متى سمحت للقطيع أن يحتويك ويصهرك تخسر تلك الفردية

sultanagrandfilsمن منا لا يتذكر نساء الحي وهن يتبارين في حياكة كنزات الصوف…
كان لنا جارة اسمها “أم طارق”، وكانت أم طارق مبدعة بكل ما للكلمة من معنى..طالما استهواني ابداعها، وطريقتها في حياكة ذلك الإبداع…
كانت تشتري من نساء الحي مايفيض عن حاجتهن من خيطان الصوف، ولذلك امتلكت كيسا كبيرا يحوي كل أنواع ومختلف ألوان تلك الخيطان!
كان كيسها خليطا من كل ما هبّ ودب…
ليس هذا وحسب، بل كانت تشتري من الجيران كنزات الصوف العتيقة، فتفكها وتضيف عليها خيطان جديدة كي تكسبها متانة ورونقا جديدين!
كانت ـ كعادة نساء الحي في ذلك الزمان ـ تدور من بيت إلى بيت وفي جعبتها سنارتها وخيطانها…
كنت مهوسة بمراقبة لسانها وهو يثرثر وأصابعها وهي تغزل….
لم ارها مرة واحدة تنظر إلى السنارة أو إلى أي خيط تلتقطه يدها…
انطبعت في ذاكرتي رسوماتها على الكنزات، تلك الرسومات التي كانت تثير لدى الناظر شهقته “يا الهي”!
لو كان هناك من يقدّر هذا الإبداع لصارت أم طارق “بيكاسوية” على الطريقة السورية..
ولكن؟؟؟؟
……
عندما أعود بذاكرتي لكيسها المليء بالخيطان المزركشة، خيط من كل حدب وصوب، وكيف كانت تمازج تلك الخيطان بمختلف ألوانها وأنواعها، لتخلق من تنافرها انسجاما بديعا، كلما عدت بذاكرتي إلى ذلك الكيس يخطر ببالي قول الكاتب والشاعر البريطاني
William Plomer:

Creativity is the power to connect the seemingly unconnected
الإبداع هو أن تملك القدرة على الجمع بين الأشياء التي تبدو غير قابلة للجمع…
يبدو أنه كان لوليام بلومر جارة كجارتي….
كنت أختبأ وراء بابنا وفي يدي سنارة صغيرة وبكرة من الصوف بحجم البيضة الصغيرة، وأنا أراقب أنامل أم طارق وأحاول بشق النفس أن أقلدها…
تحولت السنارة مع الزمن إلى قلم، وانطبعت رسومات “أم طارق” فوق صفحاتي…
لا يهم…
الإبداع واحد سواء حكتَ كنزة أم كتبتَ قصيدة…
دقة التركيز، عفوية الصياغة، وجمال النتيجة هي الإبداع، أيا كان ذلك الإبداع….
……
هناك من هو أذكى مني…
هناك من هو أغنى مني…
هناك من هو أبدع مني…
هناك من هو أشهر مني..
هناك من هو أجمل مني…
لكن لا يوجد إطلاقا من هو مثلي…
كلما صنع الكون إنسانا يصنع له قالبا واحدا ولا يكرره…
فالقالب الذي صنعني غير قالبك، والقالب الذي صنعك غير قالبي…
فرديتنا هي الأساس لإبداعنا…
ومتى سمحت للقطيع أن يحتويك ويصهرك تخسر تلك الفردية!
كنت أحاول أن أسرق أنامل أم طارق، فسرقت قدرة تلك الأنامل على أن أُحيك بابداع…
لأم طارق أناملها…
ولي أناملي…
ولك أناملك…
وكل يُبدع بطريقته!
***************************
أصدقائي القرّاء:
مرّت عطلة نهاية الاسبوع بعد أن حولوا بيتي إلى بازار احتفالا بعيد ميلاد حفيدي بنجي الذي صادف يوليوـ تموز ٣١ والذي طغى على عيد ميلاد ابني مازن الذي صادف الأول من آب ـ أغوست…
دائما الأطفال يستعمرون حياتنا….
هم المستقبل ولهم الإبداع….
عدت هذا الصباح إلى ضغوط العمل والحياة…
وفي محاولة للهرب منها سرقت لكم مقطعا من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”
آمل أن تستمعوا به…
مع خالص محبتي

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.