كي لا تذهب الثورة أدراج الرياح، بعد التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب على طريق حريته، من المحتم العمل من اجل ان يستعيد حراكه سماته الأصلية، وان يبذل جهداً وطنياً منظماً وموحداً يوطد من جديد هويته كحراك هدفه نيل الحرية لشعب واحد ودولة سيدة موحدة، وبناء نظام ديموقراطي لحمته وسداه الإنسان كمخلوق حر، يتعين بالحرية وحدها وله الحق في أن ينعم بالعدالة والمساواة والكرامة.
وبما أن هذه الاستعادة ليست مسألة كلامية، كما يعتقد فرسان الحكي من السوريين وهم أكثر من الهم على القلب، فإن حاجتنا صارت شديدة إلى نهج عملي يعيد مياه الثورة إلى مجاريها الأولى، ويكون ملزماً لعدد كبير من الفصائل المعارضة، او محل إجماع المعارضة بوجه عام، ليؤدي إلى ما يُراد لها من وحدة في خطابها ومواقفها وآليات عملها، من دون أن ننسى أن وحدتها كفصائل لن تكون مؤثرة إذا لم تقترن بوحدة الأرض، وحدة الحراك الشعبي/ المدني، الذي صنع الثورة وحملها، وتاه كثير من المنخرطين فيه عن أهدافها خلال المرحلة الماضية، ليس بسبب فقدانهم الإيمان بالحرية كمبدأ أسمى لحراكهم، بل لانهم انتموا – مكرهين معظم الاحيان – إلى منظمات لا تعطيها الاولوية في عملها، ولا ترى في السلمية نمط النضال الرئيس الذي يتفق معها، وفي المقاومة المسلحة – وهي عندي نقيض العسكرة – معادلها الموضوعي الذي ترتب بصورة حتمية على عنف السلطة، فلا معنى لوحدة فصائل المعارضة من دون استعادة هؤلاء إلى ثورة الحرية هدفها وسبيلها وأداتها، بعد أن كان جلياً خلال الاعوام الماضية أن غياب – وبالأحرى تغييب – هذا الحامل المجتمعي / المدني الحرّ عن ساحة العمل العام لعب دوراً مهماً في الفوضى التي سادت الساحتين السياسية والعسكرية، وفي إطالة عمر النظام وتمكينه من العيش على هوامش تكتيكية ضيقة وتفتقر لأي بعد استراتيجي يؤطرها ويفعّلها.
هل يفهم من هذا الكلام أن وحدة المعارضة الفوقية، او الحزبية، لن تكون مؤثرة وحاسمة من دون وحدة المعارضة التحتية، الحراكية والمدنية، التي لا مفر من ان تكون حاملها الفاعل، كي تكون هي نفسها فاعلة؟ نعم، هذا هو مؤدّى ما أقوله: تشبه معارضتنا اليوم شخصاً يحرّك جسده كثيراً لكنه يبقى في مكانه، لأن أقدامه لا تصل إلى الأرض، وتشبه شخصاً في قفص لا يتوقف طيلة ليله ونهاره عن الحركة، لكنه يبقى أسير أمتار القفص المربعة القليلة. والسبب، واقعة فائقة الخطورة عرفتها خلال مفاوضات توسعة «الائتلاف»، هي أن معارضتنا محشورة بين سقفين: سياسي فوقي تشغله الدول، عربية وغير عربية، وعسكري تحتي تحتله تكوينات كثيرة معظم المقرّرين فيها من غير السوريين. وأن هذين السقفين عازلان وليسا متصلين بالحامل المجتمعي للثورة، كما لا يقفان على ارضيته، وأنهما يفرضان خيارات معينة على المعارضة الحزبية ـ فوق ـ والمجتمعية ـ تحت، علما بأن اختراق هذين السقفين هو في الحقيقة والواقع معنى وجوهر العمل الوطني اليوم وإلى مستقبل بعيد، كما وأن وحدة المعارضة الحزبية والمجتمعية مستحيلة من دون اختراق كهذا، بما أن السقفين يكونان سورين يفصلانهما ويمكنان الدول العربية والإقليمية والأجنبية من تحديد نمط حركتهما والتحكم فيهما: فوق بالمال والضغوط والإغراءات، وتحت بالعسكرة والأجواء والإجراءات التي تشجع على تخلق وبروز أمراء حرب لا وطن لهم، يرتبطون بمن يدفع لهم أكثر، بغض النظر عن هويته ومآربه الخاصة.
هذان السقفان يفضيان إلى:
– تورط المعارضة في خيارات لا علاقة لها بمصالح سوريا الوطنية وأهداف شعبها الثائر، وتكوّن أنماط من العمل العام تعبّر عن غربة المعارضة الحزبية والحراك عن الحرية كهدف أصلي للثورة، تحوّلهما إلى ما يشبه دولاباً يدور في فراغ، يستنزف دورانه المتزايد التسارع طاقاتهما ويحول دون اقترابهما من غايتهما، التي تبتعد عن ممكناتهما، وتغدو سراباً قد يخدع الأبصار، لكنه لا يروي من ظمأ.
– تبدل معنى السياسة وانقلابها من رؤى نظرية وممارسات عملية تلتزم بالمصالح العليا للدولة والمجتمع، إلى حراك بلا هدف غير إثارة خلافات وصراعات تتراكم يومياً وتمعن في تمزيق معارضتها فوق، وتشتيت حاملها المدني/ المجتمعي المفترض تحت، وتنقلب من أنشطة هادفة لها غايات ومقاصد جلية ومعلنة إلى سعار كلامي وشعاراتي يستهلك جهود وطاقات المنخرطين فيه، الذين ما أن يغوصوا في لجته حتى يجدوا أنفسهم عاجزين أكثر فأكثر عن الخروج منها، رغم أنهم يتوهمون أن ورطتهم هي إسهامهم في العمل الوطني، وحصتهم من الصراع في سبيل بلوغ الخط السياسي الأكثر خدمة له.
لا مفر من اختراق هذين السقفين، السياسي والعسكري، للانتقال إلى وضع يمكن فيه صنع سياسة حرة ومستقلة، لا يمليها وضع قاتل او طرف غريب، لا تضعف او تمزق الصف الخاص إن هي اختارت أن لا تضعفه او تمزقه. نحن اليوم في حال يستحيل معها العمل السياسي الحر وبالتالي المستقل، لكوننا مدفونين بين حدين لا يتيحان لنا فرص الحركة الذاتية والحرة، ناهيك عن كونها مستقلة أو غير مستقلة، ومن لا يستطيع ممارسة السياسة كنظرية مطابقة للواقع تملي عليه ممارسات تتفق وحاجاته، لا يكون، بالضرورة والقطع، قادراً على التعبير عن مصالح وطنه وشعبه.
هل تستطيع المعارضة إنجاز هذه المهمة؟ أعتقد أن إنجازها يلزمها بوعي وجود السقفين وما يترتب عليهما من ممارسات لا وطنية أولاً، وبالإقرار بحاجتها إلى الخروج من أسرهما السياسي والعسكري الذي يخنقها ويقوض طاقاتها ويوجه ما بقي لديها منها إلى غير الوجهة التي كان يجب أن توظف فيها. وعلى المعارضة الاعتراف بأن خروجها من الاسر محال بقدرات أي فصيل منفرد من فصائلها، وأن وحدة وتكامل مواقفها وجهودها مصلحة وطنية عليا لا تعلو عليها اليوم أية مصلحة أخرى، ان صراعات القوى التي تفرض السقفين وتحرسهما، وتخشى أن تتصارع بصورة مباشرة، وتنقل صراعها إلى وطننا، لتقتتل وتتحارب بواسطة سوريات وسوريين لا ناقة لهم ولا جمل في عداواتها، لكنهم صاروا وقوداً رخيصاً لمدافعها وأكباش فداء لمواطنيها، الذين كانوا سيموتون بعشرات الآلاف لو قيض لقتالها أن يكون مباشراً، وكان اولي الأمر في المعارضة السورية على وعي بما خطط لبلدهم، أو لو امتلكوا الجرأة على مقاومة فرض السقفين على مواطنيهم المظلومين، واتحدوا وجعلوا الحوار في ما بينهم مبدأهم الأعلى، واستعاضوا به عن سياسات الإقصاء والتخوين والسعي الى الانفراد بالشأن السياسي، والاستعانة بالدول التي فرضتهما وسجنت جميع السوريين من دون اي استثناء بين جدرانهما الخانقة، بتسهيل جلي من النظام، الذي بادر إلى استخدام العنف ضد مختلف قطاعات ومكونات مجاله الداخلي.
ليس هذا الوعي متوفراً اليوم، وليست الحاجة إلى الخروج من تحت السقفين شأناً وطنياً يتخطى حكماً الحزبية والفئوية. وليست الوطنية جامعة تتجاوز في اهميتها اي انتماء سياسي ادنى أو ارتباط مذهبي جزئي. وليس الانفكاك عن الدول الحارسة للسقفين بمالها وأمراء حربها ضرورة استراتيجية راهنة بعد، وليس قوياً ومنتشراً الاقتناع بأهمية وحتمية رؤية سوريا بدلالتها الوطنية الذاتية بدل رؤيتها بدلالة الآخرين وبأعين الدول التي تشارك نظامها في تدميرها وتسهم معه في قتلها وازهاق روح شعبها ومجتمعها والقضاء على دولتها.
هذه معركة الوطنية السورية، التي سيخوضها من الآن فصاعداً التيار الديموقراطي الذي انتسب إلى «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، بأمل إحداث تبدل في سياساته التي مثلت نموذجاً حياً لنجاح عمل السقفين، وصار من الضروري مبارحتها بإرادة مكوناته الوطنية جميعها، بعد أن يقدم التيار لها خطة توافقية تغطي المرحلة القادمة، تتعاون على تحقيقها بعد مناقشتها وإقرارها، بعيداً عن أي ولاء جزئي وأي ركض وراء المناصب والوجاهات، سيتوقف نجاحها على اتحاد إرادات المعارضين وامتلاك مقومات مادية مستقلة تعينهم على ترجمتها إلى حقائق ملموسة.
* نقلا عن “السفير” اللبنانية