللي بتفهم الحياه على أصولها, وأنا ما بديش قريبي يصير عندهم فهم وعقل, أنا بدي إياهم يضلوا زي ما همه ما يعرفوش ولا يميزوا السبت من الحد(الأحد), أنا بدي إياهم يضلوا يتعاملوا بس مع الحمير والبقر, ومع الحيوانات,ما بديش عقولهم تتفتح أكثر من اللازم.
طبعا ضحكنا كثيرا على ذكاء المختار جدا, وفي نفس الوقت نحن اليوم ننظر إلى الناس مثل أيام زمان, فالحكومات العربيه اليوم كلها من نفس نوعية المختار, لا تريد للناس أن يفهموا, وكذلك شيوخ الدين اللي بحذروا الناس من قراءة الإنجيل والتوراه, على شان ما يصيروش يفهموا ويعرفوا إشي, أنا أنظر إلى الفئة المتحكمة بالناس اليوم وكأنهم نفس المختار الذي كان يقيم في قريتنا, المختار لا يريد من الناس أن يفهموا, وكذلك (محمد) نفسه في ديننا الإسلامي كان يحذر الناس من اقتناء التوراه أو الإنجيل لأنه كان يخاف على نفسه أن ينكشف أمره إذا فهمت الناس باقي الكُتب.