«للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل,وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا , ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي , فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل إلى مكة» طه حسين
في بداية هذه الورقة، أودّ أن أنوه إلى أنه لا يملك أحد أن يحجر على رأي أو يصادر فكرة لأنها تخالف قناعاته التي تربى عليها ونبت في تربتها وترعرع تحت ظلالها، وأن تطور البشرية يعود الفضل فيه إلى قسط وافر من التمرد على المعهود من تلك القناعات الراسخة والمسلمات المتمكنة، وأن أشد الحقائق إزعاجا للعقل هي أشدها نفعا للإنسان، وأكثر الأفكار جدة وابتكارا هي أكبر حافز لإعادة اكتشاف الذات، فهذه دعوة لحوار مفتوح مع العقل والمنطق، مع التاريخ والتراث، واختبار لتلك القناعات عندما توضع على محك المنطق والحجة، ولعله من نافلة القول أن أذكر بأن هذه الورقة لا تنكر وجود حرم مقدس للمسلمين، ولكنها تطرح سؤالا جديدا، سؤال المكان والجغرافيا.
في سنة 683 بعد أن بلغ الصراع بين ابن الزبير والأمويين أشده على إثر رفض هذا الأخير الاعتراف بشرعية خلافة يزيد لوالده، اجتاحت جحافل جيش يزيد ابن معاوية مدينة الرسول حيث كان يتمترس ابن الزبير وأنصاره، وكما هو معروف في التاريخ التراثي؛ فإن المدينة وضعت على حد السيف لثلاثة أيام، وبعد تسعة أشهر من الواقعة، وضعت نساء المدينة المغتصبات؛ أزيد من ألف مولود سفاحا. رغم ذلك لم يكن ابن الزبير من بين القتلى، فالرجل بدل أن ينتظر في المدينة ويواجه قوات يزيد، ركب الصحراء إلى بقعة أشد سحرا وجاذبية للقداسة، إلى «بيت الله».
المؤرخون المسلمون الذين أتوا بعد 100 عام من هذه الحادثة، تناولوا من باب البديهيات والمسلمات أن ذلك المكان المقدس الذي قصد إليه ابن الزبير بعد المذبحة اليزيدية؛ هو مدينة مكة، لكن بالعودة إلى الأرشيف التاريخي والمادي والأدبي لتلك الحقبة نجد أن أحدا من المعاصرين لها لم يشر إلى أن بيت الله يوجد في مكة، تلك المدينة المعروفة طوبوغرافيا اليوم في المملكة السعودية، بل إن مكة نفسها لم يرد لها ذكر في مؤلفات المؤرخين ولا في سجلات التجارة الإقليمية والعالمية ولا الخرائط الطوبوغرافية لذلك العهد، ولا حتى العهود السابقة لبعثة محمد(ص).
فرغم أن التاريخ الإسلامي يبرزها كمدينة تجارية هامة في الشرق الأوسط، تلتقي فيه القوافل القادمة من الشرق والغرب، الشمال والجنوب، ويصوّرها المؤرخون الإسلاميون، كأنها دبي الشرق الأوسط في ذلك الزمن-لم يتحدث عنها أي من المؤلفين الرومان والمسيحيين والهنود والفرس وغيرهم، وقد عبرت المؤرخة الراسخة باتريشيا كرونا عن دهشتها عندما راجعت جميع الوثائق التاريخية والمادية لتلك الحقبة وما قبلها، أي منذ القرن الأول الميلادي إلى السابع، فلم تعثر على مستند واحد ورد فيه ذكر اسم مكة، هذا أمر مجمع عليه بين المؤرخين اليوم دون استثناء.
ودونت كرونا ملاحظات هامة في كتابها«التجارة المكية وظهور الإسلام»«
meccan trade and the rise of islam»،
تشير فيه إلى أن السفن القادمة من الهند وهي محملة بالتوابل والبهارات وغيرها من السلع، كانت بعد إغلاق ممر بحر العرب والخليج العربي بسبب الحرب بين الساسانيين والبيزنطيين، تمر عبر خليج عدن فمضيق باب المندب في اليمن ثم البحر الأحمر، متجهة إلى البتراء المدينة النبطية العربية التي كانت ملتقى القوافل الحقيقي بين شمال إفريقيا وغرب آسيا والدولة البيزنطية لمئات السنين، وليس من المنطقي أن تقوم تلك السفن بتفريغ حمولتها في البر اليمني؛ لتسلك عبر الجمال والدواب طرقا برية قاحلة إلى مكة داخل الصحراء، حيث لا وجود لأي نشاط تجاري، ثم تكمل طريقها صاعدة إلى الشمال، وتترك طريق البحر الذي يعتبر مسارا آمنا وسريعا نحو خليج العقبة، وتقول المؤرخة إن مكة أرض جدباء والأرض الجدباء لم تكن قط محلا تجتمع فيه القوافل وتريح فيه ركابها، خصوصا إذا كان بالقرب منها مواقع خصبة وخضراء مشهورة مثل الطائف.
وأشارت كرونا إلى أن المدة التي يقتضيها التنقل بمقدار طُنّ من البضائع برا لمسافة 50 ميلا، هي نفس المدة التي يقتضيها المقدار ذاته الذي يمكن التنقل به بحرا لمسافة 1200 ميل بحرا، الذي هو طول المسافة بين باب المندب وخليج العقبة عبر البحر الأحمر، الأمر الذي يجعل التكلفة باهضة من خلال البر مقارنة بالبحر، إضافة إلى تكاليف تأمين القافلة من قطاع الطرق وتوفير الزاد للجمال والركاب، وأماكن لإقامة الخدم، لذلك كان البحر أكثر أمانا وأقل كلفة من البر، فكل ما تحتاجه السفينة هو شراع خفاق و دفقة من الرياح وسواعد للتجديف.
فلماذا سوف تتجشم القوافل مشقة الذهاب الى قرية نائمة في أحضان الصحراء، ليس فيها من وسائل الراحة ولا أساسيات الحياة إلا بئر لا تكفي كل تلك القوافل التي تتوارد عليها يوميا؟، كما أن الوثائق التجارية والسجلات التاريخية كانت تؤكد أن الأثيوبيين هم الذين كانوا يديرون حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر، ويسيطرون على المضيق والممرات البحرية، وكانوا على دراية متقدمة بصناعة السفن وطرق وتقنيات الإبحار ونقل البضائع والمبادلات التجارية.
كرونا التي تتقن 15 لغة من اللغات القديمة كالسوريانية والساسانية والعربية، اتجهت في رحلة بحثها عن المكان التاريخي الذي انطلقت منه الرسالة المحمدية ونزل فيه الوحي إلى بغداد، حيث نظرت في الوثائق التي بقيت من عهد الساسنيين الفرس عندما كانوا يذهبون إلى يثرِب للتنقيب عن الفضة حيث بنوا هناك عدة مناجم، لقد تحدثت الوثائق عن يثرِب وخيبر والطائف، لكن لم يرد ذكر مكة في أي منها رغم أنها في نفس الإقليم.
لقد راجعت وثائق بروكوبياس
Procopius
أحد مؤرخي الإمبراطورية البيزنطية الرسميين في القرن السادس، وغيره من مؤرخي الدولة البيزنطية الذين سافروا واستكشفوا الجزيرة العربية، ولم يشر أحد منهم إلى مدينة اسمها مكة.
كان علينا أن ننتظر حتى سنة 740م أي بعد 120 سنة من ظهور الإسلام حيث ظهر أول ذكر لمكة في مؤلف بالسوريانية لرجل دين مسيحي مجهول، باسم
apocalypse of pseudo-methodius،
المخطوط الذي اكتشف عام 1932، وهو وثيقة أصلية يؤرخ صاحبها لفترة الفتح العربي التي عايشها، وينظر فيها لفكرة نهاية العالم من وجهة نظر مسيحية، في أعقاب تفكك الدولة البيزنطية وسقوط أعظم حواضرها بأيدي العرب.
فهل يتصور أحد أنه بعد 500عام من الآن، عندما يريد أحد الباحثين دراسة اقتصاد كبرى العواصم الاقتصادية في الشرق الأوسط؛ أن لا يجد في الأرشيف الذي يؤرخ لهذه الحقبة، أي ذكر لمدينة دبي باعتبارها قطبا تجاريا مزدهرا في الخليج العربي والشرق الأوسط؟.ورغم أن فقهاء الإسلام ومؤرخيه يعتبرون مكة البقعة الأقدم والأقدس في الأرض، وأن إبراهيم وإسماعيل، قبل 900 عام من الميلاد، أسسا أول بيت وضع للناس في مكة، فإننا لا نجد ذكرا لهذه المدينة في أي من المصادر التاريخية خارج التراث الإسلامي، على الإطلاق.
فهل من الجائز أن يجتمع كل أولئك المؤرخون من مختلف الأمم واللغات والأديان، جيلا بعد جيل؛ على تجاهل ذكر مكان شهد بناء أول بيت وضع للناس في الأرض، وكانت له كل تلك العظمة والقداسة والرواج التجاري؟، هل هي مؤامرة تاريخية على الإسلام؟، وهل المؤامرات تجوز على الخرائط و الوثائق التاريخية والأدبية التي دونت قبل حتى أن يولد رسول الإسلام؟.
في المقابل، ورد ذكر »الحرم المقدس» بوصف جغرافي عام على لسان جون بار بينكاي
John bar Penkaye
وهو مؤرخ نسطوري عاش في أواخر القرن السابع في فترة حكم عبد الملك بن مروان، في مؤلفه المعروف «كْتَبَا دريش مللّي» أو مختصر تاريخ العالم، في الجزء الذي تحدث فيه عن الفتح العربي، حيث وصف المكان الذي لجأ إليه ابن زبير في أثناء حروبه مع بني أمية الآتية:« لقد ذهب إلى مكان ما في الجنوب، حيث حرمهم المقدس، وعاش هناك«، فَلَو كانت مكة معروفة في ذلك الوقت، والنَّاس يحجون إليها بالآلاف، فلا يعقل أن يصفها المؤرخ الذي فصل القول في حوادث تلك الحقبة بهذا الشكل المبهم.
لكن لدينا بعض القرائن والإشارات التاريخية والأركيولوجية ذات الدلالة التي يمكن من خلالها استشفاف المكان الأصلي ل«الحرم المقدس» عند العرب، قبل أن تستقر الرواية الإسلامية الشائعة لهذا المكان بعد وفاة الرسول بقرنين من الزمن. يعقوب الرهوي يعطينا بعض الملامح، المؤرخ والكاتب السرياني المشهور، المولود في عين دابا قرب حلب عام 640م، دون في بعض كتبه أن المهاجرين في العراق، عندما كانوا يسجدون في الصلاة، كانوا يتجهون نحو الغرب، بينما أولئك الذين يسكنون في الاسكندرية كانوا يتجهون نحو الشرق.
بل إن بعض الروايات في التراث الإسلامي قد أشارت إلى أن رامي السهم الذي حدد اتجاه القبلة عند بناء مسجد الكوفة على يد سعد بن أبي وقاص، لم يقع سهمه باتجاه الجنوب من المسجد باتجاه مكة، ولكن إلى مكان ما في جهة الغرب.
فرغم أن أحدا من المعاصرين لتلك الحقبة لم يكشف لنا صراحة وتعيينا عن المكان الذي لجأ إليه ابن الزبير، فإن ثقل القرائن التاريخية يعين مكانا إلى شمال الحجاز، منتصف الطريق بين الكوفة والإسكندرية.
وهذه المنطقة بالذات هي التي كان محمد (ص) على اتصال ومعرفة بها حسب المؤشرات الضمنية في لغة القرآن، فقد أشارت المعطيات من نصوص القرآن، إلى المشركين الذين كانوا يجاورون محمدا (ص) في مكة ويجادلونه في دلائل النبوة والمفاهيم الدينية – أنهم على علم عميق ومتقدم بالتراث الإنجيلي والتوراتي، وطفحت نصوص القرآن بمواد جدلية في الثيولوجيا المسيحية التي كانت مثار جدل في المجتمعات المسيحية واليهودية، إذا عندما نريد أن نبحث عن “مكة” الحقيقية التي عاش فيها النبي محمد وعاشر فيها مجتمعا كتابيا غاصا بالموحدين
monotheists
، لن نجدها في عالم وثني كما تصوره لنا كتب التراث؛ عالم من الأصنام وعبادة الأوثان، بل في منطقة عرفت حضورا حيويا للمسيحيين واليهود كما يصورها القرآن الكريم.
ثم إن الشخصيات التي يصفها القرآن هي شخصيات زراعية تمتهن الفلاحة، كما أن المشهد البيئي نفسه في القرآن، يرسم تضاريس أرض زراعية وليست صحراوية على الإطلاق، فلا وجود للزراعة في مكة، فهي واد غير ذي زرع، ورغم ذلك يصف القرآن أعداء محمد أنهم يربون المواشي و يزرعون أشجار الزيتون ودوالي العنب…الجغرافيا القرآنية تصف لنا موقعا خصبا مثمرا، تتراقص فيه حقول الكروم والتين والزيتون، وتسرح على بساطه الأخضر المراعي والأبقار، وتجري خلاله الجداول والسواقي، وهذا المشهد الأخضر الغني بالماء والثمار والفواكه والأنعام؛ نجده في شمال الجزيرة العربية، في فلسطين وسوريا التاريخية وما جاورهما من المدائن والقرى، وليس في الحجاز ونجد، حيث النباتات الصحراوية من عوسج ونخل ومُرّار، وحيوانات صحراوية من ضب وبنات آوى و وعول برية.
لنتناول هذا المقطع من حديث في صحيح البخاري كتاب التمني 6804 وهو بيت شعري كان ينشده الصحابي بلال بن رباح في مكة قال:
ألا ليت شعـري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدن يومـاً مياه مجنـة وهل يبدو لي شامة وطفيل
يصف بلال مكة، واديا معشوشبا تملأه الخضرة ونباتات الأذخر وأزهار الجليل وتحيط به عيون الماء الجارية، والإذخر أو
Cymbopogon
هو نبات معمر غليظ الأصل، يصل ارتفاعه إلى مترين، كثير الفروع دقيق الورق، وبالإطلاع على قاعدة البيانات الأوروبية المتوسطية للنباتات التي توضح خريطة انتشار الأذخر، يتبين أنه ينتشر في بلاد الشام إلى شمال إفريقيا، ولا ينبت في الحجاز أو نجد، مثله مثل نبات أو أزهار الجليل
Hylotelephium
، فهي أزهار لا يمكن بحال أن توجد في مناخ صحراوي، أما شامة وطفيل فهما عينان ينبع منهما الماء.
في حديث آخر للبخاري من كتاب الجهاد والسير 56:251 يصف الحديث رجلا (الصحابي خباب بن الأرت) أسيرا لدى قريش في مكة يتناول حبات العنب، في منطقة لا يبلغ فيها معدل التساقطات المطرية 10 مليمترات سنويا، فكيف تكون أرضا خصبة بالأشجار والحقول الخضراء وتقوى على احتمال كثافة سكانية تعج بالقبائل والبطون والعبيد والخدم، إضافة إلى كونها قطبا تجاريا تتوافد عليها الطوائف والأجناس المختلفة، و ألوف القوافل من الجهات الأربعة، مع ما يصف به القرآن أهل مكة من الجندية والقدرة على الحشد للقتال جيشا عظيما مجهزا بالعتاد والسلاح.
أضف إلى هذا أن علماء الأركيولوجيا المسلمين في جامعة الحسين بن طلال في الأردن لم يجدوا في مكة أي آثار أو حفريات، في مدينة ضاربة في القدم يفترض أن تكون عاجة بالآثار، لكن أقدم أثر توصلوا إليه لا يتجاوز القرن الثامن الهجري، رغم أن الكعبة حسب التراث الإسلامي يعود بناءها إلى قرون طويلة قبل ظهور الاسلام، وهذا ما صرحوا به أولئك الأركيولوجيون للمؤرخ دان جيبسون كما ورد في كتابه الجغرافيا القرآنية، ممتنعين عن ذكر أسمائهم لأسباب لا تخفى، في حين يعلم كل من اهتم بتاريخ الجزيرة العربية أن المدينة النبطية العربية البتراء كانت قبلة للحجاج لقرون طويلة، ومعروفة في التاريخ بأن لها حرما يحرم القتل فيه، ورغم أن الجزيرة العربية عرفت العديد من الكعبات والبيوت المقدسة من نجران إلى شمال الجزيرة العربية، ظلت البتراء أهم تلك المراكز الدينية على امتداد القرون.
في القرآن ما يرشدنا إلى تلك المنطقة التي تتمتع بالأوصاف التي جاءت في القرآن، عندما تحدث عن قصة لوط، ومدينة سدوم في الأردن، قال في سورة الصافات التي يصفها المفسرون بأنها سورة مكية : «وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ 133إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 134 إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ 135 ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ 136 وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ 137 وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 138».
فإذا كان المشركون الذين وجه إليهم القرآن خطابه، يمرون على مدينة لوط التي بينها وبين مكة 1000 كيلومتر، مرتين، في الصباح وفِي المساء، فإنه من غير المعقول أن يكون محمد (ص) والمشركون يقيمون على بعد 1000 كيلومتر عن سدوم(المسافة بين مكة وسدوم في الأردن)، بل يفرض المنطق أنهم يعيشون في مكان قريب جدا يجعلهم يمرون على تلك الأطلال صباحا وهم ذاهبون لأعمالهم ومساء وهم عائدون، وإلا فألف كيلومتر ليست بنزهة يسيرة حتى يستطيع المرء أن يمر مرورا على قرية بالغداة والْعَشِي، تفصلها عن قريته مئات الكيلومترات.
بعض الباحثين يرى أن المكان الذي تجتمع فيه صفات المجتمع الذي نشأ فيه محمد ويصف القرآن مظاهره الجغرافية والبيئية والمعرفية، هو البتراء في الأردن حيث توصلت الأبحاث الأركيولوجية إلى أن البتراء كانت تتوفر على نظام ري متطور، ومشاتل الكروم والعنب وأشجار الزيتون وبساتين خاصة وعامة، وأراض ذات تربة خصبة صالحة للزراعة دلت التحليلات التي أجريت على عينات منها أنها وقبل 100 عام فقط كانت فيها أشجار الصنوبر والفستق وغيرهما.
يقوم حرم ذي الشرى أو
dushara،
في البتراء اليوم، كموقع أثري لا زال قائما بأحجاره المتهدمة قبلة للسياح، هذا الحرم ذكره ابن هشام في سيرته في قصة إسلام عمرو بن الطفيل الأزدي، يقول عمرو داعيا زوجته إلى الإسلام : “فاذهبي إلى حِنا ذي الشَّرى – قال ابن هشام ويقال حمى ذي الشرى – فتطهري منه، قال وكان ذو الشرى صنما لدوس ، وكان الحمى حمى حموه له ، وبه وَشَل من ماء يهبط من جبل قال فقالت بأبي أنت وأمي ، أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ؛ قال قلت لا ، أنا ضامن لذلك ، فذهبت فاغتسلت ، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام ، فأسلمت”. فكيف يكون ذو الشرى في مكة وهو في البتراء، وكيف يهبط نبع من الماء من جبل في مكة؟ وهل هناك معبد لذي الشرى في السعودية؟
وبالعودة إلى اتجاه القبلة الذي أشرنا إليه آنفا، فإن لفيفا من الأركيولوجيين قاموا باستقصاء مدهش لمجموعة من المساجد الأولى في الإسلام، وبالنظر إلى اتجاه القبلة الأول الذي تبنته تلك المساجد؛ كانت النتيجة مذهلة ومحيرة في آن واحد.
لقد وردت في القرآن نصوص تأمر محمدا (ص) بتغيير اتجاه القبلة في الصلاة، لكن لم يحدد القرآن مكان تلك القبلة ولا السنة التي تعين فيها ذلك التغيير، وأطلقت التعبيرات منكرة مبهمة عامة: “ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها”، “لنولينك قبلة ترضاها”، “فول وجهك شطر المسجد الحرام”…وحسب الرواية الإسلامية التقليدية حدث ذلك في عام 624م، هذا يعني بالضرورة أن أي مسجد بني بعد عام 624م، فإن قبلته سوف تكون باتجاه مكة، لكن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أحد، كشفت عنها الأبحاث الأركيولوجية على المواقع الأثرية للمساجد القديمة، التي وجدت على سبيل المثال أن القبلة الأولى لمسجد غوانجزهو الأعظم في الصين الذي بني عام 630، أي أربع سنوات بعد تحويل اتجاه القبلة، كانت اتجاه القبلة فيه نحو البتراء، مسجد الحميمة في جنوبي الأردن، اتجاه القبلة نحو البتراء، مسجد بعلبك الأعظم في لبنان قبلته تشير إلى البتراء، مسجد صنعاء الأعظم الذي بني عام 705م، اتجاه قبلته نحو البتراء، المسجد الأقصى الذي بني عام 709م، نحو البتراء، اتجاه القبلة في الجامع الأموي في دمشق الذي بني عام 709 أيضا يشير نحو البتراء، مسجد الأنجار في بيروت 714، ومسجد عمر في سوريا 720 كلاهما قبلته نحو البتراء.
في عام 727 م، أخيرا في باكستان، مسجد بانبهور يتجه في القبلة إلى مكة، أي بعد 103 أعوام من نزول الآية التي تأمر المسلمين بتغيير اتجاه القبلة من القدس إلى مكة، ورغم ذلك فإن مسجد الشرقي في سوريا الذي بني عاما بعد ذلك، كانت اتجاه القبلة تشير إلى البتراء كما تشير إلى ذلك الأبحاث الأنتروبولوجية على الموقع الأثري للمسجد، مسجد قلعة الرباط في تونس الذي بني عام 770م، هو أيضا تتجه قبلته نحو البتراء، بل تمتد الفترة الزمنية إلى القرن التاسع عندما بني جامع القيروان عام 817، هذا الأخير اتجاه القبلة لم يكن يشير لا إلى البتراء ولا إلى مكة.
والخلاصة، هي أن جميع المساجد التي بنيت بعد وفاة محمد (ص) وحتى بداية القرن الثامن، كانت تتجه بالقبلة إلى البتراء لا إلى مكة، وأن المساجد ظلت مدة مختلفة في اتجاهات القبلة على امتداد رقعة الإسلام ما بين 700م و822م ، ولم تتوحد حول القبلة المكية كليا وبشكل نهائي إلا بعد مضي 200 عام من تاريخ تغيير القبلة، فهل كانت البتراء هي القبلة التي كان يصلي إليها محمد (ص)؟ هل كانت الكعبة الأصلية في البتراء وليس في مكة؟.
قديما، كان هذا العمل يتطلب جهودا مضنية للوصول إلى المواقع الأثرية، والتنقيب في آلاف الكتب والمخطوطات والخرائط القديمة للعثور على تلك المساجد والأبنية الأولى في الإسلام، اليوم يوفر موقع
archnet.org
إمكانية العثور على أي بناء من الأبنية الأثرية لمختلف الحضارات القديمة وأنواع العمارات، إسلامية رومانية قوطية… ويمكن من خلاله جمع تلك المواقع بطريقة كرونولوجية وتحديد الموقع الجغرافي بدقة، ثم ما على الباحث إلا نقل العنوان إلى جوجل ايرث ليعطيه صورة حية، دقيقة وواضحة من الفضاء، تمكنه من رصد اتجاهات القبلة في المساجد المختلفة، ويمكن الاطلاع على الصور الفضائية لتلك المساجد في موقع
indipress.ca.
هناك اعتقاد قوي تعضده القرائن والأدلة الأركيولوجية، ويدعمه التطور العلمي الكبير الذي تشهده مناهج البحث التاريخية مسلحة بالتكنولوجيا الحديثة، يشير إلى أن هناك خطأ تاريخيا وقع فيه المؤرخون المسلمون الذين جاءوا بعد أزيد من 150 عاما من وفاة الرسول عليه السلام، وهناك فترة غامضة في التاريخ الإسلامي تعتبر لغزا معقدا يحتاج إلى تفكيك مضني، يجعل ما تقود إليه الأبحاث الأنتروبولوجية و حجج الأركيولوجيا والوثائق التاريخية وسجلات التجارة القديمة؛ يتصادم مع مدونات التراث تصادما صارخا، وتتضارب فيها الأخبار في السيرة وكتب التاريخ و الحديث بين الوصف والموصوف.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العلم إذا ما توصل إلى المكان الأصلي الذي شهد مهبط الوحي وبعثة الرسول وكان ذلك على خلاف ما قررته الأدبيات الإسلامية، فإن ذلك لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية في حد ذاتها، ولا مع صدق النبوة، لأن الأمر لا يعدو أن يكون خطأ جغرافيا في تحديد الموقع، وتصحيحا للمكان الذي يتوجب على المسلمين الحج إليه، واستقباله في الصلاة، والحق أحق بالاتباع، ولغرابة المفارقة ودلالتها أيضا، نجد أن غياب اسم مكة في كتب التاريخ قبل الإسلام، يقابله غياب اسم البتراء في كتب التراث والتاريخ الإسلامي .
فإذا كانت البتراء هي المكان الذي نزل فيه الوحي والبقعة التي كانت فيها الكعبة أول الأمر، والقبلة التي كان يتوجه إليها المسلمون الأوائل في الصلاة، فلماذا تحولت إلى مكة؟، ما هي الأحداث التاريخية والدوافع الموضوعية التي جعلت المسلمين يتحولون عنها إلى مكان بعيد في الصحراء في المملكة العربية السعودية؟ مكان ليس له ذكر في التواريخ والخرائط القديمة للشرق الأوسط والأدبيات القديمة لدول حوض البحر الأبيض المتوسط؟ كيف حدث ذلك على مرأى من الناس؟ ما هي المدة التي تطلبها تحويل القبلة ليستقر الأمر في النفوس؟ لا بد أن حدثا جللا وقع أدى إلى ذلك التحول العظيم في التاريخ؟
لقد دقق دان غيبسون -المؤرخ الكندي الذي قضى عمره في دراسة تاريخ الجزيرة العربية في كتابه الجغرافيا القرآنية- في الفترة التي تحول فيها اتجاه القبلة من البتراء إلى مكة، فوجد نفسه وجها لوجه مع فترة الحرب الأهلية الثانية ، تلك الحرب بين عبد الله بن الزبير في البتراء -بعد أن ترك المدينة- والأمويين في دمشق، حرب من أجل السلطة حرب من أجل النفوذ حرب من أجل الإمامة العظمى.
نحن الآن في العام 680م، مات معاوية، وخلفه ابنه يزيد في الحكم، كان يزيد فتى ماجنا خليعا، مغرقا في الملذات الحسية، كان يربي قردا ويقيم على معاقرة الخمر ومعاشرة النساء، و اختار مثل سلفه دمشق لتكون عاصمة الخلافة، أما ابن الزبير فقد كان رجلا عقائديا متطرفا يريد أن يقيم حكمه على أساس ديني يستند إلى استخلاف إلاهي في الأرض، وكانت تمثل له المدينة المقدسة بقعة مهمة يمكن من خلالها أن يسمع صوته في أرجاء الشام ومصر والعراق والجزيرة العربية، يمكن أن نصف الصراع في ذلك الوقت بالصراع بين تيارين؛ أحدهما دنيوي/علماني يروم توريث الحكم وإقامة مملكة لا تلتزم بأحكام الدين كثيرا، أو بعبارة تراثية “ملكا عضودا”، و الآخر دوغمائي عقائدي متشبث بإقامة خلافة تخضع لأحكام السماء، أو بعبارة تراثية أيضا؛ “خلافة على منهاج النبوة”.
في عام 683م استغل ابن الزبير عدم رضا الناس عن ممارسات الأمويين في دمشق خصوصا بعد مذبحة الحسين بن علي وأهل بيته في كربلاء(680)م، ثم وفاة يزيد بعد أن قضى ثلاث سنوات في الحكم، وتولي ابنه معاوية بن يزيد الحكم وهو ابن 13 ربيعا، فأعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمؤمنين، لتشتعل الحرب الأهلية الثانية.
تحرك جيش الأمويون من دمشق لقمع تمرد ابن الزبير، ثم فر هذا الأخير من المدينة إلى البتراء تاركا خلفه القوات الأموية تنهب الأموال وتغتصب النساء بقيادة مسلم بن عقبة، ثم تعقبه هذا الأخير بعد 3 أيام إلى البتراء، حاصر الأمويون ابن الزبير في البتراء أربعة وستين يوما تمكنوا خلالها من قصف البيت الحرام بالمنجنيق، واحترقت ثياب الكعبة، ووانصدعت بعض أركانها، لكن المعبد الذي كان مصنوعا من أعواد الخشب ظل قائما.
اضطر المحاصرون إلى فك حصارهم والعودة إلى دمشق بعد أن بلغهم نعي يزيد بن معاوية الذي توفي في أثناء الحصار. في تلك الأثناء ثارت البصرة على والي الأمويين عليها عبيد الله بن زياد قاتل الحسين بن علي، واضطر إلى الفرار إلى دمشق في جنح الظلام، وظهر في الناس من يدعو إلى مبايعة ابن الزبير، فتمددت سلطته لتشمل العراق وإيران، وتمكن من استعادة المدينة المنورة حيث ولى عليها أخاه عبيدة بن الزبير،في هذه الفترة انشغل بنو أمية في الشام بالصراعات الداخلية بين أفراد العائلة، أدت إلى اغتيال معاوية بن يزيد ذو 13 ربيعا بعد مبايعته 40 يوما، ثم اغتيال خليفته مروان بن الحكم على يد زوجته أم معاوية؛ زوجة يزيد السابقة.
ولقصة قتل مروان حكاية لابأس من ذكرها هنا لأنها تحمل دلالات الحياة الخلقية للمجتمع الإسلامي في ذلك العصر الذي يعتبره الناس اليوم نموذجا للمجتمع الاسلامي الفاضل والجيل المثالي من السلف الصالح، فعندما مات معاوية بن يزيد كانت الخلافة سوف تأوُّل إلى أخيه خالد بن يزيد، لكن مروان الذي كان متشوفا للحكم تزوج أم خالد زوجة يزيد السابقة حتى يصغر خالد في أعين الناس، فلا يطلب هذا الأخير الخلافة، ويحكي الطبري أن خالدا دخل “يَوْمًا عَلَى مَرْوَان وعنده جماعة كثيرة، وَهُوَ يمشي بين الصفين، فَقَالَ: وَاللَّهِ [إنه] لأحمق، تعال يا بن الرطبة الإسْت(المؤخرة)- يقصر بِهِ ليسقطه من أعين أهل الشام- فرجع إِلَى أمه فأخبرها، فَقَالَتْ لَهُ أمه: لا يعرفن ذَلِكَ مِنْكَ، واسكت فإني أكفيكه، فدخل عَلَيْهَا مَرْوَان، فَقَالَ لها:
-هل قَالَ لك خَالِد فِيّ شَيْئًا؟
فَقَالَتْ:
– وخالد يقول فيك شَيْئًا! خَالِد أشد لك إعظاما من أن يقول فيك شَيْئًا…
فصدقها، ثُمَّ مكثت أياما، ثُمَّ إن مَرْوَان نام عندها، فغطته بالوسادة حَتَّى قتلته”.
بعد أن تولى عبد الملك بن مروان عام 686م الحكم في دمشق، كانت رقعة الإسلام تتناهبها الفرق والأحزاب والثورات من أطرافها، سيطر الأمويون على بلاد الشام ومصر وشمال الجزيرة العربية وأطراف من العراق، وحكم ابن الزبير مدينة البتراء حيث بيت الله والمدينة المنورة والكوفة والبصرة إلى خراسان، لكن العراق لم يخلص لأي منهما، ظهرت فرقة التوابين التي طالبت بدم الحسين وتنادت لأول مرة بثاراته على يد سليمان بن صرد، وخاضت معركة طاحنة مع الأمويين في موقعة عين الوردة في العراق، وقاتلت الأزارقة والخوارج قوات ابن الزبير، إضافة إلى ظهور المختار الذي ادعى النبوة وكان له كرسي مقدس يخرج به في حروبه.
أما الجيوش المرابطة في الثغور فلم تكن مشغولة إلا بالفتح وحده، تقف اليوم لتمضي غدا، و تعمل على إقرار النظام في ما أكلته من أراضي الإمبراطوريتين المتهدمتين البيزنطية والساسانية، ورغم الصراعات الداخلية في الدولة الإسلامية الفتية بين مختلف مكوناتها؛ فقد كانت الرغبة في اكتساح العالم وبناء امبراطورية شاسعة لا تغيب عنها الشمس، رغبة مشتركة بين كل تلك العناصر المتصارعة على الخلافة، فإن الأمويين كانوا يخوضون حروبهم ضد دولة جاستينيان الرومانية المتراجعة في لبنان وآسيا الصغرى وأذربيجان وأرمينيا، كما ظل ابن الزبير يوفد بعوثه وولاته إلى خراسان والأهواز، وكانت فلول الخوراج والأزارقة المنهزمة في معاركها ضد ابن الزبير وبني أمية تتجه إلى الثغور للمشاركة في الغزو وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، كانت تلك الأحزاب والطوائف والأهواء تتوحد لحمتها وتجتمع كلمتها كلما ابتعدت عن جغرافية الصراع الإسلامي- الإسلامي، واتجهت نحو المواقع التي يكون فيها القتال واضحا بين العرب وغير العرب.
في تلك المرحلة التي انشغل فيها بنو أمية باسترجاع ما ضاع منهم من الأراضي العراقية على إثر موت يزيد وسقوط بيعته فيها، بعد أن ثار أهالي الكوفة والبصرة على عمال وولاة الأمويين، وفرار والي البصرة عبيد الله بن زياد منها، وثورة الطوائف الشيعية والخارجية إضافة إلى تمدد الزبيريين في المدن العراقية-كان ابن الزبير في البتراء قد هدم الكعبة تماما وسواها بالأرض، ففي سنة 683م كما يذكر ذلك الطبري في تاريخه في أحداث سنة 64 للهجرة، “هدم ابن الزُّبَيْر البيت حَتَّى سواه بالأرض(…) وجعل الركن(الحجر) الأسود عنده فِي تابوت فِي سرقة من حرير، وجعل مَا كَانَ من حلي البيت وما وجد فِيهِ من ثياب أو طيب عِنْدَ الحجبة فِي خزانة البيت، حَتَّى أعادها لما أعاد بناءه”.
في هذه اللحظة بالذات، كان ابن الزبير قد اختار بقعة استراتيجية بعيدة عن طَوْل الأمويين في دمشق الذين يبعدون عن البتراء زهاء 435 ميلا، فقد كان يدرك ألا محالة سوف يعودون إليه، فكان لابد له من مكان أكثر حصانة من البتراء وأبعد مسافة أيضا، وبما أن دعوته كانت دعوة دينية عقائدية فقد كان يتوجب عليه ألا يفقد ميزة سيطرته على الحرم التي جعلت صوته يسمِّع بعيدا، ومكنته من منافسة بني أمية على الحكم، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن يأخذ معه الكعبة إلى الوجهة التي اختارها، كما أنه لا يمكنه أن يتركها إلى بني أمية فيفقد أهم دعامة جعلت الناس يلتفون حوله وهذا ما جعله يهدمها.
لكنه كان يملك شيئا مقدسا ساحرا وثمينا، يمكنه أن يضفي الشرعية والقداسة على أي بيت يبنيه إذا ما كانت جزءا من بنائه وركنا في أساسه، لقد كان يملك الحجر الأسود؛ قطعة من الجنة في الأرض، و الذي من دونه لا يكون البيت الحرام بيتا حراما بالفعل، لأن الحجر هو الشيء المادي الوحيد الذي تبقى من عبق القداسة بعد تسوية الكعبة بالأرض، ومحو كل أثر لها، وفي كتب الحديث والفقه والتاريخ ما يشير إلى عظمة هذا الحجر ومكانته، يقول عبد الله بن العباس: “ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنها جوهرتان من جوهر الجنة، ولولا من مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله”، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص:” الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب”… و قد أشار صاحب الموسوعة البيزنطية سودا ليكسيكون
Suda lexicon
إلى مركزية هذا الحجر في العالم المتوسطي القديم، لكنه ذكر أن مكان ذلك الحجر في البتراء.
لم يكن بناء كعبة أخرى أمرا عسيرا أو منكرا، لأن أخبار قصف الأمويين للكعبة بالمنجنيق حتى مالت عيدانها و تصدعت جدرانها الخشبية كان قد بلغ أهل العراق وغيره وانتشر بين الناس، وكانت الخوراج تعير به جنود بني أمية عند القتال، كما أن كون الكعبة هيكلا من الخشب والعيدان بلا أساس ولا حجر، يسر على ابن الزبير طمسه وتسويته بالأرض، لكنه عندما بنى الكعبة في مكة قرر بناءها هذه المرة بالحجر وحفر أساساتها حتى تصمد أمام أي محاولة لحرقها أو هدمها، قال الطبري راويا عن ابن الزبير في أحداث عام 65ه/684م:” إِنَّ أُمِّي أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حدثتني ان رسول الله ص قَالَ لِعَائِشَةَ: [لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ رَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحُفِرَ،]”، وقال في موضع آخر: “وحفر أساسه وأدخل الحجر فِيهِ”.
في عام 689م كان ابن الزبير قد بدأ في إفراغ البتراء من الأهالي وتهجيرهم مع الجيش نحو المدينة المقدسة الجديدة، هذه الهجرة الجماعية من البتراء إلى مكة اختفت من كتب التاريخ وطالتها يد الرقيب في زمن العباسيين الذين كان يهمهم أن يختفي كل أثر أدبي وتاريخي يدل على البتراء لأسباب سوف نأتي إليها، ومن الغريب والملفت في آن؛ أن الطبري الذي كان يعقد أكثر من فصلين من عشرات الصفحات لكل سنة من السنوات في تاريخه، جاء إلى سنة 70ه/689م، ولم يذكر عنها من أحداث سوى خبرين من سطرين أحدهما عن مصالحة عبد الملك لملك الرومان، والآخر عن قدوم مصعب بن الزبير إلى أخيه.
لكن هذا الخبر القصير أو جذاذة خبر بالأحرى، تحمل في طياتها دلالات على تلك الهجرة الجماعية من البتراء إلى مكة، يقول الطبري: “وفيها شخص- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر-مصعب بن الزبير إلى “مكة”(البتراء) فقدمها بأموال عظيمة، فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال.” لم يأت مصعب بالجنود ولا بالسلاح رغم أنه الأمر المنطقي في حالة بلدة تترقب الحصار في أي لحظة من جيش عبد الملك، لكنه في المقابل أتى بدواب كثيرة وظهر (أي ما تحمل عليه الأمتعة) وأثقال (وهي المؤن التي يتزود بها للسفر الطويل)، إنها الدواب والرِّكَاب والمطايا التي استخدمت في تلك الهجرة الجماعية إلى مكة، والتي من دونها تتقطع بالأهالي والجموع سبل بلوغ مقصدهم، لأن المسافة بين البتراء ومكة لا تقل عن 1000 ميل.
خلال تلك السنوات من 683م إلى 692م، كان هناك حجان أحدهما إلى البتراء والآخر إلى مكة، كان ابن الزبير هو من يحج بالناس في البتراء، لكنه بعد انتقاله إلى مكة أصبح ولاة بني أمية يحجون بالناس في البتراء، وإن كان حجهم منقوصا لأن ابن الزبير كان قد هدم الكعبة وحمل معه الحجر الأسود، ولذلك نجد الطبري يورد أخبارا متعددة عن حجين في سنة واحدة حج الأمويين إلى البتراء وحج أنصار ابن الزبير إلى مكة خصوصا أهل العراق، ويذكر أن بعض ولاة بني أمية كان يحجون بالناس لكنهم لا يطوفون بالبيت، كما أن فقدان الحجر الأسود يجعل إعادة بناء كعبة في البتراء أمرا شبه مستحيل، لأن الحجر الأسود كان مع ابن الزبير وقد أدخله في بناء كعبته الجديدة في مكة كما سبق الإشارة إلى ذلك.
ففي الوقت الذي يذكر فيه الطبري أخبار حصار مكة الأخير(دام زهاء 8 أشهر) الذي سوف يشهد نهاية عبد الله بن الزبير على يد الحجاج عام 692م، فإنه يورد خبرا ظاهره التناقض إذا قرأنا التاريخ حسب الرواية التقليدية، لكنه يتكامل مع الرأي الذي يؤكد تغيير الحرم من البتراء إلى الكعبة، ففي نفس العام (691م) الذي يحج بالناس ابن الزبير وهو محاصر في مكة، يحج بالناس الحجاج بن يوسف في البتراء “وحج الحجاج بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور (في مكة)” (الطبري أحداث عام 72ه)، لكن الطبري يخبرنا بأن الحجاج لم يطف بالكعبة رغم حجه بالناس، وما ذلك إلا لأنها لم يعد لها وجود بعد أن سواها ابن الزبير بالأرض ، في حين يمتنع أحد سفراء عبد الملك هو طارق بن عمرو إلى ابن الزبير وأهل مكة عن الحج وأداء المناسك، بل و يخالف القواعد العامة التي يتحلى بها من دخل المسجد الحرام مثل التخلي عن السلاح، كما أنه لم يطف بالبيت ولم يصل إليه.
في حين يورد الطبري خبرا عن بجير بن عبدالله المسلي يخاطب فيه ابن الزبير ويستشفعه في العفو عنه وعن أصحابه في الكوفة؛ بكونه يتبع نفس القبلة التي يستقبلها ابن الزبير: “يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم،(…)، فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا” الطبري أحداث عام67ه.، فَلَو كانت قبلة ابن الزبير هي قبلة المسلمين جميعهم، لما كان لهذه العبارة(أهل قبلتكم) من معنى.
لقد ظل هذا الإشكال مطروحا طيلة فترة حكم بني أمية التي بلغت ثمانين عاما، ورغم مقتل ابن الزبير واجتياح عبد الملك للعراق وقتله مصعبا شقيق عبد الله بن الزبير وواليه عليها، وسقوط الكوفة والبصرة وخراسان وفارس بيد الأمويين، فإن ذلك لم يثن الزبيريين و شيعة أهل البيت من أنصار محمد بن الحنفية وَعَبد الله بن عباس من التوجه في صلاتهم تلقاء البلدة التي اختارها ابن الزبير، والتي باتت تضم الهيكل الذي أدخل فيه الحجر الأسود، بدلا عن القبلة التي يستقبلها أعدائهم و قاتلوا حفيد الرسول من بني أمية.
لقد كان الصراع بين الفرق الكبرى يكتسي أبعادا مختلفة سياسية ودينية وعرقية، و ما انفكت الساحة تشهد اقتتالا محموما ومتشابكا بين أربعة تيارات تتنازعها أهواء السياسة وأهواء الطائفية وأهواء القبلية أيضا، بنو أمية، والزبيريون، والخوارج، والشيعة، إضافة إلى أهالي البلاد المغلوبة مثل الفرس والترك والديلم الذين كانوا سادة في بلادهم قبل أن يجردهم الأمويون من حريتهم وأموالهم ويصيرونهم عبيدا وموالي، وتفرض عليهم الجزية والإتاوة، فكانوا عادة ما ينضمون إلى الثورات الشيعية والخارجية التي تعادي السلطة المركزية في دمشق، وكانوا أول من ناصر دعوة المختار بن أبي عبيد وإبراهيم الأشتر ثم دعوة آل العباس التي قضت على حكم بني أمية.
لقد استثب الحكم نوعا ما في الفترة التي حكم فيها عبد الملك بن مروان بعد أن انتصر على الزبيريين وهزم ثورات الخوارج وبايعه أهل الكوفة والبصرة، وكان أقوى حكام الدولة الأموية على الإطلاق، لكنه مع ذلك فشل في توحيد القبلة وظلت المساجد تبنى بعضها يستقبل مكة وبعضها يستقبل البتراء كما سبق وذكرنا، وظل الحجاج يختلفون إلى البقعتين كل حسب اجتهاده، وكان السؤال ملحا: هل البقعة الأولى أولى أم الثانية التي فيها الحجر الأسود؟، بل إن بعضهم اختار الحج إلى المدينتين معا في سنة واحدة حتى يدرأ الشك، كما حدث مع أبان بن عثمان عام 698م، يقول الطبري في أحداث سنة 76ه:” حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين”، بل إن هناك أعواما لم يسجل فيها أي ذكر للحج على الإطلاق في التراث الإسلامي، وهي السنوات بين 83ه و87ه.
و إن كان الخلاف حول القبلة تشوبه آثار الصراع السياسي، فإن الشرعية الدينية كانت الهاجس الأول للمختلفين والمجتهدين في ذلك،لأن بلاطا ومسجدا للأمويين بني عام 701ه في عمان الأردن، كانت قبلته نحو مكة، وهذا البناء هو من أوائل الأبنية التي حصرها الأركيولوجيون التي تتجه إلى القبلة الجديدة(مكة)، وهذا إن دلنا على شيء فهو يدل على الحيرة و التذبذب الذي طبع تلك المرحلة حتى بين الأمويون أنفسهم، الذين لم يتخذوا أي إجراءات عقابية أو زجرية للمختلفين على القبلة، وتركوا الأمر عشواء خاضعا لتقديرات الناس.
وكما أشرنا من قبل فإن مرحلة التذبذب والحيرة هاته لم تنته تماما إلا في القرن التاسع، حيث تمكن العباسيون الذين أطاحوا بحكم بني أمية من حسم الأمر تماما وتوحيد القبلة نحو الكعبة، ومحو أي أثر أدبي للبتراء في كتب التراث ونحله في المقابل إلى مكة، وقد ساعدهم على ذلك الزلزال التاريخي عام 712 الذي ضرب البتراء ودمر جل ملامحها، والزلزال الآخر الذي هز الأردن وسوريا عام 745م وجعل التركيز يتجه نحو مكة وفقدان أي أمل لدى الأمويين لإعادة الحجر الأسود إلى البتراء.
مع الأخذ في الاعتبار الدلالات الدينية والاجتماعية للظواهر الطبيعية العنيفة مثل الزلازل في مخيال العامة، الذي عادة ما يرتبط بسخط الله على المكان الذي يحدث فيه زلزال ما، إضافة إلى ما كان قد أذاعه ابن الزبير في الناس وهو يحفر أساسات الكعبة الجديدة في (مكة) أنه وجد في أرضيتها حَجَر إبراهيم الذي بنى به أساس البيت الحرام أول مرة، وقد نقل روايته الطبري في أحداث سنة 65ه: يَقُولُ: إِنَّ أُمِّي أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حدثتني ان رسول الله ص قَالَ لِعَائِشَةَ: [لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ رَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحُفِرَ،] فَوَجَدُوا قِلاعًا أَمْثَالَ الإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً، فَبَرَقَتْ بَارِقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا، فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: يَدْخُلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُ مِنَ الآخَرِ.”
ورغم ذلك فإن العصر العباسي شهد ميلاد حركة تصحيحية تعاملت بطريقتها مع هذا الخطأ التاريخي، ولكن بدل أن يكون التصحيح بسن القلم كان بذؤابة السيف، فقد نشأت في القرن العاشر فرقة القرامطة الذين اتخذوا من مدينة هجر في البحرين عاصمة لهم، و كانت الفرقة تنكر على المسلمين توجههم بالقبلة شطر مكة والحج إليها، وكان القرامطة يصلون نحو شمال الجزيرة جهة البتراء، وما انفكوا يعترضون سبيل الحجاج وينهبون قوافلهم ويقتلونهم ويسبون النساء لمنع المسلمين من الحج إلى مكة، ولقد عانى خلفاء بني العباس من ثوراتهم التي كانت تصل إلى شن حملات على حواضر الدولة مثل الكوفة والبصرة وبغداد ودمشق، بل إنهم تمكنوا في عام 929م من دخول مكة واستباحة الحرم واقتلاع الحجر الأسود وحمله إلى منطقة الأحساء التي كانوا يسيطرون عليها، ولم يتمكن العباسيون من استرداده إلا بعد مفاوضات دامت21 عاما.
يقول ابن الأثير في تاريخه: “حجّ بالناس في هذه السنة منصور الديلميُّ، وسار بهم من بغداد إلى مكّة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطيُّ بمكّة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجّاج، وقتلوهم حتّى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود ونفّذه إلى هَجَر، فخرج إليه ابن محلب، أمير مكّة، في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفّعهم، فقاتلوه، فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قُتلوا بغير كفن، ولا غسل، ولا صُلّي على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكّة”.
ولقد دفع العباسيون عام950 مبلغا كبيرا من المال لاسترداد الحجر الأسود، وظل الحج متوقفا طيلة 3 سنوات التي تلت سلب الحجر، وكانت أزمة حقيقية في الإسلام، قال القلقشندي في صبح الأعشى:” وتعطل الحج من العراق إلى أن ولي الخلافة القاهر في سنة عشرين وثلثمائة فحج بالناس أميره في تلك السنة”، وعندما استلموا الحجر كان مهشما ومفتتا.
لقد أشار المؤرخون إلى وقائع عديدة شهدت حرق آلاف الكتب والمخطوطات وساهمت في محو جزء كبير من ذاكرة الإسلام، بل إن إتلاف الكتب وإعدامها كان قد عرف بداية مبكرة مع حرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية واستعمال الكتب في تدفئة حمامات المدينة لمدة ستة أشهر، و حرق سعد بن أبي وقاص التراث الأديي للفرس وإلقاء كتبهم في الماء والنار، وهو سلوك كان شائعا بين الأمم المتغلبة تجاه الأمم المغلوبة، وقد تحدث عن ذلك غير واحد من المؤرخين المسلمين مثل القفطي وابن خلدون في المقدمة والمقريزي في الخطط، إضافة إلى مصادرة خلفاء بني العباس أي انتاج أدبي يذكر الأجيال التي جاءت بعد أكثر من قرنين من تلك الحوادث بتلك الفترة، أو يتبنى خطابا مخالفا للرواية العباسية الرسمية.
وقد لاحقت السلطات العباسية كثيرا من الكتاب والمؤلفين الذين خرجوا عن طريقة كتاب بني العباس في التأليف وأعدمت كتبهم، بل وألبت عليهم كتاب ومثقفي وفقهاء العصر العباسي على امتداد القرون للنيل من سمعتهم ورميهم بالكفر والزندقة والتجديف، مثل ما حصل مع العالم المتكلم أبي الحسن ابن الراوندي في القرن التاسع الذي صلبه أحد حكام بني العباس ومُحي كل أثر لكتبه ومؤلفاته التي فاقت 100 مؤلف؛ لأنه تجرأ على أمور ما كان ينبغي له أن يتكلم بها، وهذا ما يفسر غياب الإنتاج الأدبي والتاريخي لفجر الإسلام وبداياته، رغم توفر وسائل الكتابة وتطور صناعة الورق وتوافر المؤلفين، ولم يحكيها لنا إلا جيل من الكتاب جاءوا بعد وفاة الرسول بزهاء قرنين.
فقد تأخر ظهور كتب السيرة النبوية والمدونات الحديثية والتاريخ الإسلامي حتى بداية القرن التاسع مع لفيف من كتاب ومفكري الدولة العباسية، فظهرت سيرة ابن هشام- التي اقتطعها ابن هشام من كتاب (سيرة رسول الله) لأستاذه ابن إسحاق، وحذف منها كل ما طلبت السلطات العباسية حذفه، كما اعترف بذلك هو نفسه في مقدمة السيرة، وبعدها ظهرت كتب الحديث والسنن والمسانيد، كالبخاري الذي جمع أكثر من 300 ألف حديث ولم يدون منها في صحيحه إلا2,602 دون المكرر، ثم كتب التفسير والتاريخ لمؤلفين مثل الطبري والواقدي و وياقوت… الذين كيفوا الروايات والأحداث بل و الجغرافيا أيضا مع ما يوافق إديولوجية العباسيين،وكان ذلك كله بعد مضي زهاء 200 عام من وفاة الرسول.
بل إن تلك الكتب التراثية نفسها تعرضت للتحرير والتعقب وحذف فصول بأكملها من الذين نسخوا أصولها بعدهم، ولازالت إلى اليوم مخطوطات ومؤلفات لا يمكن النفاذ إليها بسبب الحظر الذي تفرضه بعض الحكومات في الدول الإسلامية، لقد محيت أجزاء مهمة من ذاكرة الإسلام الأولى، ووقع المسلمون ضحية مؤامرة العباسيين الذين أتاح لهم ذلك الفراغ الأدبي والتاريخي من ناحية انعدام المؤلفات المعارضة لروايتهم، وتلك الفجوة الهائلة التي اتسعت لقرنين؛ أن يملؤوها بما وافقهم من روايات و مفاهيم وأفكار مهما كانت بعيدة عن الإسلام.
وما قصة البتراء إلا صورة من صور التحريف الذي طال التاريخ الإسلامي في جوانب كثيرة، و غدت تلك التحريفات -مع الزمن الذي نحتها في النفوس نحتا، والمحاريب التي صقلتها على امتداد القرون صقلا- مسلمات وبديهيات لا تقبل الجدال والرد، وأصبح الاقتراب منها أو محاولة النظر فيها وتقليبها؛ يعتبر عند كثير من المسلمين زيغا في العقيدة أو لوثة في العقل أو محاولة مغرضة للنيل من الإسلام، ومهما حاول المرء أن يبرأ نفسه من أي من تلك التهم؛ فإنه يجد نفسه في نهاية المطاف غرضا لسهام التخوين والتسفيه، وفِي أحيان كثيرة يلقى به خارج بيضة الدين مهدور الدم أو مسلوب الحرية، وفِي هذا يقول المعري :” وحق لمثلي أن لا يُسأل، فإن سئل تعين عليه ألا يجيب، فإن أجاب ففرض على السامع ألا يسمع منه، فإن خالف باستماعه ففريضة ألا يكتب ما يقول، فإن كتبه فواجب ألا ينظر فيه، فإن نظر فقد خبط خبط عشواء.”
طه لمخير