مجازر يومية متنقلة!

الشرق الاوسط

لا ينقطع حبل المجازر التي ترتكب في سوريا. ولا ينقطع شلال الدم الذي يجري من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب: ضحايا الوحشية المنفلتة من عقالها التي تعصف بهم وتودي بحياتهم.

البارحة، قرية البياضة بشهدائها السبعمائة، وقبلها بأيام جديدة الفضل بخمسمائة شهيد، وقبلها بأيام وأسابيع سراقب وداريا والمعضمية والعتيبة وسقبا وحرستا والرقة واليعربية والحولة والتليمسة، وحبل من أسماء القرى والبلدات والمدن والأحياء والبيوت. هل صار الموت حدثا عاديا يحلو لنا التفكه بسيرته، وصرنا عديمي الإحساس والضمير حياله، إلى الحد الذي يجعلنا نفقد إحساسنا بالرهبة حياله، مع أننا كنا إلى الأمس القريب نبكي دما ودموعا عندما يموت لنا قريب أو صديق، وغدونا اليوم متفرجين باردي العواطف والقلوب على مجازر مروعة، يقتل فيها مواطنات ومواطنون قد لا نعرفهم، لكننا نعرف من تعاقب مسلسل القتل أن موتهم هو مقدمة وبداية موتنا، وأنهم هم السابقون ونحن اللاحقون بمعنى الكلمة الحرفي، وأن شارع الموت الذي أخذهم بلا نهاية، وأن من يدخل إليه لا يخرج منه، لمجرد أن دوره في القتل لم يأت بعد.

في النظم الوطنية، لا يتم الإقرار بارتكاب جرائم علنية وجماعية، لأن منطق الشرعية الحكومية يقول: الشعب معنا، فإن ارتكبنا جرائم ضده، كما يحدث في أحيان كثيرة، كان علينا إبقاؤها سرية وإنكار طابعها الجماعي، في حال وصلت أخبارها إلى أسماع الناس. أما في نظام الأسد الذي يعتبر نفسه مساويا للوطنية، فالقتل علني وجماعي، وهو يستخدمه لإثبات شرعيته وحبه لشعبه، لمن يقتلهم، وحجته الدائمة: حمايتهم من مخاطر؛ هي مرة الأصولية، وأخرى إيمانهم الخاطئ بأديانهم، وفي جميع الحالات خروجهم على الوطنية كما تتجسد في السيد الرئيس وتتماهى معه. لم يرتكب النظام جريمة واحدة حرص على إخفائها أو على جعلها لا تبدو كعقاب جماعي. لا يمارس النظام العقوبة بوصفها مسألة شخصية، ولا يستهدف بها أشخاص مرتكبي الجرائم أنفسهم، بل يمارس دوما العقاب الجماعي، في إقرار صريح بأنه لا يطيق وجود شعبه، وأن الموتى هم أحسن المواطنين. إلى هذا، إنه لا يمارس السرية في القتل، لذلك رأى العالم آلاف أفلام الفيديو على الـ«يوتيوب»، التي وزعها القتلة ممن نفذوا عمليات الإبادة، كأنه يتفاخر بما يرتكبون من جرائم تقشعر لهولها الولدان، أو يريد إيهام الشعب أنه نظام قاتل، كي لا يغلط ويفهمه على غير ما هو عليه، ويطالبه بما لا يطيق من رحمة أو إنسانية أو تعامل قانوني وشرعي معه، أو من احترام حقوقه وصيانة حياته ووجوده.

هذه العقيدة المعلنة التي سبق لها أن دمرت دولا أعظم وأكثر أهمية بكثير من «سوريا الأسد»، وجعلت النظام يستعرض عضلاته ضد شعبه ويرسل طائراته لقصفه في اليوم ذاته الذي دمر طيران إسرائيل فيه جبل قاسيون وما يحتويه من صواريخ وذخائر، إبان غارات استمرت أربع ساعات كاملة لم تطلق عليه خلالها طلقة واحدة، أو تصعد طائرة أسدية واحدة إلى السماء لمواجهته أو اعتراضه. ثمة، في العقيدة الأسدية المطبقة اليوم على شعب سوريا، خليط هائل الخطورة، انتحاري وإفنائي، يجمع بين نظرة هتلرية ربطت وجود ألمانيا بوجود الفوهرر وممارسات كمبودية بولبوتية، اعتبرت وجود الشعب متعارضا مع وجود السلطة وحزبها الخلاصي، فتخلصت منه بالجملة والمفرق. في تجربتنا السورية، يقال بصراحة: الأسد أو لا أحد، وهذا ترجمته التي نعيشها منذ نيف وعامين: كي يبقى الأسد، من الضروري القضاء على الشعب السوري. إنها البولبوتية المحلية. أما الهتلرية، فتبدو في قول نائب وزير الخارجية فيصل المقداد: إذا سقط الأسد سقطت سوريا. إنها هتلرية محلية تربط وجود الشعب السوري بوجود شخص هو حاكمه، وليس العكس، فالشعب الذي ليس الأسد حاكمه وضامن وجوده لا يستحق الوجود، أو أنه شعب فيه زوائد ونوافل لا بد من تشذيبها، بإبادته.

في كمبوديا، تم وضع جماجم القتلى على رفوف صفت داخل مخازن. أما في سوريا فالتقنية حاضرة، لذلك يتم نشر صور جثامين القتلى وهي مرصوصة بعضها فوق بعض، أو مكدسة في أماكن ضيقة أو ممددة على الأرض، وقد تحولت إلى جثث لا هوية لها، يجمعها اسم مشترك هو: الإرهابي، أي المواطن الذي ما إن تطلق هذه الصفة عليه حتى يصير جديرا بالقتل ومرشحا له. وبما أنه كثيرا ما يكون خارج متناول اليد، فإن الالتقاء به يجب أن يعني أمرا واحدا: موته وعرض عملية قتله بالصوت والصورة على من بقوا أحياء من مواطنيه، في نوع من علم، وخبر ينبئهم بأن دورهم آت، وأن القاتل سيلتقيهم ذات يوم، سيكون بالتأكيد يوم نهايتهم.

تتصاعد المجازر وتنتشر في أنحاء سوريا، ويعلن عنها كي لا تبقى ذرة شجاعة وكرامة في صدر مواطن سوري. لكن تصاعدها وانتشارها يدلان على فشلها كسياسة رادعة بيد النظام، ولو نجحت لما تصاعدت أو انتشرت، ولما استمرت المقاومة وتصاعدت وانتشرت بدورها. مع ذلك، يتمسك النظام بها، ويمعن في توسيعها، في رهان على كسر إرادة شعب حاول المستحيل خلال عامين ونيف لكسرها، دون جدوى.

لم أجد وصفا أفضل لسلوك النظام السوري من جملة قالها أحد الحكماء: إنه كمن ينتحر خوفا من الموت!

 

About ميشيل كيلو

كاتب ومحلل سياسي سوري معارض لنظام حكم عائلة الأسد الاستبدادي تم سجنه من قبل الطاغية بشار الاسد من ابرز وجوه الثورة السورية المسيحية
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.